حكايات لا تنسى (1): وانهار الأب باكياً "استر علينا منشان الله"

حكايات لا تنسى (1): وانهار الأب باكياً "استر علينا منشان الله"
لأنه كان شاهداً على حكايا الثورة من داخلها... في قلب الوجع.. وفي قلب الناس البسطاء الذين ذاقوا الألم وداروه بصمت، يفتح (زيد بن رغبان) ذاكرته لأورينت نت، في مقالات حصرية.. ليتحدث عن وقائع لأول مرة!

مع بداية حقبتنا وانهيار دستور الخوف، بدأت الشوارع تخلو من مارّتها حين تباشر العتمة تطبق على العين، خصوصاً في الدروب المؤدية إلى أطراف دمشق، كان العبور يُفضل بالسيارات. حواجز النظام حينها كانت طيارة (هي تسمية ورثناها من الحرب الأهلية اللبنانية)، ليست ثابتة. في تلك الأيام ونتيجةً لخوفي على أسرتي، فضلت السكن في ضاحية جديدة عرطوز لموقعها على دروب تمركز أغلب نشاطي . وفي يوم بائس مع عتمته، وبعد عبوري لمطار المزّة العسكري (سيء السمعة لما يمثله من فعلٍ وحشي حقود)، لاحظت أن شبحاً هزيلاً بالكاد قادراً على الوقوف يشير اليّ بكلتا يديه، وبعد أن قطعته بأمتار لا أعرف لماذا توقفت وعدت إليه، وإذ به فتى يافع منهك وممزق الثياب التي فقدت لونها لاختلاطه بالدم.

 بادرني بقوله: "عمو منشان الله والله أنا مو شحاد، بس وصلني لأول المعضمية وأي حدا بتشوفه قله إني أنا ابن أبو محمد المعضماني واتأكد بوصلني هوي".

 أجبته:  "دلني على الطريق وأنا بوصلك على بيتك". 

لاحظت أنه جلس غير سويّ القعود وقد مال على أحد جانبيه ويضغط على أسنانه وكأنه يداري ألماً بدون صوت. دلني الفتى إلى داره العربي الريفيّ إلا أن النعمة ظاهرةٌ على ساكنيه. ساعدت الفتى بالنزول وطرق الباب منادياً: "بابا أنا محمد".

الأصوات من الداخل مختلطة: أمٌ تبكي، أخت تصرخ محمد محمد، وأبٌ ينادي يا بييّ يا بييّ، وتلقف ولده المستند على كتفي، لم ينتبه لي مطلقاً، إلا أن الفتى الموجوع قال: "بابا سلم على عمو والله ما حدا شالني من الطريق غيره"، 

الأب "لا تآخذني دخيلك".

 

أجبته: "ولا يهمك عم بسيطة، استلم ابنك لكن يُفضل نروح نجبله دكتور يفحصه". 

 ووقفت أنتظر أن يذهب معي الأب،  فيما هو يعتذر مني محرجاً، إلا أنني أصررت على ضرورة جلب الطبيب والفتى يكرر بحرقة وخجل "مافي حاجة منشان الله"

 أدخلناه إلى غرفة النوم، وأنا تصرفت لإني كنت الأكثر هدوءاً، وتخيلاً بالذي فعلوه بالفتى رغم أن عقلي كان يرفض أن يصدق. طلبت من الأم والأخت المغادرة وأغلقت الباب، مسحت رأس الصبي بكفي المرتجف وسألته "لا تخجل عمو احكيلي"، وهنا انهار الفتى وأجهش ببكاء أو نحيب لكنه صوت لم أعهده من قبل. وضعت رأس الفتى على صدري وأنا لا أعرف من أين أتاني كل هذا الحنان:  "احكيلي عمو لأعرف شو لازم نعمل" 

تكلم بكلمات لم أسمعها جيداً لكني عرفتها بالبصيرة: "عمو كمشوني بعد المظاهرة جنب الفرن وأخدوني بالباص أنا وكتير شباب، وبلشو فينا ضرب، بعدين نزلونا بساحة مسوّرة ووزعونا على زنازين فوق بعض، كانوا كل يوم ياخدونا بالدور ويعملونا قتلات بالكبل، اليوم الصبح إجا واحد على الزنزانة واختار كم واحد وصار يسألنا بالدور، ما ضربنا لكن يبعت كل واحد مع عسكري، إجى دوري سألني انت من وين ولاك، قلتله من المعضمية، قلي كنت بالمظاهرة يوم الجمعة، قلتله أنا اتفرجت عليها لكن ما دخلني، أجاب: برافو عليك لذلك ابشر رح نطالعك اليوم. وأخدني عسكري على غرفة تانية ومابعرف كيف ربطولي ايديي وصدري على طاولة حديد، ومدري شو عملوا فيي ........، حطولي قطن وشاش وقالولي البيس منيح، بعدها جرجروني لأن ما كنت قادر امشي وطالعوني بسيارة وشلفوني بالمكان يلي أخدتني منه".

الأب المشدوه، الصامت، الذي كان وجهه بلا تعابير لدقائق ثقيلة، انهار باكياً  وقال: "استر علينا منشان الله".

أشكر الله لأني حافظت على رباطة جأشي، وأجبته "عيب يا أبو محمد، جرح ابنك وسام على جبينه، وألم مؤخرته بشرّف النظام كله"، جئنا بطبيب شاب وفحصه وطلب نقله إلى مشفى ميداني لإجراء اللازم... تابعت طريقي إلى وكري، جلست وأنا أنظر إلى حائط، وبعدها سمعت صوتي دون أن أعرف هل كان بكاءً أم نحيباً.... سامحوا شيخوخة ذاكرتي: المكان، فرع المخابرات الجوية في مطار المزّة العسكري، سامحوها لأنها لن تنسى "ألمك يا محمد المعضماني بشرف النظام ومؤيديه وأضيف عليهم، الصامتين والمحايدين".

التعليقات (4)

    غفار الدرة

    ·منذ 6 سنوات 11 شهر
    يسقط الأسد ***

    الخالدي

    ·منذ 6 سنوات 11 شهر
    قال لك الاب .. استر علينا منشان الله يا زيد بن رغبان لو لم تذكر الاسم .. استر علينا منشان الله حسبي الله و نعم الوكيل

    ه و

    ·منذ 6 سنوات 11 شهر
    الله ينصرنا ع ولاد الحرام

    شاااام

    ·منذ 6 سنوات 11 شهر
    لا حول ولا قوة الا بالله العلي العظيم الله يعين
4

الأكثر قراءة

💡 أهم المواضيع

✨ أهم التصنيفات