استقالة دي مستور.. الخيار الشيشاني.. والغطرسة الروسية

استقالة دي مستور.. الخيار الشيشاني.. والغطرسة الروسية
نقلت وكالة فرانس برس الخميس الماضي عن مصادر ديبلوماسية في الأمم المتحدة أن المبعوث الدولي إلى سورية دي مستورا قدّم استقالته أو بالأحرى طلب إعفاءه من منصبه، وأنه يشعر بالإحباط  لفشله في تحقيق إنجاز ملموس، وزاد الإحباط طبعاً بعد التوبيخ الفظّ المتغطرس والوقح له من قبل وزير الخارجية الروسي  سيرغى لافروف.

رغم أن الأمم المتحدة نفت الأمر في بيان رسمي وزعمت أن دى مستورا مستمر على رأس عمله، وأنه ما زال ملتزم بمهمته، إلا أن سياق الأحداث يظهر أن الأمر جدّي، وأن من المنطقي أن يكون دي مستورا فكّر جدّياً في التخلّي عن مهمته، وإعفاءه من منصبه، بعدما راهن على تفاهم أمريكي روسي يسمح بالتوصل إلى حزمة تفاهم شاملة تتضمن تهدئة أو هدنة متواصلة على كامل الأراضي السورية، وإدخال للمساعدات ورفع الحصار عن المناطق المحاصرة، وصولاً إلى حل سياسي، ولكن ليس وفق بيان أو آلية  جنيف، وإنما وفق بيان وآلية فيينا، وقرار 2254 بفهم مجتزأ ومنقوص، بمعنى تجاهل فكرة الهيئة الانتقالية كاملة الصلاحيات لصالح حكومة الوحدة الوطنية، مع دور للأسد في المرحلة الانتقالية، وحتى بعدها أي ترشحه للانتخابات الرئاسية القادمة.

عبر كل من ممثلي الأمم المتحدة في سورية من كوفي أنان إلى دي مستورا مروراً بالأخضر الإبراهيمي عن تطورات الأحداث على الأرض، كما عن فهمه لطبيعة أو شكل الحل السياسي المراد، وببساطة واختصار تنقل الأمر من بيان جنيف 1 مع أنان إلى السعي الجاد لتنفيذه مع الإبراهيمى وصولاً إلى تجاوز الأمر برمته، والانتقال إلى فهم مختلف مع دي مستورا و تجاهل منهجي ومتعد لروح وهدف جنيف .

تولى أنان مهمته مطلع 2012 في عزّ صعود الثورات العربية، وكانت الفكرة أن الثورة السورية قد طالت، ولا بد من التوصل إلى حلّ سياسي معقول وعادل يتناغم مع هدف الثورة والثورات العربية بشكل عام وبما يحفظ الدولة السورية ومؤوسساتها واعادة بنائها البعض منها من جديد على أسس سليمة، في ذلك  الوقت اتضح عجز النظام عن سحق الثورة أو فرض الاستسلام على الشعب السوري، وفي نفس الوقت خشي الغرب وأمريكا تحديداً التي لم تكن بوارد الانخراط، أو حتى دعم جدّي للثوار، من انتصار الثورة وإسقاط النظام بشكل كامل. روسيا التقطت هذا المزاج، وفهمت مغزى التطور الميداني، وقبلت بالانفتاح على العملية، والحلّ السياسي لكسب الوقت، والحفاظ على مصالحها اذا ما سقط أو أوشك النظام على السقوط، ورغم ذلك راوغت للاحتفاظ بكل الخيارات، رفضت التطرق مباشرة إلى مصير الأسد، ولكن مع القبول بفكرة الهيئة الانتقالية كاملة الصلاحيات، ما يعني إخراج بشار الأسد فعلياً من المشهد في الفترة الانتقالية، وحتما من تحديد مستقبل ومصير سورية.

أنان فهم بعد شهور أن القوى الكبرى غير جادة أو غير مبالية تجاه القضية السورية، وحتى تجاه بيان جنيف، الذي ساهمت في صياغته، وتعهدت بدعمه وفهم طبعاً  أن روسيا ليست بوارد الضغط على النظام مع استخدامها متكرر للفيتو في مجلس الأمن، كما رفض تبني الإعلان نفسه في مجلس الأمن، فقدّم استقالته احتراماً لنفسه، وفضحاً أو احتجاجاً على التخلي عنه والاستخفاف بدوره ومهمته.

رغم فهمه واستيعابه للمعطيات السابقة، إلا أن الأخضر الإبراهيمي قبل بالمهمة لتاريخه مع القضايا العربية. كما لرغبته في لعب دور ما لإنقاذ سورية من خيارات كارثية ومدمرة سعى إليها النظام عامداً متعمداً. الإبراهيمي شهدت  ولايته تراجع النظام، وتقدم الثوار، بحيث بات النظام على حافة السقوط، لولا تدخل الميليشات الإيرانية على اختلاف توجهاتها ومسمياتها، حتى هذا لم يكن كافي لإنقاذه لولا الاتفاق الأمريكي الروسي حول السلاح الكيماوي، الذي فهم الإبراهيمي مغزاه الحقيقي، كما روسيا أيضاً بصفتها القوة الأساسية الداعمة للنظام سياسياً وعسكرياً.

