الحكواتي السوري .. سيرة بني أسد ومخلوف

انتشرت في الآونة الأخيرة تسجيلات ومنشورات على وسائل التوصل الاجتماعي تدّعي معرفة خبايا الأمور ومستقبل الوضع في سوريا من خلال مصادر خفية سرية من رتبة رئيس أمريكي أو أوروبي أو وزير هناك نسبة لأهمية تلك الأخبار، أخبار لا تستند إلى قراءة واقعية للمشهد السياسي وتوازنات القوى الإقليمية والدولية بل تناقض مع حقائق نعرفها جيداً .. ظاهرة ذكرتني بقصص حكواتي المقهى الذي يسرد قصص التاريخ بطريقته التي تضيع فيها الحقائق القليلة وسط سيلٍ من القصص المبتدعة في ظاهرة رمضانية بات من الواضح أن الخيال الخصب وشره الظهور جعلها تمتد طوال أعوام الثورة والأخيرة منها خاصة، ولنتذكر ما قاله الحكواتية منذ سنوات عن تخلي روسيا "الصديقة" (كما صورها بعضهم يومها) عن نظام أسد والصدام مع إيران، وغزلهم بالمعارض الفذ "لؤي حسين" والانتقال السياسي في سوريا ومستقبل إدلب ودخول تركيا إلى حلب، ولنقارن بالواقع اليوم لنرى كم يعتمد هؤلاء الحكواتية على ذاكرة السمك لدى "جمهورهم" الذي ينسى بسرعة كذبة الشهر الماضي مستمتعاً بكذبة اليوم، وإن غدا لناظره قريب في آخر الحكايا التي أرجو أن يدرك من صدقها أنه يتعامل مع حكواتية لا مع سياسيين وإعلاميين محترفين.

لن أتناول المواضيع السابقة هنا ولا مهرجانات طق الحنك المرافق لحكايا اليوم والأمس ونتائجها الوحيدة التي اقتصرت على الهرولة لتأسيس تجمعات وإصدار مئات  بيانات قص/لصق صدر منها المئات خلال السنوات السابقة وتقبع اليوم في سلال المهملات التي تستحق وهي تصور الأمر في سوريا على أنه بيان فضفاض من قبيل "حبوا بعض" في دولة إفلاطونية، لكن سأعرض هنا الوقائع الخاصة بخلاف أسد/مخلوف لأبني عليها استنتاجات منطقية تستند لها لا مكان فيها للخيال الخصب الذي أتركه لغيري، لا لأني عاجز عن تأليف الحكايا بل لأني أترفع عن هذا الفعل الرخيص في هكذا موضع سياسي لا يجوز فيه التلاعب بمشاعر الناس ولا تبنى عليه سياسات مصيرية، فللحكايا والدراما مكانها.

سأعرض هنا بعض الحقائق الرئيسية للخلاف بين أسد ومخلوف، فباستثناء قلة قرؤوا الحدث بمنطق عميق؛ انضم للحكواتية القدامى سيل من الحكواتية الجدد باسم "محللين" حلق خيالهم الخصب في قراءة خلاف العائلة الحاكمة في سوريا بغض النظر عن هشاشة الأرضية التي تستند لها هذه القراءات وعن الوقائع التي يتم تجاهلها لتصبح كما السيرة الشعبية "عنترة وعبد جنزير"، بينما الحقائق والوقائع تقول:

1. محمد مخلوف (خال أسد) وابنه رامي وإخوته مجرد مديري أعمال لا يملكون أياً من هذه الشركات التي تسيطر على معظم الاقتصاد السوري في رحلة علاقة بدأت مع تولي صهره حافظ السلطة، بل الملكية لعائلة حافظ أسد (حافظ وأبناؤه)، لكن من الواضح أن رامي مخلوف (رأس العائلة اليوم) أنساه الزمن هذه المعادلة. 

2. لآل محمد مخلوف من هذه الثروة (كمديري أعمال) الفتات الذي يسمح به الأصيل للوكيل، وهو فتات بمئات ملايين الدولارات كما يراه الأصيل وليس بعشرات مليارات الدولارات التي يعتقد الوكيل بأحقيته فيها.

3. كانت والدة أسد "أنيسة مخلوف" خالة رامي وشقيقة محمد تلعب دور صمام الأمان لآل مخلوف، وبرحيلها اختلف الوضع، أمر لم يدركه آل مخلوف الذين أنساهم الزمن حقائق عن طبيعة تفكير آل حافظ أسد التي لا تقيم وزناً لأي رابطة مقابل قاعدتين: الحفاظ على السلطة بأي ثمن، وكنز المال بشراهة جائع بمعدة مثقوبة لا تفرط بدولار واحد ولو كان ينقذ روحاً. 

