تركيا – إيران أيهما يربح في سورية؟

تركيا – إيران أيهما يربح في سورية؟
لم يكد وزير الخارجية التركي مولود جاووش أوغلو ينتقد خرق نظام الأسد والميليشيات الشيعية المدعومة من إيران للهدنة الموقعة مع بعض فصائل المعارضة السورية، حتى شرع المسؤولون الإيرانيون في موجة تصريحات غاضبة تهاجم تركيا وتصف تصريحات الوزير التركي بـ اللامسؤولة، ومحملة فصائل المعارضة المسؤولية عن كافة الخروقات التي تحدث. 

حالة من السعار تفجرت على هيئة تصريحات إعلامية، لكنها كشفت عن مدى غضب النظام الإيراني، الذي وعلى ما يبدو أنه قد صمت عن مشروع الهدنة على مضض، وكان فقط ينتظر الفرصة المواتية للتعبير عن عدم رضاه عن سير الأحداث في سورية، وبالتالي فإن هذا الغضب يفسر وبشكل منطقي جداً السبب الحقيقي لخروقات النظام وحلفائه المتعمدة لإتفاق الهدنة.

زيارات مكوكية متبادلة بين مسؤولي النظامين، لا يمكن قراءة أهدافها إلا كمحاولة إيرانية للضغط على نظام الأسد وإجباره على إفشال الهدنة، أو تحقيق إختراق عسكري ما في منطقة إستراتيجية كوادي بردى الذي إستعصى على الاحتلال، وهو ما يمكن أن يشكل إنجازاً مهماً يفرض وجود إيران ويعزز موقفها في أية تسويات سياسية، وهو ما حدث فعلا من خلال محاولات الإقتحام الفاشلة، وتكثيف القصف بكافة أنواع الأسلحة المحرمة دوليا بما فيها النابالم والكلور.

 تصريحات المسؤولين الإيرانيين تعكس حالة القلق من المطالبة بخروج الميليشيات الأجنبية من سورية، وبالتالي فإنها تمحورت حول شرعنة هذا الوجود من خلال التأكيد على أنه جاء بطلب من نظام شرعي، وأن هذا التواجد العسكري لقوات الحرس الثوري الإيراني وتوابعه من الميليشيات الشيعية، يقتصر على مستشارين عسكريين، وهو التوصيف الذي ما فتأت إيران تستخدمه لتبرير إحتلالها لسورية، في حين أنها تبتز تركيا وتعايرها بعملية درع الفرات التي لم تنسق مع نظام الأسد "الشرعي" بنظرها.

إيران تدرك تماماً أن سقوط تابعها الأسد، أو نجاح أية تسوية سياسية كفيلان بالإطاحة بمشروعها التوسعي، وبالتالي فهي قد تكون أحد أهم الأطراف الرافضة ضمنيا لمفاوضات الأستانة وما سيتمخض عنها من نتائج، لأنها ستفضي في نهاية المطاف لتنحي الأسد أو إسقاطه، وبغض النظر عما إذا كانت التسوية ستحقق مطالب السوريين أم لا، فوجود إيران في سورية يعتمد إعتماداً عضوياً على مسألة بقاء الأسد من عدمه، لأنه الحجة التي تشرعن بقاء ميليشياتها في سورية.

إن مجمل مأساة الشعب السوري تكمن في شرعنة المجتمع الدولي لنظام أجرم بحق الإنسانية جمعاء، هذه الشرعنة التي سمحت بالتسويف والمماطلة وتسمية الأشياء بغير أسمائها الحقيقية، فيسمون المجرم القاتل "رئيساً" وعصابته "نظاماً"، فنظام الأسد ومنذ نهاية العام 2012 صوريا (شّكلياً) حيث خسر سيادته ومعظم سلطاته لصالح إيران وميليشياتها ولم يعد يملك من أمره شيئا، لكن مجرد وجوده يشرعن للإحتلالين الإيراني والروسي لسورية، والفضل في هذا يعود لإدارة الرئيس الأمريكي أوباما التي مارست سياسة لا أخلاقية تجاه الشعب السوري.   