استخدم النظام  فى العام 2013 السلاح الكيماوي بعدما استخدم كل أسلحة الدمار والإجرام بحوزته، ورغم تخطّي الخطوط الحمر المعلنة من قبل الرئيس أوباما نفسه، ورغم أن البيئة كانت مهيأة لضربة جدية وقوية، وليس تدخل عسكري واسع وكبير، ضربة تضعف النظام وتجبره على الانصياع لحل سياسي وفق بيان جنيف دون تذاكي، إلا أن أوباما غير المعني بالملف السوري، ولا بسقوط النظام والمهووس بدخول التاريخ  عبر تقديم الأسد هدية لإيران من أجل الاتفاق النووي معها تراجع فى اللحظات الاخيرة ووصل مع موسكو إلى اتفاق جوهره أخذ السلاح من المجرم مع إعفاءه أو تبرئته من الجريمة، وإعطائه الضوء الأخضر لارتكاب الجرائم بأسلحة أخرى، والأهم التخلّي عن فكرة رحيله، والقبول بحلّ سياسي يكون فيه لاعب مركزي ورئيسي.

روسيا فهمت مغزى الاتفاق كما الإبراهيمي أيضاً، فاستقال ورحل مع التحدث بعد ذلك كلما سنحت له الفرصة عمن عرقل مهمته ومنعه من التوصل إلى حل سياسي عادل، وحتى عن الطابع الطائفي والدموي للنظام وحلفائه لحرف الثورة عن أهدافها وحقها المشروع في تحقيقها.

بعد سنة ولكن ضمن نفس البيئة السياسية المستجدة بدأت مهمة دي مستورا فى العام 2014 ، البيئة التى وضعت أسسها فى الاتفاق الكيماوي، ثم تطورت وتكرست بعد التدخل الاحتلال الروسي فى عملية فيينا اواخر العام 20145،  البيئة التى تقطع مع روح عملية جنيف تقبل شرعية النظام وتشكك فى شرعية تمثيل المعارضة، البيئة التى تعطى الاولوية لقتال داعش مع تأجيل البت فى مصير النظام وحتى الاعتراف بشرعيته ودوره فى محاربة التنظيم الارهابي الذى خلقه اصلاً و وشكل البيئة الحاضنة لنموه وتطوره وصولاً الى المعادلة اللئيمة الاجرامية والكارثية داعش أو النظام .

البيئة الجديدة كانت تستلزم بالضرورة عملية سياسية ، عمل عليها دى مستورا ضمن استئتثارواحتكار أمريكي روسي للقضية السورية ، ومن خلالها تم التوصل الى مجموعة من التفاهمات التى مثلت اقرار بشرعية النظام ودور لبشار الاسد فى المرحلتين الانتقالية والنهائية وحكومة وحدة وطنية بدلاً من هيئة انتقالية ولكن مع هدنة دائمة وقتال لداعش والنصرة مع تجاهل الحشد الشعبي الإيرانى وتشكيلاته الإجرامية المحلية،  وروفع الحصاروادخال المساعدات وصياغة دستور جديدة وانتخابات عامة بعد 18 شهراً باشراف الامم المتحدة و مشاركة كل المواطنين السوريين فيها فى الداخل والخارج.

روسيا وبعدما ضمنت التنازلات الامريكية فى سورية ، بحثت عن تنازلات أخرى فى أوكرانيا القرم وقضية توسع حلف الناتو شرقاً،وعندما رفضت واشنطن هربت موسكو بجنون وغطرسة إلى الأمام نحو الخيار الشيشاني،  أما النظام وبعدما انقذه الاحتلال الروسي من السقوط ، رفض تقديم أى تنازل سياسي أو ميداني ولو محدود وتبنى علناً اعادة احتلال المنطقة المحررة ، والاحتتفاظ بأكبر مساحة من الأراضي ضمن سورية المفيدة وعزل المعارضة ، أو التوصل الى تفهمات موضعية معها ودائما على قاعدة الخيار الشيشاني أو نموذج داريا .

واضح أن مهمة دى مستورا وصلت الى نهايتها واستقالته قد تكون مسألة وقت فقط ، وربما ينتظر قليلاً الى حين اتضاح سياسات الادارة الامريكية الجديدة ، واذا ما كان ترامب سيعود لفكرة التفاهم مع روسيا فى سورية  بروح عملية فيينا وليس جنيف، غير أن النظام مدعوماً من ايران الهائجة والمتغطرسة وحشدها الشعبي المجنون والمجرم ليس بوارد تقديم اى تنازلات ، وستعود طهران إلى ربط موقفها فى سورية والمنطقة بملفها النووى ومقاربة ترامب له ،  وبينما تحول النظام إلى لعبة او أداة فى ايدى داعميه وعرابيه فان المعارضة او الشعب السورى بالأحرى ،ليس أمامه الا الصمود والاقتناع بحتمية الانتصار، ليس  فقط لان الثورة التاريخية العملاقة والكاشفة ظافرة حتماً ، وانما لأن من المستحيل إعادة الميت الى الحياة بالمعنى البيولوجي والسياسي ايضاً .

التعليقات (0)

    0

    الأكثر قراءة

    💡 أهم المواضيع

    ✨ أهم التصنيفات