الآن وبعد أكثر من ثلاثة أشهر على المجزرة، الطفلة السورية "فاطمة مغلاج"، ابنة السنتين وشهر، بلا رأس، كانت تقف مشدودةً بين يديّ رجل وصيحات التكبير تملأ المكان، وترقد بأمان مع أطفال آخرين بجانبها، أغلبهم من نفس عائلة "مغلاج"، يحملها ويقول: "حسبنا الله ونعم الوكيل، نشكي أمرنا لله، لهي بس، لإنو الإنسانية ما أنصفتنا، والعالم كله ما أنصفنا، الله بينصرنا إنشالله، النصر بيجي من عند الله..".
شريط اليوتبوب هذا أحدث ألماً كبيراً لدى معظم مَن شاهده للوهلة الأولى، وعلى متفرج لم يصدق عينيه، ليسأل نفسه كثيراً: لماذا هذه الطفلة أيضاً؟ أين رأسها؟ أين ضميركم يا خنازير؟
اعتياد على صور الموت
هي صور أحدثت شرخاً كثيراً في المفاهيم لدى كل مَن يفهم في الحروب ودوافعها، ليصل إلى يقينه التام بأن الفقراء هم وقود الحروب فعلاً، وبأن الأطفال شاؤوا أم أبوا سيكونون في مقدمة الضحايا الذين تترك مقاطعهم قشعريرة في الأعصاب، لمَن بقيت لديه أعصاب أصلاً.
ولدى تحليل مقطع الفيديو هذا، سيتبادر إلى تلك الأيادي الآثمة التي زرعت مخالبها في صيرورة جيل كامل من الأطفال، تاريخٌ نفسي مريض يحتاج إلى عشرات الآلاف من الأطباء النفسيين الذين سيقفون عاجزين عن ترميم الشعور الإنساني في سورية بعد هول هذه المجازر التي لا تجد لها تفسيراً لدى أحد، سواء من الناحية الإنسانية أو حتى السياسية.
وهذا كلّه لأن مقاطع الفيديو رافقت الثورة السورية منذ بدايتها، إذ كان من الطبيعي أن تتصدر صورة الطفلة "فاطمة" قائمة المشاهدات العالية ضمن أكثر الأوقات التي لا إنصاف فيها. وهي بصورتها وفستانها إنما رسمت خطاً مستقيماً بين بلدها والسماء مع جيل كامل من أصدقائها ينتظرونها لتعود إليهم مرفوعة الرأس، وليست بلا رأس.
يقودنا هذا إلى تحليل آخر يلجأ إليه المجرمون في قطع رؤوس الأطفال حتماً، هؤلاء سيكبرون فينا وفي الوطن ليحملوا عنّا إناء التعب والإرهاق، ورغم ذلك ليس من قضية في سورية الآن بحاجة إلى تفسير في ظل الصمت الدولي والتخاذل العربي المقيت.
في الجهة الأخرى، يبدو أن الكثيرين اعتادوا رؤية الجثث والدماء والأشلاء المتطايرة في سورية، وأرجعوا ذلك إلى برامج الكمبيوتر كالفوتوشوب مثلاً، لكي يضعوا أذهانهم في ثلاجة الراحة دون أن يشعروا بأي ذنب، لكن ذاك المشهد "الفظيع" كان عبارة عن مقطع فيديو غيّر الأمر نسبياً نتيجةً لشدة قوته، وبعدها توالت التنزيلات على صفحات مواقع التواصل الاجتماعي، التي أحدثت بدورها تأثيرها الكافي، وليس آخرها طفل يحمل سيفاً يقطع به رأس رجل مستلق بأوامر من مجموعات تكفيرية.
بالطبع، ذاك لم يكن مشهداً سينمائياً أو مقطعاً من فيلم رعب، بل كان هجوماً شنته طائرة مروحية على بلدة "كفر عويد" في محافظة إدلب، حين ألقت طائرات جيش النظام السوري 7 براميل استهدفت إحداها مبنى المخبز الآلي في البلدة، قتلت على الفور 10 مدنيين من عائلة "مغلاج"، بينهم دلال العيسى وأربعة نساء، إضافة إلى ما لا يقلّ عن 120 جريحاً مع تدمير قرابة الـ 20 منزلاً، حوالي الساعة الثالثة من بعد ظهر يوم الأحد الموافق 16/9/2012، حسب الشبكة السورية لحقوق الإنسان؛ هذه البلدة التي ذاقت الأمرّين منذ بدء الثورة في سورية إلى الآن.
"مَن لم تبكه هذه الصورة ليس سورياً ولا عربياً وما هو بمسلم"، عبارة كتبها أحدهم على صفحته على الفيس بوك، بينما كتب آخر: "أطفال حلبجة بانتظاركم"، في إشارة إلى المجزرة الكيماوية التي ارتكبها الرئيس العراقي المخلوع "صدام حسين" بحق مدينة "حلبجة" الكردية عام 1988. وليس هذا فحسب، بل امتدت القضية إعلامياً وتجسدت برسوم كاريكاتورية كثيرة أظهرت الطفلة "فاطمة" برأس والمتفرجين بلا رؤوس.
من حمزة إلى فاطمة
من الطبيعي جداً أن تؤكد جميع التقارير والإحصائيات في سورية أن الفئة الأكثر تضرراً من الثورات والحروب هي الأطفال، حيث تعتقد المنظمات الدولية والإنسانية ولاسيما الأمم المتحدة أن عدد الأطفال الذين سقطوا إلى الآن يتجاوز الـ 3000 طفل. وليس هذا فقط، بل تعرّض الكثير منهم للاعتقال والضرب والتعذيب والاعتداء الجنسي. وارتبط اسم الطفل حمزة الخطيب دائماً بالثورة السورية، كأول طفل سوري تعرض للاعتداء وبتر عضوه الذكري، الأمر الذي يحتم على الآخرين حين سمع الخبر فقط بالتأثير الذي خلفه على نفسيتهم ونظرتهم للحياة.
ولعلّها كثيرة هي المجازر التي ارتُكبت بحق الأطفال، وخاصة في بلدات مثل الحولة والتريمسة وكفر عويد، وغيرها من المناطق. وفي الوقت الذي يدفع فيه الطفل روحه ثمناً لحروب يخوضها الكبار، يبقى الكثيرون على قيد الحياة بعد أن رأوا صور الجثث واشتموا رائحة الموت في بلداتهم الوادعة التي لم تكن تعرف الحرب من قبل.
ومن هنا، تبرز الحاجة الماسة إلى دخول علم النفس بشكل كبير في تحليل نفسيات هؤلاء الأطفال والوقوف على تحليل الظواهر، لكن السؤال في نفس الوقت: في ظل غياب العلاج الجسدي ما جدوى العلاج النفسي؟
آلجي حسين
صحفي وكاتب سوري
التعليقات (2)