سورية.. الكرة التي تتقاذفها الأقدام

سورية.. الكرة التي تتقاذفها الأقدام
لو سألنا أي محلل سياسي عن توقعاته لما إتفق عليه إردوغان وبوتين حول سورية خلال اجتماعهما قبل أيام، لما استطاع الإجابة بشكل قاطع، ليس لعجزه عن ربط الأحداث واستنباط النتائج، ولكن بسبب تعقيدات المسألة السورية وارتباطها العميق بجملة من المعطيات المحلية والإقليمية والدولية، وكثرة اللاعبين وتنافر أجنداتهم ومصالحهم.

مما لا شك فيه أن فشل إنقلاب الجنرالات في تركيا، قد فتح الباب واسعا على مصراعيه أمام الرئيس التركي كي يعيد التموضع وصياغة سياسات تركيا الجديدة، ففشل الإنقلاب كان هدية قدمت له على طبق من ذهب، وإردوغان قبل الهدية بكل امتنان، ولم يضيع الوقت في اقتناص الفرصة بل وصنع نتائج تتناسب وضخامة الحدث، فالدعم الجماهيري كان كبيراً ومغرياً جداً، وهو ما عول عليه إردوغان وساعده كثيراً في تخطي حقول الألغام التي عبرها.

لقد أسهمت مواقف الدول الغربية المؤيدة ضمنيا للإنقلاب، والدلائل الكبيرة على تورط الولايات المتحدة الأمريكية في دعمه والتخطيط له إلى دفع الرئيس التركي لتسريع عملية التقارب مع روسيا، وإعطائها دفعة قوية، تمثلت في زيارته التاريخية القصيرة لروسيا واجتماعه مع بوتين لمدة ساعتين، حيث تم وضع الخطوط العريضة للعلاقات المستقبلية بين البلدين، أما الإنعطافة التركية الكبيرة باتجاه إيران فيمكن ربطها بمواقف الدول العربية، حيث أعلنت دولة خليجية واحدة هي قطر دعم الشرعية وإدانة الإنقلاب، في حين كان الفتور سيد الموقف لدى دول أخرى تأخرت في إعلان موقفها، لكن الثابت أن هناك دول عربية أيدت الإنقلاب سراً أوعلناَ، بل وربما لها يد في هذه المحاولة، وهو مالم يتم الكشف عنه حتى اللحظة.

يخطئ من يعتقد أن زيارة الرئيس التركي لروسيا قد نجحت في تحقيق اختراق لحل الأزمة السورية، أو حتى الاتفاق على آليات عمل مشتركه، فهي أقصر من أن تبحث في هكذا أمور، لكنها وبكل تأكيد أرست أسساً يمكن البناء عليها لاحقا، وبحيث تفتح المجال أمام تنسيق وتشاور يمكن أن ينجح في تقريب وجهات النظر بين البلدين، وبالتالي فيمكننا القول إن الزيارة كانت عبارة عن تتويج لجهود المصالحة بين البلدين وتأكيد على الرغبة في إعادة العلاقات التركية – الروسية إلى سابق عهدها، بل ومحاولة تطويرها.

المسألة السورية الوحيدة التي ربما تم طرحها في الإجتماع هي حلب، وذلك لما لها من أهمية كبرى بالنسبة لتركيا، التي تشير الأحداث إلى أنها قد وضعت ثقلها السياسي والعسكري خلف معركة فك الحصار عن المدينة، ودعمت معركتها لوجستيا وصولا إلى تحريرها، وهي رسالة تركية موجهة في المقام الأول للولايات المتحدة الأمريكية، التي سّرَعت بدورها العملية العسكرية على جبهة منبج فوجهت فصائلها المفحوصة "قسد" ودعمتها بمئات الغارات الجوية، في محاولة جديدة لاستخدام الورقة الكردية للضغط على تركيا وفصائل المعارضة السورية المسلحة، وبهذا فإن المواجهات على الأرض أصبحت في جزء كبير منها معارك كسر عظم تركية – أمريكية.  

