القضاء العشائري في الجزيرة السورية: التزام بالتراث أم ضرورة؟

القضاء العشائري في الجزيرة السورية: التزام بالتراث أم ضرورة؟
فرضت طبيعة حياة البداوة القائمة على الحل والترحال على العشائر العربية، منذ مئات السنين، وضع نظام متكامل لإدارة شؤون حياتهم، فكان لا بد لكل عشيرة من شيخ قائد، وقاضٍ عارف، وفارس شجاع، وشاعر متمكن، وتعزز دور القضاء العشائري أواخر العهد العثماني بشكل ملحوظ عند عشائر بلاد الشام والعراق، بسبب ضعف الدولة المركزية والبعد الجغرافي عن مراكز المدن ودوائر القضاء الرسمية فيها.

أما في الجزيرة السورية، فقد أخذ القضاء العشائري دوراً كبيراً بين العشائر طوال عشرات السنين، حتى انقلاب البعث الذي حاول تهميش دور العشيرة وحارب القضاء العشائري بداية، محاولاً بسلطته فرض القضاء المدني، ولكن مع نهاية الثمانينيات بدأ القضاء العشائري بالتنامي حتى إن بعض القضاة المدنيين أصبحوا يأخذونه بعين الاعتبار، فضلاً عن أن أبناء العشائر تعززت ثقتهم بالقضاء العشائري، رغم كل علّاته، بسبب عدم ثقتهم بقضاء النظام الذي انتشرت فيه المحسوبيات والفساد والبيروقراطية، وتعزز دور هذا القضاء بشكل كبير بعد الثورة السورية وتحرير معظم مناطق الجزيرة السورية وغياب سلطة قضائية فاعلة وموحدة تكون مرجعية، وعلى الرغم من محاولة تنظيم داعش الحد من عمل القضاء العشائري، فقد عاد دور ذلك القضاء اليوم للواجهة من جديد، في ظل رفض معظم العشائر في الجزيرة السورية للنظام القضائي الذي تحاول "قسد" فرضه عليهم.

للقضاء العشائري ركنان أساسيان هما: القاضي "العارفة"، والقوانين التي تنظمه، حيث يتميز العارفة بالفطنة والذكاء والحلم والخبرة والمعرفة الواسعة بأصول عادات العشائر وتقاليدهم، وفي أغلب الأحيان ينتقل هذا المنصب لأكثر أولاد العارفة فطنة، حيث يكون قد درّبه وعلّمه أصول التقاضي العشائري، وهذا العارفة يكون الممثل للسلطة القضائية في العشيرة، مثلما يمثل شيخ العشيرة وأعوانه دور السلطة التنفيذية.

في مرحله التحضّر واستقرار القبائل البدوية، وتوجههم من الرعي إلى الزراعة أو الصناعة والمهن الأخرى واختلاطهم مع أقوام وأعراق مختلفة، بدأت تبرز ظاهرة القضاة المختصين عند العشائر في الجزيرة السورية، فهناك عارف بالنزاعات الزراعية، وهناك عارف بالنزاعات المالية، وهناك عارف بالنزاعات الصناعية، حيث كوّن كل منهم خبرة طويلة في مجاله بما يشبه (شيخ الكار).

خضع القضاء العشائري في مصادر تشريعه لعدة مرتكزات، أهمها العادات والتقاليد أو (العُرف)، كما أنه تأثر بالشريعة الإسلامية بطريقة غير مباشرة، كون الإسلام هو دين أغلب قبائل الجزيرة السورية، مع أن العارفة قد ينأى بنفسه عن الحكم الشرعي تنزيهاً للشريعة، كما يعتمد في حكمه على الاجتهاد الشخصي نتيجة الخبرة المتراكمة وبالقياس كذلك على قضايا مشابهة مرّت على العارفة أو مرت على أحد من عوارف العشائر في المنطقة.

يحكم القاضي "العارفة" بالقوانين المتعارف عليها في فصل وحلّ النزاعات بين أفراد العشيرة الواحدة، أو ربما العشائر المجاورة، ويكون الفصل في النزاع أمام ملأ من الناس ليشهدوا بحكمه، وذلك بهدف إضفاء مصداقية أكبر للحكم وقابلية للتنفيذ، والحكم يكون ملزماً لطرفي النزاع، وهو إلزام ذاتي، كون الطرفين رضيا بهذا العارف واتفقا على التحاكم عنده، كما أنه إلزام اجتماعي من خلال ضغط الأقارب وأبناء العشيرة، وفق قاعدة "الأمر اليوم عليك ربما غداً يكون لك"، ومن يخالف سينبذ حينها من عشيرته وربّما من جميع العشائر، كما أن قرار العارفة يأتي إلزامه من قوة السلطة العشائرية عن طريق تنفيذ شيخ العشيرة ووجهائها لحكم القضاء العشائري بالقوة، وخاصة في أحكام "الجلوة" أي طرد الشخص الجاني من منطقة تواجد العشيرة ورفع الحماية العشائرية عنه، أو أن يأخذ من أمواله بالقوة إن كانت القضية مالية.

متى يتم اللجوء للعارفة أو القاضي العشائري؟

يلجأ الناس إلى القضاء العشائري عند حدوث نزاع ما، يحاول وجهاء العشيرة أو شيخها حله بالتراضي والإصلاح بين الطرفين، فإن لم تثمر جهودهم لجؤوا إلى القضاء العشائري، حيث يتفق طرفا النزاع على عارفة معين يتقاضون لديه، ويكون العارفة حسب اختصاص القضية المتنازع عليها، وتسمى القضية المرفوعة (طلبة)، ويأخذ العارفة أجر المقاضاة من الطرفين، وتسمى  عند بعض العشائر (رزقة) أو (وهبة) كما أن عند البعض يكون الأجر على الذي وقع عليه الحق.

