التدويل كبديل للمفاوضات الفلسطينية - الإسرائيلية

التدويل كبديل للمفاوضات الفلسطينية - الإسرائيلية
منذ البداية كان واضحاً أن عملية المفاوضات الفلسطينية - الإسرائيلية، عبثية ومضلّلة ومجحفة، وليس ثمة نهاية واضحة أو زمنية لها، ذلك أن إسرائيل، بحكم طبيعتها كدولة استعمارية واستيطانية وعنصرية وأيديولوجية، لا يمكن أن تقدم للفلسطينيين شيئاً، برضاها، بخاصة أنها الطرف الأقوى، من حيث موازين القوى، والقدرة على السيطرة، وتوفر المعطيات الدولية والإقليمية المواتية لها.

إضافة إلى ما تقدم فإن مشكلة الفلسطينيين في هذه العملية، أيضاً، أنهم دخلوها وهم يفتقدون لأية أوراق قوة، عدا الحق وعدالة القضية واستعدادهم للتضحية وزخم الانتفاضة الأولى (1987-1993)، التي جلبت لهم تعاطفاً دولياً واسعاً، حينها، لكن كل ذلك لا يكفي، كما بيّنت التجربة وبثمن باهظ، وبعد أكثر من ربع قرن على هذه العملية، التي بدأت منذ مطلع التسعينيات.

بيد أن ما ينبغي التذكير به هنا أن مشكلة الفلسطينيين، لم تتوقّف على ما ذكرناه، فقط، إذ انخرطت قيادتهم في تلك المفاوضات من دون التسلّح، أو من دون تحصين موقفها، بأي مرجعية دولية، تتمثّل بالقرارات الصادرة عن مجلس الأمن الدولي وعن الجمعية العمومية للأمم المتحدة، هذا أولاً. ثانياً، إن هذه القيادة راهنت على العملية التفاوضية كخيار وحيد، من دون الانتباه إلى ضرورة اعتماد خيارات أخرى، بديلة، أو موازية. ثالثاً، أن تلك المراهنة انطوت، أيضاً، على توهّم نزاهة الولايات المتحدة، في ضمانها أو في رعايتها للعملية التفاوضية.

الآن، وبعدما حصل ما حصل، بخصوص تقويض خيار المفاوضة والتسوية، وانسداد ما يعرف بحلّ الدولتين، وفقاً لاتفاق أوسلو (1993)، بحكم تهرّب إسرائيل من استحقاقاتها في هذا الاتفاق، ورفضها تقديم المطلوب منها لتسيير عجلة التسوية، وإمعانها في استيطان وتهويد وتغيير معالم الأراضي المحتلة، وبواقع تملّص الولايات المتحدة من مكانتها كراع نزيه لهذه العملية، بخاصة بعدم ضغطها على إسرائيل لتنفيذ ما هو مطلوب منها، واستهتارها بالقرارات الدولية، ما تمثل أخيراً باعترافها بالقدس عاصمة موحدة لإسرائيل ونقل السفارة الأمريكية إليها، بات من الملح البحث عن خيارات أخرى للفلسطينيين.

في هذا الإطار، ليس ثمة مسؤولية في أي حديث عن استعادة خيار الكفاح المسلح، أو حتى خيار انتفاضة ثالثة على غرار الانتفاضة الثانية المسلحة (وليس الأولى)، يصدر عن هذه الجهة أو تلك من الفصائل السائدة، لأن هكذا حديث ينطوي على التخيّلات والتوهمات، كما يصدر من روح شعاراتية وإرادوية، ليس لها أي علاقة بالإمكانات، أو بالواقع، أو بالمعطيات الدولية والإقليمية السائدة، لا سيما مع هذا الخراب الدولتي والمجتمعي في المشرق العربي، لأن هكذا خيار قد يفضي إلى عكس المتوخّى منه، إي إلى خدمة إسرائيل، وتسهيل سياساتها المتعلقة بالاستيطان ومصادرة الأراضي وتغيير الوضع الديمغرافي، ولاسيما في القدس، والتضييق على الفلسطينيين.

