ثلاث قوى محلية وإقليمية كانت تتصارع وتسابق الزمن للوصول إلى الباب والسيطرة عليها، وهي وحدات الحماية الكردية التي تقود ما يسمى قوات سورية الديموقراطية "قسد"، والنظام السوري وداعميه الروس والإيرانيين، وتركيا وفصائل الجيش الحر المحسوبة عليها والمدعومة من قبلها، حيث تم قطع الطريق تماما على الأكراد الذين لازالوا يرابطون على مقربة من المدينة، ليعلنوا بتاريخ الخامس من شهر نوفمبر \\ تشرين الثاني إطلاق عملية "غضب الفرات" الهادفة للسيطرة على مدينة الرقة وريفها.
تركيا وقبل إعلانها عن إطلاق عملية الباب أجرت محادثات مع الأكراد من خلال وساطة أمريكية، لتجنيب الطرفين أي إحتكاك أو مواجهة، وهو ما أكده المتحدث باسم التحالف "جون دوريان" عندما قال: "سهلنا هذا الأسبوع محادثات مشتركة مع تركيا، وقوات سورية الديمقراطية وشركاء آخرين في التحالف من أجل تعزيز وقف التصعيد في المنطقة وأن التحالف يحاول ضمان الإبقاء على حوار يجعل الجميع مركزاً على مكافحة تنظيم الدولة الإسلامية". وعليه فمن المرجح أن تكون الصفقة التي أنجزت حينها تقضي بتسهيل مهمة تركيا في الباب، مقابل موافقتها على إفساح الطرق أمام "قسد" المدعومة أمريكياً للوصول إلى الرقة، وعدم التعرض لعناصرها في مدينة منبج.
صحيفة "حريت" التركية قالت حينها إن الباب "مفتاح مستقبل تركيا في سورية". وهو ما يعتبر دلالة على أهمية المدينة بالنسبة لتركيا التي ستستكمل خطة السيطرة على مساحة 5000 كم مربع، ما يحقق هدفها بمنع أي تواصل جغرافي بين مناطق سيطرة الأكراد في الشمال، إضافة للفائدة السياسية والجيوإستراتيجية التي ستضمن عدم تهميش تركيا في أي تسويات أو حلول مقترحة للأزمة السورية.
بتاريخ التاسع من شهر ديسمبر \\ كانون الأول أعلنت تركيا ومن خلال غرفة عمليات درع الفرات عن إطلاق عملية الباب بمشاركة حوالي 300 جندي من قواتها الخاصة، حيث إفتتحت عملياتها العسكرية بتمهيد جوي إشتمل على أكثر من ثلاثين غارة جوية خلفت مقتل عائلتين وجرح عدد من المدنيين، الأمر الذي سبب لها حرجاً كبيراً، كونها تقدم نفسها كصديق للشعب السوري.
كثيرون توقعوا أن تكون عملية الباب سهلة يمكن إنجازها خلال أيام، معتمدين في ذلك على ما حققته عملية درع الفرات من تقدم مريح، وقياسا على السرعة التي تم فيها دخول جرابلس ودابق، لكن حساب الحقل في جرابلس لم ينطبق على حساب البيدر في الباب، التي يمكن إعتبارها العاصمة الغير المعلنة لتنظيم الدولة الإسلامية، كونها تتمتع بمساحة جغرافية واسعة نسبياً وذات ثقل سكاني كبير، جعل منها التنظيم قلعة حصينة، من خلال سيطرته عليها قبل أكثر من عامين.
محاولات إقتحام عديدة منيت بالفشل وتسببت بخسائر فادحة للقوات التركية وفصائل المعارضة السورية المشاركة في العملية، ولم تنجح في إحداث إختراق ما يمكن التعويل عليه ولا حتى في الحصول على موطئ قدم، رغم الإعلان أكثر من مرة عن دخول المدينة، حيث إصطدمت كافة المحاولات بمقاومة شرسة إعتمد خلالها التنظيم على المفخخات والكمائن والقناصة، لتخسر تركيا 14 جنديا في يوم واحد وهو ما دفعها للرد بشكل هستيري من خلال تكثيف غاراتها الجوية وقصفها المدفعي الذي خلف عشرات القتلى والجرحى في صفوف المدنيين العزل، لتدخل العملية في مرحلة إستعصاء دفعت تركيا لطب دعم التحالف الدولي وبصوت عالٍ، متهمة الولايات المتحدة بدعم تنظيم الدولة ومهددة بإغلاق قاعدة إنجرلك الجوية.
الإستفزاز التركي للولايات المتحدة من خلال إتهامها بدعم التنظيم، إضافة للتهديد بإغلاق قاعدة إنجرلك، نجحا في دفع التحالف لتقديم الإسناد الجوي المطلوب، حيث بدأت طائرات التحالف الدولي بتقديم الدعم والإسناد الجوي، لتدخل روسيا لاحقاً على الخط وبدعم جوي لم يفلح في حلحلة الموقف.
روسيا وقبل عودة علاقاتها مع تركيا كانت تحشد بالتعاون مع نظام الأسد للوصول إلى مدينة الباب، وذلك لقطع الطريق على تركيا، لكن هذا التحشيد توقف فجأة ليتحول باتجاه مدينة حلب، التي سقطت بشكل دراماتيكي محزن لا يخلوا من التراجيديا المأساوية نتيجة السقوط السريع للمدينة وما خلفه من تشريد وخيبات أمل لسكان المدينة، وهو ما أعطى الإنطباع بأن صفقة ما بين روسيا وتركيا كانت هي السبب في ذلك، "تأمين حدود تركيا مقابل حلب".