لكن أين روسيا من كل هذا؟ 

صحيح أن روسيا تدعم الأسد، لكنها لا تدعمه لسواد عينيه، بل لأنه لايزال بالنسبة لها النظام الضامن لمصالحها ووجودها في المنطقة، لكن الأحداث وخاصة ما مرت به العلاقات الروسية – التركية من أزمات أثبتت أهمية تركيا بالنسبة لروسيا أقله إقتصاديا وأمنيا، خاصة في ظل الحديث عن مشاريع وصفقات ضخمة تبلغ قيمتها حوالي مئة مليار دولار، إضافة إلى أهمية تركيا كدولة جوار لها تأثيرها الكبير على مسلمي دول الإتحاد السوفييتي السابق، فإذا ما أضفنا لكل هذا مشاريع التنقيب عن النفط والغاز في سورية والمنطقة، إضافة للقواعد العسكرية الروسية في سورية، فإن تكامل البلدين وحاجة كل منهما للأخر تصبح ملحة.

الأهم من هذا كله هو أن روسيا لا تستطيع التورط في سورية إلى ما لا نهاية ويهمها أن يكون هناك طوق نجاة تركي، وبالتالي فإن روسيا تجد نفسها مضطرة لإيجاد نوع من التنسيق فيما يخص الشأن السوري، أقله السماح بتحقيق توازن على الأرض وبحيث يمكن إطلاق محادثات جديدة تفضي بإيجاد تسوية ترضي كافة الأطراف وتضمن المصالح الروسية في سورية، وهنا يمكننا ملاحظة التوقيت الهام لهدية بوتين لإردوغان والتي تمثلت بإغلاق مكتب رعاية المصالح الخاص بحزب العمال الكردستاني، لكن وفي المقابل فإننا سنجد أن روسيا تحاول الظهور بمظهر الثابت على مواقفه، وهي في سبيل ذلك كثفت غاراتها على إدلب وحلب، حيث دفع المدنيون من دمائهم ثمن هذا البازار المقام على الأرض السورية.

إيران بدورها تدرك أهمية تركيا بالنسبة لها، وهي لن تنسى أن تركيا كانت رئتها التي تنفست من خلالها إبان العقوبات الاقتصادية المفروضة عليها لسنين، حيث بادرت إيران بإرسال وزير خارجيتها ظريف إلى أنقرة ليجتمع بالرئيس التركي ووزير خارجيته، فور إنتهاء زيارة إردوغان لروسيا، فتركيا اليوم ليست هي تركيا الأمس، وتجربة الإنقلاب الفاشل جعلتها أكثر قوة وتماسكا، في حين أن إيران غارقة في سلسلة أزمات عسكرية وإقتصادية وسياسية، ومتورطة في كافة الحروب التي أشعلتها في المنطقة، إضافة إلى تململ شعبي وبوادر ثورات بدأت تتفجر وتهدد وحدة الأرض الإيرانية، فباتت بحاجة ماسة لمن يساعدها في الخروج من أزماتها، خاصة في ظل التقارب الروسي التركي، أما ما يعزز هذا الإعتقاد، فهو التصريحات التي أعقبت زيارة ظريف لأنقرة وأكدت على أن التنظيمات الكردية هي الخطر المشترك الذي يجب التصدي له، ومن يدري فقد نشهد قريبا ولادة تنسيق ثلاثي، تركي – إيراني – روسي تسعى له إيران، أما الأسد فلم يعد سوى سلعة في سوق المزايدات الإقليمية والدولية، فالكل يعلم يقينا أن الأسد ليس سوى دمية يتلاعبون بها، وأن حاجتهم إليه شكلية تفرضها ضرورة توحيد شرائح الموالين خلفه، لكنهم سيتخلون عنه حالما تم الاتفاق على البديل.  