شرعية نظام الأسد تشبه إلى حد بعيد شرعية نظام ملالي إيران، فكلاهما يرفعان شعار محاربة قوى الإستكبار العالمي والصهيونية والشياطين الكبرى والصغرى، هذا الشعار الذي أسقطته ثورة الشعب السوري فعليا، لكنه لايزال الشعار الأمثل في إيران، التي لا يستطيع نظامها قمع الشعب الإيراني وتسخير مقدرات الدولة للمشروع التوسعي الفارسي إلا من خلاله.

تبدو معظم الأطراف المنخرطة في الشأن السوري متعبة فطول أمد الأزمة يستنزف الجميع ماديا وبشريا وإقتصاديا، في حين أن إستمرار الأزمة لا يضمن حصول هذه الأطراف على المردود المأمول من التدخل، فالساحة السورية أشبه ما تكون برمال متحركة أو نار عظيمة تبتلع كل ما يلقى فيها، لكن وعلى أية حال فإن الإنخراط الإقليمي والدولي في الشأن السوري يتفاوت من حيث المستوى، فلو إستثنينا الولايات المتحدة الأمريكية من المعادلة كونها الرابح الأكبر منطقيا من خلال الإكتفاء باللعب عن بعد وتحريك أدواتها كوحدات الحماية الكردية مع شيئ من الدعم اللوجستي والعسكري، فإن باقي الأطراف وخاصة تلك المنخرطة عسكريا بشكل مباشرة تعتبر خاسرة بسبب الإستنزاف المستمر.

روسيا وبعد مرور حوالي العام وأربعة أشهر على تدخلها المباشر في سورية، باتت متعبة جداً ولا يمكنها الإستمرار طويلاً حتى وإن حاولت الظهور بمظهر القوي، خاصة مع إنخفاض أسعار النفط الذي أثر على ناتجها القومي بشكل كبير، لهذا فإنها وبعد نصرها في حلب تبدو متمسكة بطوق النجاة التركي الذي أمن لها تحقيق توازن عسكري على الأرض، وتسعى لترجمته إلى نصر سياسي يؤمن لها الخروج من المستنقع السوري، لكن من غير المرجح أنها قادرة على القيام بخطوات عملية جادة تحقق لها هذا الغرض، كلجم الميليشيات الشيعية، والتوقف عن إستخدام وفرض معارضات سورية وهمية ممسوخة، وهي كذلك لا تبدو مقتنعة ببذل جهد حقيقي لتغيير بنية النظام الحالي، لهذا فإن أي حديث عن تسويات وحلول في ظل الواقع الراهن هو من باب الوهم أو الأماني ليس إلا.

روسيا التي بدأت قبل أيام قليلة بسحب جزء هام من أسطولها البحري المتهالك من المتوسط، من غير المتوقع أن تنجح في لجم إيران وميليشياتها، وإجبارها على القبول بتسوية تخرج كافة الميليشيات الأجنبية من سورية، وهي كذلك لا تبدو في وارد الصدام مع حليف مهم كان ولا يزال بمثابة ذراعها على الأرض، وقد أثبتت عملية تهجير أهالي حلب أن اليد الطولى والكلمة العليا على الأرض كانت لإيران وميليشياتها التي تجاوزت الروس وتولت التنسيق مع مندوبي المعارضة، بل وإرتكب عناصرها إعدامات ميدانية بحق جرحى وعوائل نازحة عن المدينة.

يغيب عن ذهن دهاقنة السياسة الإيرانيين ومؤسستهم الدينية، أن ما يفاخرون به من إنتصارات وخاصة في حلب ليست نتاج جهود مؤسستهم العسكرية التي تدير ميليشيات يشرف عليها ضباط عسكريون وشبه عسكريون إيرانيون أكل الدهر عليهم وشرب، بل هي نتاج تدخل عسكري روسي وتعاون تركي سمح بإخلاء مدينة حلب التي إستعصت على الأسد وإيران لسنين عديدة، لتأتي السياسة والمصالح فتقدمها تركيا على طبق من ذهب عربون صداقة وحسن نوايا مع روسيا التي طرقت الحديد الساخن بهدنة تحاول من خلالها جر الأطراف السورية إلى مفاوضات على أرض تابعها الكازاخي وأيضا بتعاون تركي.

