داريا كانت الشوكة في حلق نظام الأسد والأخطر عليه، كونها عقدة الوصل بين أكثر من منطقة ولا تبعد عن العاصمة دمشق سوى 8 كم، وهي أكبر مدن الغوطة الغربية ومركزها، ويَحدها من الشمال حي المزة ومعضمية الشام، ومن الغرب جديدة عرطوز ومن الجنوب صحنايا وأشرفيتها، ومن الشرق حي كفر سوسة وحي المزة وحي القدم، وهي من أولى المدن السورية التي ثارت على نظام الأسد حيث سجلت أولى مظاهراتها في يوم الجمعة 25 آذار 2011، ليستمر حراكها الثوري دون كلل أو ملل، ولتتخذ ثورتها عدة أشكال مدنية سلمية تمثلت في إصدار شباب المدينة لجريدة أسموها "عنب بلدي" حيث كانت توزع سراً خوفا من شبيحة وعصابات الأسد، ومن منا لا يذكر غياث مطر الذي كان يوزع الزهور على قاتليه ظناً منه أنهم من طينة البشر.
لن أتحدث كثيرا عما حدث في داريا ولا عن بطولات مجاهديها وصمود أهلها، فهو معروف للقاصي والداني، لكن لا بد من التأكيد على أن داريا قد إنتصرت، رغم سقوطها بيد عصابة الأسد، فقد كان صمودها أسطوريا بكل ما تحمله الكلمة من معنى، وهي المدينة التي هُجّر سكانها لا لشيئ إلا لأنهم رفضوا توقيع هدنة أو صلح مع عصابة الأسد، و لَإِنْ كانت درعا مهد الثورة، وحمص عاصمتها، فإن داريا كانت بحق أسطورة الثورة السورية ومصدر فخرها وكرامتها، وهذا لقب لا نمن به على المدينة ومجاهديها، بل هو لقب صنعته دماؤهم الطاهرة التي روت أرض داريا المباركة. لكن ما يثير التساؤل حقا هو السرعة والدقة والسرية التي جرت فيها المفاوضات وتطبيق ما إتفق عليه؟!
سقطت داريا لتنطلق بعدها حملة شرسة إستهدفت محافظة درعا (حوران)، محملة إياها مسؤولية سقوط داريا، وقد كان واضحا من خلال الطريقة التي تناول بها البعض الأمر، أن المسألة أبعد ما تكون عن نقد بناء لتقصير، أو عتب ولوم على تخاذل الفصائل المسلحة في المحافظة، حيث إتخذت الحملة طابع إهانة وتخوين شعب كامل، يكفي أن نعلم أن أحدهم يدعي "الدكتره" لكنه لم يجد من الكلام سوى السفاسف والإهانات وما قذف به المحصن من الأعراض.
لا يمكن تبرير تخاذل فصائل حوران وخاصة تلك التي تتبع غرفة الموك، ولست هنا في وارد الدفاع عنها، فقد كنت أشد منتقديها يوم جبن الكثيرون عن قول كلمة حق، لكن المحزن في الأمر وما لا يمكن القبول به هو أن يتحول النقد إلى وسيلة وغطاء لإستهداف أهل حوران النخوة والكرامة، الذين كانوا السباقين ولا فخر في ثورتهم على نظام الأسد الذي سامَهُم سوء العذاب وعانوا الأمرين على يديه، فحوصروا وقتلوا وجوعوا وهجروا.
تخاذل الفصائل المسلحة في حوران لم يقتصر على خذلان داريا، فهم خذلوا حتى أنفسهم وشعبهم ودينهم، فخضعوا للإملاءات الخارجية التي سمحت لهم بالقعود عن قتال عصابة الأسد وتحرير ما تبقى من درعا، فالفاسد لا يفوت فرصة لممارسة هوايته في الفساد والإفساد، ويكفي أن نعلم أن عدد الفصائل المسلحة في محافظة درعا يبلغ أكثر من 35 جيش وفيلق وفرقة ولواء عدا عن الفصائل الصغيرة، لكن هذه الفصائل ورغم الأسماء والألقاب الكبيرة فشلت حتى في تحرير مدينة درعا أو ما احتله نظام الأسد من مناطق محررة، ليس هذا وحسب، هم حتى خسروا مدناً ومناطق مهمة كبلدة عتمان ومدينة الشيخ مسكين، التي كان واضحا أن هناك أوامر بتسليمها، أما الأخطر فهو أن اوتوستراد دمشق درعا الواصل إلى الأردن ورغم هذا العدد الكبير من الفصائل المسلحة، لا يزال آمناً ويعمل بكامل طاقته وتمر به قوافل وإمدادات النظام من وإلى درعا؟!