سقطت مدينة حلب بيد الروس والإيرانيين، في حين بقيت عملية الباب تراوح مكانها حتى مع الدعم الجوي المقدم من روسيا والتحالف الدولي، لتنعقد محادثات أستانا بهدفها المعلن ألا وهو تثبيت وقف إطلاق النار بين المعارضة المسلحة ونظام الأسد، الذي لم يلتزم بما تم الاتفاق عليه ظاهريا من وقف لكافة أشكال القتال في المناطق التي لا تتواجد فيها فصائل مصنفة إرهابية كالدولة وفتح الشام، فعملية قصف وادي بردى ومحاولات إجتياحه لم تتوقف حتى أثناء إنعقاد جلسات الحوار، إضافة لقصف طاول العديد من المحافظات السورية وبمشاركة روسية فاعلة، وهو ما يضع أكثر من علامة إستفهام حول طبيعة ما تم الاتفاق عليه خاصة بعد سقوط مدينة عين الفيجة بيد نظام الأسد الذي تحول باتجاه شقيقتها مضايا.
بعد إنتهاء أعمال مؤتمر أستانا، بدأ نظام الأسد عملية عسكرية باتجاه جنوب مدينة الباب، لتتوالى الأخبار عن تقدم ملحوظ شمل السيطرة على أكثر من 20 قرية، هذا التقدم المسكوت عنه تركياً وروسياً، أعطى مؤشراً على وجود تفاهمات تقضي بحلحلة عقدة المدينة وفك الإستعصاء الحاصل نتيجة مراوحة العمليات العسكرية مكانها للشهر الثالث على التوالي.
تحسن العلاقات التركية – الروسية سمح بتنسيق وتعاون عسكري وسياسي بين البلدين، كما أنه أسهم في تقديم تركيا لسلسلة من التنازلات فيما يخص الأزمة السورية، وهو ما عبر عنه نائب رئيس مجلس الوزراء التركي عندما صرح على هامش إجتماعات منتدى دافوس بأن تركيا باتت على قناعة بأن الحل في سورية لا يستوجب رحيل الأسد، وهو ما يعني عدول تركيا عن شرط رحيله وبالتالي فتح قنوات التواصل وحتى التنسيق معه وإن من خلال روسيا التي باتت الراعي الرسمي للتسوية في سورية، وبغض النظر عن تصريحات نائب رئيس الوزراء التي حاولت نفيها، فإن تركيا إعترفت بشرعية نظام الأسد وبمجرد توقيعها لمذكرة تفاهم موسكو مع كل من روسيا وإيران.
نظام الأسد المدعوم بميليشيات شيعية لم يكن ليغامر بالتقدم بإتجاه الباب دون موافقة روسيا التي بدورها لن تسمح له بتهديد علاقاتها مع تركيا، لذلك فإن تحرك قوات النظام ربما أتى نتيجة لتنسيق روسي تركي لسببين، الأول: تخفيف الضغط عن قوات درع الفرات من خلال إشغال التنظيم جنوبا، والثاني: تعزيز النظام لوجوده في المنطقة وحماية مطار كويرس العسكري مع عدم الدخول إلى الباب، وهو ما يخدم أهدام الطرفين تركيا ونظام الأسد.
فتح جبهة جنوب الباب سيسهم بتكثيف الضغط على المدافعين عن المدينة وتشتيت قوتهم، ودفعهم لسحب جزء من قواتهم باتجاه الجنوب، وهو ما إستعاض عنه التنظيم بالانسحاب من عدد من قرى الريف الجنوبي وحشدها باتجاه المدينة، الأمر الذي يفسر التقدم السريع لقوات النظام المدعومة أيضاً بغطاء جوي ومدفعي روسي، فبات بات على بعد أقل من 2 كلم من السيطرة على الطريق وقطعه أمام تنظيم الدولة من جهتين، طريق تادف – الباب وطريق ريف حلب الشرقي – الرقة.
تركيا ومن خلال إعلانها عن إنطلاق ما بات يعرف باسم معركة "درع الفرات" كانت تهدف لتأمين حدودها وقطع الطريق على إستئثار الأكراد بشمال سورية وإعلانهم الإنفصال وهو ما يعتبر تهديداً للأمن القومي التركي، لكن توسيع حدود المنطقة المستهدفة وضعها في مواجهة مباشرة مع الثقل العسكري لتنظيم الدولة الإسلامية الذي إنحازت قواته باتجاه مدينة الباب لتصبح عقدة أمام المنشار التركي، فحتى قرية صغيرة كـ "بزاعة" لم تستطع فصائل درع المعارضة الحفاظ عليها لأكثر من عدة ساعات.
لا شك أن وصول ترامب إلى سدة الحكم سيسهم في إعطاء دفعة نوعية لما يسمى الحرب على الإرهاب، وذلك كونه يضع مسألة القضاء على تنظيم الدولة الإسلامية تحديداً هدفاً على سلم أولوياته، وهو في سبيل تحقيق هدفه هذا لن يتردد في إستخدام كل ما هو متاح من أدوات، وسيعيد صياغة التحالفات التي ستكون تركيا والأردن حجري الرحى فيها، وهو ما سيؤدي حتما لقيام كل منهما بالضغط على فصائل المعارضة للإنخراط في الحرب على ما يسمى الإرهاب، وبالتالي التحالف مع نظام الأسد وإن بشكل غير معلن، وحتى قبل التوصل إلى تسوية سياسية تعيد المعارضة وبشكل رسمي ونهائي إلى حضن الأسد.
التعليقات (3)