ندم مبّكر!
هذا ما كان يردده دائما أحد المشاركين (والذي قام بدور المراقبة كما أذكر) واسمه محمد الحرش لكن عرف بلقبه "أبو صياح" من حي الميدان الدمشقي، وكان قد فر إلى السعودية بعد الحادثة وبقي هناك من يومها لكنه عاد إلى سوريا زائرا في اوائل تسعينيات القرن الماضي حيث توفي أوائل عام 1996.
عرفت أبا صياح الحرش شخصيا منذ طفولتي في السعودية وتواصلت معه بضع مرات في دمشق، حيث قضيت فترة طويلة في السعودية مع والدي (المحامي والقاضي) الذي حمل احتراما وتأييدا للشهبندر ... وقد أخبرني والدي مرارا عن ندم "أبو صياح" المبكر على فعلته ورفاقه وسذاجتهم وضحالتهم وانسياقهم للتحريض الذي أطلقه بعض المشايخ المحسوبين على الكتلة الوطنية التي شعر بعض قادتها بخطر المنافسة بعد عودة الشهبندر من منفاه، فغادروا إلى العراق حتى انتهت المحاكمة، ولم يكن يدور بخلد أحد من قادة الكتلة الوطنية هؤلاء أو بخلد بعض المشايخ التابعين لهم الذين اتهموا الشهبندر بالانحراف لتشويه صورته أمام الجمهور، في إطار تنافس سياسي دفعهم له قادة الكتلة الوطنية، لم يدر بخلدهم أن يصل الأمر إلى هذا الحد باندفاع بضعة أشخاص لاغتياله، وهنا تكمن القطبة المخفية في من دفع المنفذين السذّج لاتخاذ قرار الاغتيال مستغلا حملة التحريض بحق الشهبندر (الذي كان معاديا للفرنسيين مقابل عدم عدائه لمنافسيهم البريطانيين)، وهذه القطبة المخفية عن المحرض النهائي على الاغتيال هو ربما ما أخفاه الأرشيف الفرنسي حتى الآن والذي كانت لديه كل الخيوط التي لم يحط بها مجتمعة حتى من نفذوا الاغتيال بسذاجة ... ومن هنا أيضاً وبالمناسبة، لا يصح صيد البعض في الماء العكر، ليسحبوا التطرف تاريخيا على الدمشقيين ومن ثم السوريين وصولا لاتهام عموم المسلمين والدين الإسلامي.
علاقات لخدمة الآخرين!
أبدى أبو صياح الحرش دائما ومبكرا ندمه على ما شارك به مقرا بسذاجته يومها، لم يعرف التطرف لا قبلها ولا بعدها بل كان يمثل لأكثر من سبعة قرون عاشها بعد الحادثة التي مثلت لحظة اندفاع شباب ساذجة كما سمعت منه شخصيا، كان يمثل لدى الجالية السورية في السعودية شخصية تحمل تدينا إسلاميا شعبيا أكثر انفتاحا من كثير من العامة، منتقدا التطرف والإكراه حتى على المستوى الشعبي التقليدي الذي قد يمارسه الآباء والأزواج بحق نسائهم، وكم لامست (بإشارة رمزية) عصاة الخيزران التي يحملها دائماً رجالا أخطأوا بحق بعضهم أو بحق زوجاتهم.
كان أبو صياح الحرش قصيراً نحيلاً لا تميزه قوة، غير شره لطعام أو رفاهية، عاش عمره في غرفتين قرب مدخل قصر د. رشاد فرعون في الرياض الذي تكفل بحاجاته الحياتية البسيطة، غرفة كانت للنوم وأخرى مضافة، لم يمتلك يوماً سيارة، اشترى له أقرباؤه بيتاً في دمشق كان في البناء المجاور لبيتي. كان بمثابة مضافة عاش فيها سنواته الأخيرة التي قضاها ما بين الرياض ودمشق، لم يعرف سياحة ولم يتناول طعاماً يوما وحده، بل شارك طعامه أو شاركه الآخرون طعامهم مهما كان بسيطاً ... كان له فضل على كثير من السوريين (ووالدي وعائلتي منهم) كآخرين مثله كانوا جنوداً مجهولين لم يقصروا يوماً بتقديم كل عون للسوريين في السعودية أمثال "د. رشاد فرعون" و"د. سعيد رباح" الذي لا ننسى فضلهما.
ظل أبو صياح الحرش "عقيد" السوريين في السعودية وكلمته لا ترد غالباً، يعودون إليه لفض مشاكلهم الخاصة والعامة، ويتوسط لقضاء حوائجهم بحكم عيشه في كنف "رشاد فرعون" السوري الذي كان مستشاراً لعدد من ملوك السعودية، وهي علاقات استعملها أبو صياح الحرش فقط لخدمة الآخرين ولم يستغلها لحظة لبناء مجد مالي وقد كان الطريق معبدا، فعاش الكفاف حتى وفاته حيث خرجت له جنازة مهيبة في دمشق، ضمت ما يقارب عشرة آلاف دمشقي، متأكد أنهم جميعا كانوا يحملون كل الاحترام للشهبندر الذي ظل أبو صياح يُبدي ندمه على فعلته بحقه حتى يوم وفاته.
ضحية وشريك للجناة!
مفارقة ملفتة معبرة أن يجتمع وجهان لدمشق وللوطنية السورية والمجتمع الشامي في قضية كهذه، ضحية وشريك للجناة، لكنها دمشق الولادة التي ضمت ضريح الشهبندر إلى جانب صلاح الدين، وضريح الحرش في مقبرة جمعته مع نصف رجالات التاريخ والمجتمع والسياسة عبر التاريخ على مستوى العرب والمسلمين، ليجتمع فيها ابن تيمية مع ابن عربي، ونزار قباني مع علي الطنطاوي، ومئات ممن صنعوا ألوان الطيف على مستوى العرب والعالم الإسلامي والإنسانية.
رحم الله د. عبد الرحمن الشهبندر عقل الثورة السورية وأبو السياسة الوطنية السورية والرمز المبكر لليبرالية الوطنية السورية المنسجمة مع ثقافتها العربية الإسلامية، رحمه الله كم عانى من تهميش واستبعاد من طامحين وخائفين من شخصيته وبوصلته التي لم تته ... ورحم الله "أبو صياح الحرش" الشاب المندفع النادم على فعلته التي نفذها بضمير ساذج تلاعبت به سياسات خبيثة ليمثل هذا النادم لاحقاً نموذج "الزكرت" و"العقيد" الشامي الحقيقي الذي عاش ليخدم الآخرين دون مقابل ودون طموح مالي أو سياسي، ممثلاً ذلك الوجه الآخر للتدين الإسلامي الشعبي الشامي المعتدل الخصب.
فواز تللو
الرئيس التنفيذي لمركز آفاق مشرقية للدراسات
برلين – ألمانيا
التعليقات (0)