لقد مثلت زيارة إردوغان لروسيا صفعة قوية للغرب الذي شعر بحراجة الموقف وخطورة هذا التقارب وإنعكاساته، لأنه سيفرض تنسيقا إستخباراتياً بين الجارتين روسيا وتركيا، الأمر الذي يعتبر تهديداً لأمن حلف شمال الأطلسي ودوله، حراجة الموقف الغربي تكمن في خسارته للعديد من جنرالات الجيش التركي، الذين تم تسريحهم أو إعتقالهم على خلفية الإنقلاب الفاشل، فمثل هؤلاء كانوا وبلا أدنى شك عيوناً تركية للولايات المتحدة والناتو.

أبرز نتائج زيارة إردوغان لروسيا هو ما صرح به الرئيس التركي عن التوصل لإتفاق يقضي بإنشاء آلية تنسيق ثلاثية إستخباراتيه – عسكرية – سياسية مهمتها بحث الملف السوري، وبالتالي فإن هكذا تنسيق يتم بعيدا عن أعين الغرب سيشكل إرباكا حقيقيا للخطط والسياسات الخاصة بسورية، وقد نرى إنعكاساته قريباً على الأرض، فوزير الدفاع التركي "فكري إيشيق" صرح قبل أيام، أن تركيا وروسيا اتخذتا قراراً مشتركاً فيما يخص الشأن السوري، مؤكدا أن تركيا عازمة على مواصلة القتال ضد تنظيم "الدولة الإسلامية “وهكذا فإن تركيا ستدخل وبقوة على خط المواجهة المباشرة ضد تنظيم الدولة الإسلامية، في حين أن روسيا قد تمتنع عن إستهداف باقي فصائل المعارضة التي تدعمها تركيا بما فيها جيش الفتح. 

يمكننا القول وبالإستناد إلى مجمل الأحداث والتطورات الأخيرة أن أبرز ملامح المرحلة المقبلة هي إتفاق على محاربة تنظيم الدولة الإسلامية، والتصدي لطموحات الأحزاب الكردية في المنطقة، وتعزيز التنسيق بما يضمن مصالح الدول الثلاث، تركيا وإيران وروسيا ويجنبها أي صدام محتمل، والأهم من ذلك هو الاتفاق على مصير الأسد، وإيجاد تسوية ما تنجح في إخراج الجميع من المستنقع السوري. 

 

تحسن العلاقات التركية – الروسية، فتح الباب أمام إنعطافة روسية، تمثلت في الاتصالات التي جرت في تركيا بين الروس وممثلين عن بعض الفصائل السورية المسلحة المحسوبة على الولايات المتحدة الأمريكية، أهمها لواء المعتصم الذي إنحصرت مهمته في قتال تنظيم الدولة الإسلامية، ومع ذلك فإنه لايزال من المبكر الحديث عن أي نتائج إيجابية لهذه المحادثات، لكن هذا يثبت حاجة روسيا الماسة للدور التركي في أي حوار مستقبلي مع فصائل المعارضة السورية. 

يتخوف البعض من أن التقارب التركي الروسي الإيراني قد ينعكس سلبا على وجود المعارضة السورية في تركيا، وهذه مخاوف غير مبررة، فلا تركيا ولا أي من الدول الأخرى في وارد التخلي عن أوراق قوتها ولا تغيير سياساتها بشكل جذري، ووجود المعارضة السورية على الأرض التركية مصدر قوة لتركيا كحاضن إقليمي للمعارضة السورية، وهو ما يمنحها القدرة على المناورة، في مواجهة باقي الأطراف.   

الصراع في سورية اليوم هو صراع دولي وإقليمي، وأشبه ما يكون بملعب كرة قدم تتبارى فيه الفرق في دوري إسقاط وتصفيات، يخرج الخاسر فيه من البطولة، أما الكرة فهي سورية وشعبها، فما يحدث هو صراع تتغير فيه الأجندات والتحالفات، فتنطلق معارك وتتوقف أخرى، ليستمر الشعب السوري في دفع الفاتورة من دم أبناءه وللسنة السادسة على التوالي، فكل ما يحدث للسوريين أثبت أن دمائهم ليست سوى ثمن بسيط لمعارك الكبار التي لا يهمها إلا مصالحها.