من غير المعروف ما إذا كانت روسيا قد ردت جميل تركيا في حلب مسبقا، من خلال التخلي عن الأكراد الذين دعمتهم ضدها في وقت سابق، وإطلاق يد تركيا في عملية درع الفرات التي تراوح عند مدينة الباب، لكن ما لا شك فيه أن روسيا ستكون بحاجة للدور التركي مستقبلا، فالأزمة السورية معقدة ومفتوحة على كافة الإحتمالات، لكن روسيا اليوم تشعر بأريحية كبيرة من خلال وجود حليفين (تركيا و إيران) بحاجة ماسة للغطاء العسكري والسياسي الروسي، مع ملاحظة أن العلاقة الروسية – التركية ستتعزز مع مرور الوقت، وهذا أمر من المؤكد أنه سيزعج إيران التي تعتبر نفسها الطفل المدلل للجميع، فقد حظيت بدعم عسكري أمريكي غربي في العراق وروسي في سورية، وهو ما أطلق يد ميليشياتها الشيعية في كلا البلدين.

الغرب ومعه روسيا قلق جدا من مسألة التورط على الأرض، فأي خطوة غير محسوبة النتائج قد تكلفهم خسارة مئات الجنود، وبالتالي فإن وجود حلفاء إقليميين ومحليين وفَّرَ عليهم فاتورة الدماء باهضة الثمن، فإيران تضحي بأشياعها من العرب والأفغان، في حين أن كل من الولايات وروسيا تكتفيان بإدارة الصراع مع هذه الأطراف مع إحتفاظ الولايات المتحدة بورقة الأكراد، الذين من شبه المؤكد أن روسيا قد تخلت عنهم لصالح الجارة تركيا.

جميع الأطراف المتورطة في الشأن السوري تسعى لإعادة التموضع وتحسين مواقعها على الأرض، بانتظار تنصيب ترامب رئيسا للولايات المتحدة في العشرون من هذا الشهر، ومع ذلك فمن غير المتوقع أن يطرأ تغيير جوهري على سياسة الولايات المتحدة بإستثناء تركيز ترامب على مسألة قتال تنظيم الدولة الإسلامية وباقي الفصائل المصنفة إرهابية كجبهة فتح الشام وحلفائها، وبالتالي فإنه سيطلق يد صديقه بوتين في سورية.

من المتوقع أيضاً أن يسعى ترامب لتحسين علاقات بلاده مع تركيا التي يعتبرها ركناً مهما من أركان الحرب على ما يسمى "الإرهاب"، وهو ما سيؤخر مسألة الطلاق بين تركيا وحلف الناتو، وبالتالي فإن التقارب التركي – الروسي لن يؤثر سلبا على علاقة تركيا مع الغرب، خاصة في ظل التقارب الأمريكي – الروسي المتوقع. 

ربما تكون إيران هي أكبر الخاسرين في المرحلة المقبلة، وذلك نتيجة محاولاتها الإستفراد بالمنطقة وإعاقتها لأي جهود للتسوية أو الحل في سورية، حتى عملية التغيير الديموغرافي التي تنتهجها إيران في سورية لا تبدو ذات جدوى وتأثير جذري على محيط سني طاغي وقادر في أية لحظة على قلب المعادلة، فسورية ليست العراق ولاوجود حقيقي للشيعة فيه وأحسن الإحصائيات كان تقدر نسبة الشيعة في سورية بحوالي 0.5% (نصف بالمئة) وهو رقم متواضع حتى مع عمليات التطهير العرقي والطائفي الممنهج الذي تمارسه إيران بحق المسلمين السنة. هذا عدا عن عامل هجرة العراقيين السنة إلى سورية والذي من المتوقع أنه سيأخذ منحى تصاعدياً مع إشتداد التضييق على سنة العراق. 

لا شك أن أكراد سورية يشعرون اليوم أنهم قد وقعوا ضحية إتفاقات وتفاهمات إقليمية ودولية، فروسيا قدمتهم كبش فداء لتركيا، وحتى الولايات المتحدة الأمريكية لا تحتاجهم إلا كأداة في مسألتين: الحرب على الإرهاب والضغط على تركيا، وبالتالي فمن غير المستبعد أن يتحول أكراد سورية باتجاه التحالف مع محيطهم العربي السني، ولكن بمجرد إدراكهم لهذه الحقيقة وتخليهم عن حلم الدولة الشريطية التي لا تمتلك أدنى مقومات الوجود.