4. حافظ وعائلته يحملون صفة البخل والحرص على المال العائدة إلى بيئة وتربية منزلية، صفة يمكن ملاحظتها فيما  يقدمه أسد لأتباعه الذين قتلوا في معركة الحفاظ على سلطته، وما أكثر الأمثلة عن دناءة نفس تصرف بها أفراد هذه العائلة بدءاً من مبالغ قد لا تتعدى مئة دولار أخذوها من حق فقير في نزاع في الشارع، وهو أمر شهدته منهم ومن أتباعهم في مواضع عديدة، فمثلاً رأيت بأم عيني كيف كان ماهر أسد يراقب عنصره يعتدي على شخص بسيط ليسلبه حقه عنوةً، لكن صفة البخل والحرص والجشع لأي مال حرام أو حلال، قليل أو كثير، ليست صفة آل حافظ أسد فقط بل صفة يحملها آل محمد مخلوف المعروفون بهذه الصفات، وكلنا نتذكر كيف كافأ رامي مدير أعماله "نادر قلعي" الذي كان بمثابة الأستاذ والمرشد والعبد والكلب الذي يشتم لصاحبه فرص الفساد، ليرميه "السيد" في النهاية بعد أن أجبره على التنازل عن كل ثروته الخاصة تاركاً له الفتات.

5. يواجه مخلوف اليوم ما مارسه مع أجيره نادر قلعي غير مدركٍ أن لا فرق في الحالتين قياساً لطريقة تفكير وتربية آل حافظ أسد، ناهيك عن نسيانه ما حصل بين حافظ ورفعت منذ أربعة عقود مع فارق كبير حيث كان رفعت يتمتع بسلطة عسكرية معتبرة، ويومها استطاع رفعت الحصول على المال وترك السلطة لأخيه مرغماً ليرث حافظ أتباعه من "سرايا الدفاع" ويؤسس منهم "الحرس الجمهوري" لتظل الطائفة وسراياها راضين مع أن معلمهم بات في المنفى.

6. جزء مهم من الضغط الذي جرى وسيجري على مخلوف لا يهدف لإزاحته فقط فذلك منجز، ولا لمحاربة الفساد فمعلمه الأسدي هو الرأس، بل ليستعيد "المعلم" عشرات مليارات الدولارات التي وزعها مخلوف في الخارج بطرق وأسماء وشركات عديدة لا يعلمها إلا هو ومديروه الذين يتم اعتقالهم فقط للتحقيق معهم لهذا الهدف، أموالٌ ستعود لملكية آل حافظ أسد بشكل مباشر عبر بنوك سويسرية، أو سيديرها طاقم جديد من اللصوص الأجراء ولن ترى منها الطائفة الغاضبة شيئاً .. أما الكلام عن أن ذلك للتحايل على العقوبات الأمريكية ففيه استغباء كثير لعقولنا قبل الأمريكيين والأوربيين. 

7. تحريض مخلوف للطائفة العلوية يتجاهل أن رفعت الأكثر شعبية بين العلويين، والمالك يومها لقوة عسكرية معتبرة اضطر في النهاية للتنازل عن السلطة، فأين منه رامي الذي لا يملك تقريباً من هذا شيئاً، أما الأتباع من الطائفة فلن يتغير عليهم شيء إلا وجه "الوكيل الجديد" الذي سيسعدون بفتاته مقابل أرواحهم وطائفيتهم.

8. لعب رامي على وتر الطائفة العلوية ملمحاً وأحياناً بشكل واضح جداً إلى أنه "راعي الطائفة مالياً" وحامي سلطتها الاقتصادية محذراً من انتقال هذه الثروة والسلطة الاقتصادية وبالتالي السياسية للسنة عبر زوجة أسد "أسماء الأخرس"، وهو أمر نجح فيه مخلوف إلى حد كبير حيث صدّقت الطائفة أن هذا المال لها، أمر رأينا مظاهره في ردود أفعال بعضهم ومنهم على سبيل المثال المعارض الفذ "لؤي حسين" الذي يتشرف بصداقته واجهات المعارضة منذ بدأت الثورة، ناهيك عن آخرين كانوا واضحين في قلقهم من أن يؤدي الخلاف إلى إضعاف سلطة الطائفة.

9. بنية النظام الطائفية واندماج الطائفة العلوية في مشروعه لا تسمح بانتقال السلطة الاقتصادية لآل الأخرس السنة، وهو أمر يشارك حرص الطائفة فيه آل حافظ أسد، لذلك فإن تصوير الصراع على أنه انتصار لأسماء الأخرس يصبح مجرد "حكي" لا طائل من إضاعة الوقت بتفنيده وأتركه لطقيقة الحنك.

10. البديل عن آل مخلوف سيكون عدداً من الوكلاء الجدد إلى جانب القدامى أمثال نزار أسعد وسمير حسن وأضرابهم، وسيكون للعلويين حصة معتبرة منهم كحال القدامى، وهو أمر سيرضي الطائفة المسكينة الهلعة على مستقبلها والأموال المنهوبة باسمها ورعايتها وعلى يدها، ونرجو أن لا تحتاج كعادتها إلى تطمينات إضافية متمثلة بمجزرة بحق السنة الذين تخشى بطشهم، فتقتلهم منذ نصف قرن .. بالمناسبة، اسألوا معتقلا سيخرج بعد أشهر وسيروي لكم كم عذبوه في هذه الأيام بسبب جريمة "أسماء الأخرس" التي لصق أسد الأمر بها، ففي هذا النظام كل إشاعة وراءها النظام نفسه.