 

تبدأ جلسة المحاكمة العشائرية (الطلبة) بقبول طرفي النزاع بحكم العارفة، أمام جميع الحاضرين من وجهاء وشيوخ عشائر، ثم يحلفان اليمين القضائي على قول الحق، وقد تختلف صيغة اليمين من عارفة لآخر، ومن أشهر جمل القسم: "بهالعود والربّ المعبود وسليمان ابن داود أن أقول الحق"، ثم يدلي المدّعي بحجته، ثم يدافع المدّعى عليه عن نفسه، ثم يطلب القاضي الشهود، ويتم عرض الأدلة والقرائن إن وجدت أمام الناس، وقد لا ينطق القاضي بالحكم في الجلسة الأولى، فيُؤجل الحكم لعدة أيام كي يتسنى للعارفة الاستشارة مع غيره من العوارف، إذا أشكل عليه الأمر، وبعد التبيّن والاستشارة، ينطق القاضي بالحكم وينتهي دوره، ليبدأ التنفيذ.

أما عن اختيار العارفة، فليس شرطاً أن يلجأ المتخاصمان إلى عارفة عشيرتهم، بل لهم الخيرة في اللجوء لمن يريان فيه الحكمة والثقة من عوارف بقية العشائر، وفي الغالب لا يوجد فروق كثيرة بين قوانين العشائر، إذ تتسم هذه القوانين بالشمولية والعموم، لذلك يبرز بشكل متكرر القياس في الأحكام، وغالباً ما يطلب القاضي شخصاً ثالثاً للتدخل في القضية، لضمان تنفيذ الحكم على من وقع عليه الحق، مثلاً في القضايا المالية يسمى (الكفيل) وهو من يتكفل بدفع المستحقات، إن لم يدفعها الذي وقع عليه الحق، ويسمى (الدخل) في قضايا القتل لحماية من وقع عليه الحق من الاعتداء، ويكون هذا الطرف الثالث صاحب شخصية لها نفوذ في العشيرة ووزن.

أهم القضايا التي يتم اللجوء فيها للقضاء العشائري هي الخلافات المالية، وقضايا القتل أو الاعتداء، وقضايا الشرف، ففي قضايا القتل، هناك قتلٌ عمد، وقتلٌ غير عمد، حيث يتم دفع دية لأهل المقتول في حال القتل غير العمد، وهي مبلغ مالي متفق عليه في عرف العشائر، وقد تختلف قيمة الدية بين الذكر والأنثى، فالذكر عند عشائر طي في القامشلي ديته ضعف دية الأنثى، وهذا الحكم له أصل حتى لدى بعض فقهاء الشريعة، وذلك لأهمية الرجل سابقاً في حماية العشيرة وأسرته وأهميته بالنفقة على الأسرة وضياعها من بعده.

في حال القتل العمد، إذا أخذ أهل المقتول بثأرهم غالباً ما تنتهي بالصلح، ويقع الحق على من زاد وأسرف في القتل، وإن لم يحصل الثأر واتفقوا على اللجوء إلى القضاء العشائري، يتم الحكم بإجلاء الجاني، إضافة إلى دفعه دية تقدر بضعفي مبلغ القتل غير العمد كحد أدنى، وقد يحدث أحياناً صلح عشائري، ويتم العفو عن أمر إجلاء الجاني، لكن إن حصل صلح ثم تلاه اعتداء وقتل؛ تصبح الدية أربعة أضعاف (المربعة)، وكذلك قتل المرأة الحامل تكون الدية فيها مضاعفة عنها وعن جنينها.

أما قضايا الشرف، فهي قضايا خطيرة، وقد تجر الويلات على أبناء العشيرة، ففي حالة الخطيفة برضى الطرفين (الشاب والبنت)، إما أن يتفق أهل الشاب والبنت على قتل كل طرف لولده، أو يقوم أهل الفتاة بقتلها وقتل الشاب، مع عدم أحقية أهله بالمطالبه بدمه، وعند بعض العشائر، يكتفى عبر القاضي بأخذ مهر كامل يدفع لشيخ العشيرة كغرامة مالية، أما إذا كانت القضية اغتصاب، فإنه يسمّى الجاني (أدغم) ويحكم القاضي بقتله وإجلاء أهله من العشيرة.

كما تختلف الأحكام في قضايا عطب الجسد، فلكل نوع ديته المتفق عليها، فدية فقء العين تختلف عن دية كسر الرِّجل أو اليد، أما التسبب بالشلل، فيتم حالياً عرض الأمر على لجنة طبية تحدد نسبة الإعاقة، ثم يتم تحديد الدية، والإعاقات الجنسية ديتها دية رجل كاملة.

ربما يعتبر بعض دارسي علم الاجتماع القضاء العشائري أحد إشكاليات ما قبل الدولة، ويجب الحد منه؛ لتعزيز الحكم المدني في الدولة الحديثة، ولكن يجب ألا ننكر أن هذا القضاء كان له دور مهم في الحفاظ على أمن المجتمع وسلامته، وساهم في تثبيت السلم الأهلي بين أبناء العشائر وكذلك بين العشائر وبقية مكونات المجتمع السوري من مختلف الأعراق والقوميات وخاصة في الجزيرة السورية.

التعليقات (1)

    سام

    ·منذ 3 سنوات 11 شهر
    جزيل الشكر للقناة أورينت المنبر الحر على اهتمامها بعادات وتراث قبائل الجزيره السوريه ..نتابع قناتكم للكم محبين كثر هنا تحيه للكم من الحسكه
1

الأكثر قراءة

💡 أهم المواضيع

✨ أهم التصنيفات