قد يفهم من كلامي هذا أنني أتهم تركيا بالمتاجرة بالدم السوري، والإجابة هي لا، فتركيا اليوم لا تملك الكثير من الخيارات، وهي تدفع ثمن تقاعسها العسكري على مدى خمس سنين، لذلك فهي تحاول تعويض ما فات، وتسعى جاهدة للخروج بأقل الخسائر، الأمر الذي يفسر دعمها لمعركة فك الحصار عن حلب، وهو ما يعتبر إعترافاً ضمنياً بتأخرها في مد يد العون لفصائل المعارضة في الشمال السوري، لهذا فإن معركة حلب في غاية الأهمية لتركيا التي تراجع موقفها كثيراً، وباتت في أمس الحاجة لنصر ما، يحفظ لها ماء وجهها في سورية.

تركيا أدركت أن عدوها الحقيقي الذي لا يؤمن جانبه هو الولايات المتحدة الأمريكية، وزيارة الرئيس التركي لروسيا كانت مهمة جداً، وذلك لجهة إثبات أن لديها خيارات كثيرة غير التحالف مع الولايات المتحدة الأمريكية والإتحاد الأوروبي، المتهمان بدعم ومساندة الإنقلاب والتآمر عليها، وروسيا أثبتت أنها لاعب مهم، وأنها قادرة على قلب الموازين، والتغريد خارج السرب الغربي، الذي يريد لروسيا أن تكون مجرد أداة لتنفيذ المهام القذرة نيابة عنه، لكن يبقى السؤال هو: هل ستنجح تركيا في لجم التغول الروسي في الدم السوري، وهل ستستطيع إقناع إيران بوقف تدفق الميليشيات الطائفية إلى سورية؟ هذا ما سيجيب عنه مقبل الأيام. 

التعليقات (4)

    kk

    ·منذ 7 سنوات 8 أشهر
    من أخرج بريطانيا من الاتحاد الأوربي فجأة كان يعي تأثير الرهيب هذا على العالم ولا يبالي فلا تقف أي دولة ولا حاكمها عثرة .. إذا انتصر الحق في الشام تخرج الناس من العبودية وخاصة الامريكان وحياة العبودية التي يعيشونها وهذا مالا يتمناه من يريد استعباد البشر ..

    kk

    ·منذ 7 سنوات 8 أشهر
    ادعو كل من بقي على قيد الحياة من ام او اب او جد او جدة او اخ او اخت او ابن او ولد او رضيع تيتموا او خطيبة او عروس فقدت عزيزها .. ادعو كل من سافر او هاجر ليرى اللؤم والحقد والكراهية ببلاد ظنها مأوى لأولاده. ادعو كل من تشرد وتاه .. وكل من نهب وسرق وكل من أغلقت كل السبل بوجهه وكل من فقد عضوا وكل مريض لا يجد دوائه .. ادعو كل هؤلاء واكثر ان يدعو الله بوابل عليكم وعلى من واليتم وعلى خزلانكم لله والدين قبل خزلانكم لنا وعلى كل مجرم وخائن وابن حرام و ندعو الله ونحن على يقين بالإجابة وثقوا بان هناك إجابة

    ابو الليل

    ·منذ 7 سنوات 8 أشهر
    كيف اميركا التي تدعم الاكراد ضد تركيا تستخدم قاعدة انجرليك بموافقه تركية. هل الروس فعلا لاعب دولي ام عصا بيد امريكا

    شوية يونس

    ·منذ 7 سنوات 8 أشهر
    بل سورية التى تحرق المجوس والروس والمتصهيين العرب والامريكان
4

الأكثر قراءة

💡 أهم المواضيع

✨ أهم التصنيفات