حتى في أخر معارك تحرير مدينة درعا التي أطلقتها الفصائل المسلحة التي لا تنتمي لغرفة الموك، لم يتم قطع الطريق بين درعا وخربة غزالة التي لا تبعد أكثر من 30 كم عن المدينة ولازالت بيد عصابة الأسد، وبقيت فصائل الموك تتفرج على ما يحدث وكأنها لا تنتمي لهذا الوطن وهذا الشعب. وهم بدل ذلك تفرغوا لإدارة إقطاعياتهم، حتى إن بعضهم قد وصل حد إنشاء المعتقلات ومراكز التعذيب والسجون، فنافسوا بجرائهم معتقلات الأسد.
لو أردنا التحدث بمقاييس الجغرافيا أو الديموغرافيا فإن محافظة درعا قد لا تمثل أكثر من 3% من عدد سكان سورية و6% من مساحتها، فلماذا يتم تحميل هذه المحافظة خطايا كافة السوريين، ولماذا يتم إستخدامها شماعة يحملونها مسؤولية التخاذل الذي أصبح سمة عامة إلا ما رحم ربي، وهل حقا درعا اليوم تستطيع تغيير المعادلة، وهل كانت تستطيع تغيير الواقع وفك الحصار عن داريا، ومن هو الأولى بهكذا تحرك هي أم فصائل ريف دمشق في الغوطة الشرقية؟
أسئلة كثيرة لا يمكن تجاهلها ولا بد من الوقوف عندها والإجابة عليها، فدرعا بوابة سورية الجنوبية، ومنها يدخل الكثير من الدعم المالي والعسكري والإغاثي، لكنها وفي نفس الوقت تختزل قدر سورية في قربها من فلسطين المحتلة والأردن ولبنان، ووجود الأقلية الدرزية إلى جوارها، أليست هذه المعادلة هي التي منع الشعب السوري بسببها من إسقاط نظام الأسد المجرم؟
حوران لا ينقصها النخوة فهي دارها ولا الشجاعة فهي أهلها ولا الكرامة فهي عنوانها، لكنها اليوم أسيرة التواطؤ والتآمر الدولي الذي مكن الفاسدين من رقاب من تبقى من أهل المحافظة، وربط ما يقدم من إغاثة ومساعدات، أو دخول وخروج، بقادة فاسدين ينفذون أوامر أسيادهم بحذافيرها دون تردد أو تذمر، ومن يعترض أو يرفض تنفيذ الأوامر يتم تصفيته أو إزاحته أو قطع الدعم عنه، وهنا لابد من التذكير بحالات التصفية والإغتيال التي نفذت بحق قادة ومشايخ وشخصيات نزيهة، تم إلصاق تهمة قتلها بفصائل كحركة المثنى ولواء شهداء اليرموك، فهي الرواية القابلة للتصديق والتي لا يجرؤ أحد على مناقشتها أو تكذيبها، لأنه حينها سيتهم بالدعشنة.
ما ينطبق على حوران ينطبق بكل تأكيد على معظم مناطق سورية، التي يعتمد ثوارها ومجاهدوها بشكل كبير على ما يقدم لهم من مساعدات خارجية، أسهمت في مصادرة قرارهم ومنعهم من حرية التحرك وفتح الجبهات والمعارك، وهو ما أسهم في ولادة حالة من "التخاذل الممنهج" إستسلمت فيها معظم الفصائل لقرار الممول والداعم، ودخلت في دوامة الصراع على الولاء وتنفيذ أجندات لا تخدم قضيتنا، وهو ما سمح لنظام الأسد وحلفاءه الإستفراد بالمناطق الثائرة الواحدة تلو الأخرى وكل على حِده، فكانت حمص والقصير والمعظمية ويبرود والشيخ مسكين والزبداني ومضايا واليوم داريا، جميعها مدن ومناطق سقطت بيد عصابة الأسد بسبب تخاذل بقية الفصائل عن نصرتها، حتى وإن بفتح الجبهات للتخفيف عنها، فماذا كانت النتيجة؟ تهجير وتغيير ديموغرافي وتوطين للشيعة الإيرانيين والعراقيين والأفغان في كل مدينة يتم إحتلالها.