لن تفوز إيران ولا تركيا في سورية، حتى مع محاولات التقارب الحاصلة شكليا والتي تعززها المصالح الاقتصادية والتجارية، فكلاهما في حالة صراع يستنزفهما، وذلك نتيجة الإنخراط المباشر في الحرب وعلى أكثر من إتجاه وجبهة، مع فارق أن إيران تتبع سياسة نشر الفوضى، في حين أن تركيا ومن خلال محاولتها تأمين حدودها وجدت نفسها في حالة حرب مفتوحة مع تنظيم الدولة الإسلامية ليضاف إلى عدوها اللدود حزب العمال، فبات عليها المواجهة داخلياً وخارجيا، ضد عدوان قادران على تهديد أمنها الداخلي والخارجي على حد سواء. 

صحيح أن التركيبة السكانية لكل من إيران وتركيا متنوعة عرقياً وطائفياً، إلا أن تركيا تبدو مهددة أكثر، خاصة في ظل محاولة العديد من الأطراف العبث بهذه التركيبة، أما إيران فإنها تبدو في مأمن نسبي من أية صراعات عرقية، رغم أن تركيبتها العرقية تكاد تكون أكثر تعقيداً، لكنها غير مستهدفة من أي طرف كما هو الحال مع تركيا التي لا يشك أحد أن أصابع إيران لم تتوقف يوما عن محاولة العبث بأمنها وإستقرارها الداخليين.

العلاقة التركية – الأمريكية ليست في أحسن حالاتها، فتصريحات وزير الدفاع التركي عن عدم دعم الولايات المتحدة لتركيا في حربها على "الإرهاب" وتهديده بإعادة النظر في مسألة السماح لحلف الناتو باستخدام قاعدة إنجيرلك الجوية يشيان بالكثير من الخلافات وخيبات الأمل التركية من سياسة أوباما، وهي ربما تلميح ضمني بالإنسحاب من الناتو، الأمر الذي يمكن إعتباره رسائل متعمدة لسيد البيت الأبيض الجديد، الذي يراهن عليه الجميع بما فيهم إيران. 

  

ستستمر إيران في نشر الفوضى في المنطقة وستستخدم كافة أدواتها المتاحة وخلاياها النائمة التي زرعتها داخل الدول العربية، وأي نصر تحققه في سورية، سيدفعها لفتح جبهة ضد دول عربية أخرى، فالمخطط التوسعي الإيراني مبنيٌّ على أسس عرقية دينية جشعة لا تعرف حداً، ولن يتوقف طالما أنه يستشعر ضعف خصومه.

إيران ونتيجة لسياساتها العدوانية ستنتهي وتتفتت في نهاية المطاف، وسينتهي معها مشروعها التوسعي الصفوي، وسينتهي معها أشياعها وكل من يراهن عليها، لكنها وقبل ذلك ستكون قد نجحت في نشر الفوضى في المنطقة وأعادتها إلى قرون خلت، سيحدث هذا مالم تعي الدول العربية حقيقة أن مهادنة إيران ومحاولات إسترضائها لن تزيدها إلا عنجهية وإصراراً على المضي في مخططاتها العدوانية، فهي دولة تصافحك بيد لتطعنك بالأخرى.      

 

التعليقات (1)

    حسن

    ·منذ 7 سنوات 3 أشهر
    انا لا اعول على الدور التركي ابدا...واتذكر كلام نجم الدين اربكان عندما قال احذركم من اردوغان...كل تحركات تركيا تعكس الوضع الداخلي لها..ومعروف علاقة الاستخبارات التركية بحزب العمال..وكذلك..بتنظيم داعش..الامر واضح..اين قضية الاكراد في تركيا..الآن..انتهت..وكذلك في سورية..اصبح الاكراد اقلية في منطقتهم..وهاجر القسم الاكبر..والقوة العسكرية التي ترفع اسمهم غالبيتهم من العرب..هناك تنسيق في الخفاء بين النظام السوري والتركي...اصحو يا سنة سورية..العدو الاخطر الذي يضربك في الظهر..ايران لها مشروع واضح
1

الأكثر قراءة

💡 أهم المواضيع

✨ أهم التصنيفات