أغلب الظن أن الشعوب في بلاد الشام ومصر لم تكن ترغب في الصراع مع اليهود بعد انتقالهم للاستيطان في سهل فلسطين، ودليلي أنه قبل "حرب" 1948 كانت هناك مجرد مناوشات تم تضخيمها من الطرفين وأطلق عليها اسم ثورات.
الأمر الثاني أن المنطقة متعودة تاريخياً على الهجرات، فأثناء هجرة اليهود في بداية القرن العشرين حدثت هجرتان كبيرتان إلى المنطقة، الأرمن، وهم مسيحيون، جاؤوا وسكنوا في بلاد الشام والشركس، وهم مسلمون ليسوا عربا، واستقبلتهم المنطقة وسكنوا في بلاد الشام ومصر، فالإسكندرية كانت مدينة "كزموبوليتان" يعيش فيها الإيطالي واليوناني والتركي والشركسي.
الأمر الثالث أن نحو 850 ألف يهودي غادروا البلاد العربية هجرة إلى فلسطين، كان من الممكن استيعابهم ضمن استيعابات المنطقة للهجرات البينية، فالمنطقة متعودة على الهجرات البينية أيضا، فالمغاربة، كناية كانت تطلق على كل شعوب ما خلف الحدود المصرية، لهم وجود في دمشق وحلب والقدس، ولا تزال هناك أحياء وأبواب مدن باسمهم .
الأمر الرابع أنه تاريخياً كان هناك حسن جوار وتآلف بين اليهود والعرب طيلة نحو 1300 سنة، في دمشق وحلب وبيروت والعراق واليمن والمغرب وتونس وفلسطين التي أقر عمر بن الخطاب خليفة المسلمين العادل بحقوق اليهود الدينية في القدس، ورفض طلب بطريرك القدس بتهجير اليهود منها، وسرت هذه العهدة على كل المسلمين، فاليهود في عرف المسلمين أهل ذمة أي أنهم في ذمة رسول المسلمين محمد وقال: "من آذاهم فقد آذاني"، وحتى في الأندلس عمروها معاً وقُتّلوا وهجرّوا منها معاً!.
أغلب الظن أن الاستعمار الأوروبي هو من أشعل هذه القضية، ولا يزال يصب الزيت على نارها، إذ إن دولاً عربية كبرى تنكسر في المنطقة والأوروبيون مشغول بالهم على دولة لأبي مازن في أريحا!؟ وخصوصاً إذا ما عرفنا أن حقداً شديداً نشأ بين الأوروبيين منذ عصر النهضة على اليهود، حتى في الأدب كما كتب سيد أدباء الغرب الأوروبي "وليام شكسبير" وغيره، بدأ هذا الحقد بمضايقتهم وتهجيرهم في بداية القرن العشرين وتُوّج الحقد الأوروبي عليهم بالمجازر التي حدثت لليهود إبان الحرب العالمية الثانية!.
الأمر الآخر الذي بات مؤكداً أن انقلابات العسكر في الوطن العربي، بدأت بعبد الناصر وصولاً إلى القذافي وأسد وصدام حسين وعسكر تونس والجزائر والسودان، كانت مدعومة من الغرب الأوروأمريكي، ولا يزال دعمهم متواصلاً للحكم العسكري الدكتاتوري الطائش في المنطقة.
هؤلاء العسكر هم من رفعوا الشعار الغريب بالحرب على إسرائيل، علماً أنهم من سلّموا سهل فلسطين لليهود، فجميعهم كانوا ضباطاً "يقاتلون" في ساحات "القتال" أثناء النكبة 1948، وعادوا منها وانقلبوا بادعاءات شعاراتية، لم تثبت صحتها، على الحكم المدني واستلموا زمام الحكم في بلدانهم، عبد الناصر في مصر والزعيم والشيشكلي في سورية وعبد الكريم قاسم في العراق، في صفقة أزكمت روائحها الأنوف ولا تزال، رغم أن الغرب لم يفرج عن وثائقها إلى اليوم!؟ ومن تاريخها وحكم العسكر في الوطن العربي يساهم مساهمة فعالة في تمدد واستقواء الحكم في إسرائيل عبر حروب وهمية، ففي حرب 1967 تخلى العسكري "المقاوم" حافظ أسد عن الجولان وعبد الناصر عن سيناء والأردن عن القدس، 1973 تخلى حافظ أسد عن تل أبي الندا الاستراتيجي في هضبة الجولان!.