على ذلك ثمة أمام القيادة الفلسطينية ثلاثة خيارات، على ثلاثة أصعدة، أولها، إحالة قضية فلسطين إلى الأمم المتحدة، بكل هيئاتها، لوضعها أمام مسؤولياتها بخصوص القرارات الصادرة عنها. ومعنى ذلك أن الفلسطينيين لا يحتاجون لمفاوضات مع إسرائيل، إلا في ما يخص الجوانب الجزئية أو الإجرائية، أما في شأن قضايا تقرير المصير والحق في إقامة دولة في الأراضي المحتلة (1967)، بما فيها في القدس الشرقية، وإنهاء الاستيطان والاحتلال، فهذه كلها ثمة قرارات واضحة فيها، حتى من مجلس الأمن الدولي.

طبعاً، من السذاجة الاعتقاد أن هكذا خيار يعني أن المنظمة الدولية ستحلّ هذه القضية، التي لها من العمر سبعة عقود بعصا سحرية، وإنما القصد منه، فقط، إعفاء القيادة من مغبّة الانخراط في مسرحية عبثية اسمها المفاوضات، والتسهيل عليها صدّ الضغط الخارجي بهذا الخصوص، ووضع إسرائيل في مواجهة العالم، تماماً كما حصل أخيراً في شأن القرار الأميركي في قضية القدس.

الفكرة هنا، بصورة أكثر تحديداً، أن القيادة الفلسطينية معنية باستثمار ما حدث على الصعيد الدولي، بتحميل أمر القضية الفلسطينية وأمر المفاوضة للأمم المتحدة، إذ لم يسبق أن لاقت القضية الفلسطينية تعاطفاً دولياً، مثل هذه المرة، لا سيما أن ما حصل كان في مواجهة الولايات المتحدة الأميركية بالذات، وليس في مواجهة إسرائيل فقط، هذا أولاً. وثانياً، أن ما حصل، بشأن القدس، لم يتوقف على الجمعية العامة وانما حصل قبل ذلك في مجلس الأمن الدولي، إذ كان ثمة 14 عضوا في مواجهة الولايات المتحدة، التي اضطرت لاستخدام حق النقض («الفيتو»)، ما بيّن مدى العزلة التي وقعت فيها. وثالثاً، أنه في هذه المرة صوتت كل الدول الأعضاء في مجلس الأمن الدولي، تأييداً للحق الفلسطيني في القدس الشرقية، وحتى كندا والمكسيك جارتا الولايات المتحدة امتنعتا عن التصويت، أي لم تؤيدا الموقف الأميركي (ومعهما استراليا).

من ناحية أخرى، فإن هذه الفكرة تتضمن تصحيح لخطأ سابق كانت القيادة الفلسطينية وقعت به، وانتبهت له متأخّرة، تمثّل بعدم استنادها إلى قرارات المجتمع الدولي، للتعويض عن النقص في القوى والمعطيات في مفاوضتها إسرائيل. ومعلوم أن إسرائيل ذاتها تم الاعتراف بها كدولة من قبل الجمعية العامة للأمم المتحدة، وأن هذا الاعتراف جاء مشروطاً بقبولها القرارين: 181 (الخاص بالتقسيم،1947)، و194 (الخاص بحق العودة للاجئين 1949)، علماً أن القرار الأول، بغض النظر عن الجدل بشأنه، لم يتحدث فقط عن دولتين فلسطينية ويهودية، ولكنه تحدث أيضاً عن اتحاد اقتصادي بين الدولتين، وعن حقوق الفلسطينيين واليهود في كل من الدولتين، كما نص على وضع خاص لمدنية القدس تحت إدارة دولية. وحتى إذا تجاوزنا ذلك، فثمة القرار 242 الصادر عن مجلس الأمن الدولي والقاضي بانسحاب إسرائيل من الأراضي التي احتلتها عام 1967، كما ثمة عشرات القرارات الدولية، عن مجلس الأمن وعن الجمعية العامة، وعن الهيئات الأممية الفرعية المختصة، التي تتحدث عن حق تقرير المصير، وعدم جواز احتلال أراضي الغير بالقوة، وعدم تغيير أوضاع الأراضي الخاضعة للاحتلال، ولا شرعية الاستيطان، أو تهويد القدس... الخ.