11. ردود الأفعال "الطائفية" بامتياز لغالبية على ما يبدو من الطائفة (وأرجو أن أكون مخطئاً في تقدير النسبة)، ردود لم يكن يعنيها نهاية مخلوف ولا كليشة "محاربة الفساد" بل تخوفها من فقدان العلويين لبعض السلطة، أمر يثير الاستغراب إن لم يكن الاشمئزاز من إدراكنا أن هؤلاء لا يعنيهم بناء وطن، ناهيك عن أن طائفيتهم أعمت أبصارهم فجعلتهم يتوهمون أنهم كطائفة أصحاب هذه الثروة، بينما كان وما زال وسيبقى 95% منهم فقراء ووقوداً لـ 5% جمعوا ثروتهم من دماء السوريين على الطرفين المتحاربين سنة وعلويين.

12. رفع المظلة عن رامي مخلوف لا يعني مطلقاً عودة هذه الثروة والشركات التي قامت على البلطجة والفساد والاحتكار لملكية الدولة وتغيير في شره رأس السلطة لابتلاع البلاد .. النصف مليار دولار التي ستدفعها شركات "أسد بإدارة مخلوف" ليست إلا مبلغاً قررت عائلة أسد أن تعيده لخزينة الدولة لتصرف منه رواتب موظفيها بعد أن شحت الموارد الإيرانية وذلك لتسكت الاحتجاج المتصاعد نتيجة انهيار اقتصادي شامل صنعه النظام الأسدي بحربه على السوريين وتدمير سوريا حجراً وبشراً واقتصاداً وصناعةً ومجتمعاً وتعليماً وإنساناً عاملاً، أمرٌ سيزداد سوءاً مع تطبيق قانون سيزر وغياب حلم "إعادة الإعمار"، لذلك كانت هذه الحركة: لصق الفساد بمخلوف وإسكات الجوعى بالفتات وإيهامهم أن الكثير سيتغير بمثل هذه "الحركات".

13. تصوير صراع أسد مخلوف على أنه خلاف روسي يريد التخلص من أسد وإخراج إيران من سوريا مقابل إيراني يدعم أسد ويصطدم مع روسيا، كلام لا يستند لمنطق ويردده الحكواتية منذ سنوات .. الحلف الأسدي الإيراني الروسي ثلاثي القوائم ينهار بزوال أحد القوائم، الروس دون المال الإيراني ومرتزقة إيران سينهارون، وبدون الغطاء الجوي الروسي لن يبقى شيء لأسد وإيران، أما أسد فهو من يملك الشرعية الدولية التي فشلت المعارضة في الحصول عليها كما أنه وطائفته موالون لمشروعهم الطائفي أولاً وأخيراً في أي موقع عسكري أو أمني يحتلونه، لا لإيران أو روسيا كما يصور الحكواتية. 

14. الوجود الإيراني في سوريا لا يزول ببيان ولا بقرار إداري بل يحتاج قراراً أمريكياً غير متوفر، وعمل على الأرض لا ملامح له، وتحالف أمريكي مع الثورة السورية لا نرى منه شيئاً، الإسرائيلي فعاشق لنظام أسد ومحتاج لإيران كعدو وما يفعلونه هو رسم خطوطهم الحمر في سوريا بطيرانهم الحربي مع تصريحات خلبية غير رسمية لا تحمل قيمة سياسية يجري تسريبها للتلاعب بالسوريين، أما أمريكا فلم تحسم أمرها في ضرب إيران بشكل مؤلم كما لا يحتل الملف السوري عندها حيزاً ولو في منام رئيسها، أما باقي اللاعبين فثانويون.

15. أخيراً، ما يجري فيلم هندي لا قيمة له في ميزان السياسة وسينتهي بمبلغ "محرز" يخرج به آل مخلوف دون أن يتغير شيء، النظام سيبقى ضعيفاً بسبب انهياره اقتصادياً وانعدام إمكانية بناء دولة بسواعد ميليشيات الجيش وعشرات الأسماء لميليشيات المرتزقة الذين يتقنون القتل لا البناء والعمل، وفي وغياب كل سوري عامل خسرته سوريا وقد قحطت من العقول والأخلاق التي غادرت إلى منافيها إلى حين، المال والفساد وشركات "أسد" الاحتكارية ستستمر، أما الطائفة فستعود سعيدة بعد بقاء الثروة في أيدي الطائفة (كما يتوهمون)، ستعود للانغماس في معركتها بوجه سوريا الأرض والوطن والشعب بانتظار لحظة انقلاب داخل الطائفة تصفي القتلة وتمد يدها قبل فوات الأوان لباقي السوريين معتذرة متنازلة عما لا تستحق من سلطة، فالنظام وإن بقي لفترة سينتهي في خضم الصراعات الدولية والإقليمية والأهم بسبب استمرار الثورة السورية  المسلحة التي ستستعيد زمام المبادرة وهي قادرة على ذلك وسط فرص والتناقضات والصراعات الدولية والإقليمية التي باتت تلعب لصالحها.