هذه الحروب استغلها العسكر في تخدير شعوب المنطقة بشعارات المقاومة والحرب على إسرائيل واستنزاف خيراتها في الفساد والإفساد لشعوبها، ومن لم يُفسد له طريق المطار أو السجن حتى الموت!. أما المهجرون الفلسطينيون فمعظم من هُجروا منها، هُجروا بقرار من "الجيوش" العربية التي دخلت إلى فلسطين أثناء النكبة وطالبتهم بإخلاء مناطقهم لأنها أصبحت مناطق عسكرية ووعدوهم بالعودة اليها بعد أيام من انتهاء المهام العسكرية والنصر.
لكن الذي حدث بعد تسليم المناطق لليهود، عاد العسكر إلى الحكم ونكلّوا بالمهجرين الفلسطينيين وعوداً وشعارات ومخيمات وقتلاً وسجوناً وسحق للهوية بدلا من منحهم، وهم 650 ألفاً، بيوت اليهود، الذين غادروا البلاد العربية وعددهم 850 ألفا، ليعيشوا كما يعيش باقي البشر، فكان عقاباً قاسياً عانى منه الفلسطيني لمجرد أنه فلسطيني وتعاني منه المنطقة برمتها!.
لنلاحظ أن أول من رفع شعار الحرب على إسرائيل هم الأحزاب اليسارية وفي معظمها مرتبطة إما بروسيا، والتي كانت أول من اعترف بدولة إسرائيل، أو مرتبطة بالأحزاب الأوروبية اليسارية والقومية، وهم من كانوا ينظمون المظاهرات في أحياء اليهود في المدن العربية ومضايقتهم دفعا لهم للهجرة إلى فلسطين، أغلب قيادات هذه الأحزاب كانت من الأقلية المسيحية التي تعج كتبها الدينية بمعاداة اليهود، بينما قرآن المسلمين يرفض قتالهم إلا إذا قاتلوا المسلمين! بعض من الأقليات لا تزال ترفع شعار العداء لإسرائيل رغم أنهم يعيشون بينهم في ثبات ونبات!.
المتصارعون الوهميون النظم العربية العسكرية، وحكومات اسرائيل المتعاقبة، استفادوا من هذه الحالة، فاذا كنا قد حددنا حاجة النظم العسكرية العربية لهذا الصراع، فإن حاجة المتطرفين اليهود، الذين يشكلون عماد الحكومات الإسرائيلية، ليس التعايش، وانما تأسيس دولة تصر أن تكون غريبة في المنطقة، واستعداء شعوبها منذ مشاركتها بالعدوان الثلاثي على مصر، مشاركة لا ناقة لها فيها ولا جمل، بدلاً من ترك الجغرافية مفتوحة لمشاركة اليهود في نسيج المنطقة، أو على الأقل أن تكون دولة إسرائيل المعلنة غير معادية للشعوب العربية، في تذكية لصراع يخسر فيه الطرفان والطرف الثالث المستفيد خلف البحر!.
في المحصلة كان يمكن استيعاب الهجرات اليهودية إلى المنطقة، كما استوعبت هجرات سابقة معها ومن قبلها، وتعود بالنفع على جميع سكان المنطقة، القدماء والجدد، بدلاً من حروب كاذبة حول هويات مزورة يذهب ملايين البشر ضحيتها وتغور فيها دول وشعوب كما بشرنا أدعياء الانفجار الكبير!.
التعليقات (32)