فمن هي إذاً الجهة التي تتحمل مسؤولية هذه الإنتكاسات، هل هي فصيل أو حزب أو جماعة أو منطقة بعينها؟
بكل تأكيد الجميع مسؤول وإن بشكل متفاوت، فالمعارضة السياسية بكافة أطيافها ومؤسساتها مسؤولة، والفصائل المسلحة مسؤولة، والناس الذين صمتوا عن تخاذل قادة الفصائل مسؤولون، وكذلك الثوار والمجاهدون مسؤولون، وما حدث لداريا في غوطة الشام الغربية حدث للزبداني التي لم تجد من يناصرها حتى من أقرب الفصائل إليها كفصائل الغوطة الشرقية التي فعلت كل شيئ إلا نصرة جيرانها، فتقاتلت فيما بينها وأزهقت أرواح المقاتلين والمدنيين بالمئات، بعضها سير الجحافل لقتال تنظيم الدولة في القلمون، لكنه لم يستطع أن يرسل شيئا من المدد لمجاهدي الزبداني. كان يكفي أن تفتح الجبهات أو تستهدف مواقع الفرقة الرابعة أو أن يقطع طريق مطار دمشق الدولي.
درعا ليست خائنة أو متخاذلة، لكنه تآمر القريب قبل الغريب، وسيطرة غرفة الموك المخابراتية، التي تضم أجهزة مخابرات دولية وإقليمية، تنسق الدعم وقرار الحرب والسلم لفصائل الجبهة الجنوبية، ودرعا ليست هي نفسها التي أشعلت جذوة الثورة السورية المباركة، فكثير من أهلها وشبابها إما هجر قسراً وإما إعتزل الثورة والعمل المسلح طوعا، ولم يبقى فيها الكثير من الناس، فالظلم كبير والفساد كثير ولا خيارات كثيرة أمام الناس.
ما لا يعرفه الكثيرون، وما نسيه البعض هو أن شباب درعا كان يتظاهر في دمشق وريفها، وهم من حاول تحريك المناطق الساكنة، وهم من قاتل في العديد من مناطق ريف دمشق من جنوبها إلى شمالها ومن شرقها لغربها، ولا يمكن أن ننسى كيف أنهم حاولوا نقل المعركة إلى حضن النظام في دمشق، وكيف أنهم وصلوا الكسوة، وحال أهل درعا ينطبق على حال أهلنا في دوما وجوبر وزملكا وداريا، وكل الريف الدمشقي الذي وصلت مظاهراته ذات يوم إلى ساحة العباسيين، فكان لابد من لجم هذا الحراك، فصنعوا لنا فصائل حمت نظام الأسد في دمشق ومطارها وسمحت له أن يتحرك بحرية وأن يستقدم ألوف المرتزقة عبر مطار دمشق الدولي، الذي لم يقطع طريقه يوما رغم أن طوله يبلغ أكثر من 35 كم.
هل يعلم الذين يهاجمون حوران أن ثلاثة من إستشهاديي ملحمة حلب الكبرى لفك الحصار عن المدينة كانوا من درعا، فلا تظلموا هذا الشعب الكريم الذي لم يبخل بدم أو مال أو جهد، وأنا شخصيا لا أشك ولو للحظة أن الكثير من الموتورين وأزلام النظام هم من يقف خلف التجييش الحاصل ضد محافظة درعا، فبصمات عصابة الأسد المخابراتية واضحة ولاتزال تتبع سياسة فرق تسد، وهم حاضرون في كل وقت وحين، لا عمل لهم سوى تأجيج الصراع وبث الفرقة بين أبناء العقيدة الواحدة ليفتوا في عضدهم ويمنعوا تلاقيهم على مشروع جامع يسهم في إسقاط العصابة التي أهلكت الحرث والضرع.
الذين خذلوا داريا خذلوا أنفسهم قبل أن يخذلوها، والذين وفروا قوتهم لما بعد سقوط الأسد، سقطوا وسيسقطون قبله وربما معه على أبعد تقدير، فإسقاط نظام الأسد يحتاج إلى مجاهدين مخلصين وليس مرتزقة، وهؤلاء خانوا الأمانة لأنهم أطالوا في عمر النظام وأمد المأساة، وتسببوا في سفك المزيد من الدماء وإزهاق آلاف الأرواح، وسيعلمون أنهم قد أُكِلوا يوم أُكِلَ الثور الأبيض وسيندمون يوم لا ينفع الندم.
التعليقات (15)