هذا كله يؤكد أن لا داعي للمفاوضات، أصلاً، لأن وظيفتها، فقط، إرغام الطرف الفلسطيني على تقديم تنازلات لإسرائيل، على ما أثبتت التجربة، وأنه ليس ثمة أي داع للمفاوضات، لأن قرارات المجتمع الدولي لم تترك شيئاً لم تقله بخصوص مختلف جوانب القضية الفلسطينية.

وبخصوص الخيار الثاني، في شأن ما يمكن أن تفعله القيادة الفلسطينية، في ظروفها الراهنة، فيتمثل بضرورة حسم هذه القيادة موقفها حول إعادة بناء البيت الفلسطيني، ولاسيما إعادة بناء الكيانات السياسية، أي المنظمة والسلطة والفصائل، على أسس جديدة، تمكّن من استعادة فاعليتها وحيويتها وصدقيتها عند الفلسطينيين في الداخل والخارج، باعتباره حركة تحرر وطني، وذلك بعد أن دبّت فيها العطالة، وأفلت روحها النضالية، بنتيجة تحولها إلى سلطة تحت الاحتلال، إذ أن هذا هو الخيار المتاح في يد الفلسطينيين، اليوم، وبعد إخفاق خياري المفاوضة والعمل المسلح. ومعلوم أن هذا الخيار تم ركنه جانباً، بواقع تآكل شرعية الكيانات الفلسطينية وتهميش منظمة التحرير، التي لم يجتمع مجلسها الوطني منذ أكثر من عقدين، على رغم أن هذا الوضع بالذات أسهم في إضعاف الكيانات الفلسطينية، وفي توسيع الفجوة بينها وبين الفلسطينيين، في كافة أماكن تواجدهم، كما أنهأسهم في إضعاف مكانة القيادة الفلسطينية على الصعيدين العربي والدولي.

الخيار الثالث، يبنى على استعادة الحركة الوطنية الفلسطينية لطابعها كحركة تحرر وطني، وهذا يتطلب وقف علاقات التنسيق الأمني مع الاحتلال، وإيجاد المعطيات التي تسمح بالانتهاء من علاقات التبعية الاقتصادية لإسرائيل وتقليل الاعتمادية على الخارج، وضمن ذلك تغيير وظائف السلطة، بحيث يتركز همّها على خدمة شعبها وإدارة شؤونه، وتعزيز صموده. كما يتطلب ذلك احتضان أشكال الكفاح الشعبي التي يخوضها الفلسطينيون في الأراضي المحتلة ضد الاستيطان ومصادرة الأراضي وبناء الجدار الفاصل وتهويد القدس، لأنه لا يمكن الضغط على إسرائيل، والإسرائيليين، في ظل واقع من احتلال مريح ومربح. وطبيعي أن ذلك يتطلب، أيضاً، إعادة الاعتبار للرواية الفلسطينية التي تأسست على النكبة، ومشكلة اللاجئين، نتيجة قيام إسرائيل كدولة استعمارية استيطانية وعنصرية وأيدلوجية، وصوغ رؤية سياسية تستنهض الشعب الفلسطيني وتعزز هويته، ومشاعره كشعب، باستعادة التطابق بين قضية فلسطين وشعب فلسطين وجغرافية فلسطين، سيما أن إسرائيل ذاتها تصارع على كل فلسطين.

هذه فرصة القيادة الفلسطينية، والحركة الوطنية، التي استعادت، في هذه الظروف، بعضاً من روحها كحركة تحرر وطني ومن شرعيتها كممثل للفلسطينيين، إضافة إلى استعادتها مكانتها كقضية نبيلة وعادلة في العالم، لكن ذلك يحتاج من القيادة المعنية البناء عليه كي يمكن استثماره.

التعليقات (0)

    0

    الأكثر قراءة

    💡 أهم المواضيع

    ✨ أهم التصنيفات