روسيا وتبريرا لحربها على الشعب السوري، إتخذت من محاربة الإرهاب عنوانا عريضا، أطلق يدها تماما في سورية، فاستطاعت ومن خلال آلاف الغارات الجوية التي إستمرت لأكثر من 6 أشهر أن تغير المعادلة العسكرية على الأرض لصالح نظام الأسد وحلفائه، فنظام الأسد وقبل التدخل العسكري الروسي، كان في حالة شبه غيبوبة وموت سريري، لكنه سرعان ما أخذ بزمام المبادرة ونجح في تحقيق إختراقات مهمة وعلى أكثر من جبهة مستفيدا من عاملي الدعم الجوي الروسي والبري الإيراني، إضافة إلى التنسيق العملياتي مع غرفة الموك، التي أثرت بدورها على قرار الفصائل المسلحة في الجنوب، ومنعتها من القيام بما من شأنه وقف التدهور الحاصل على جبهة حوران تحديدا.
غرفة الموك استثمرت وجود فصائل المعارضة المسلحة في الجنوب السوري وحصرت مهمتها في حماية الحدود ومنع تسلل أي مجموعات جهادية.
وحدات الحماية الكردية بدورها إستفادت من الزخم الكبير للتدخل العسكري الروسي والغربي الذي أحرق الأخضر واليابس في شمال حلب، وحققت تقدما كبيرا سيطرت من خلاله على معظم المناطق الحدودية السورية مع تركيا.
روسيا كانت مهدت إقليميا لتدخلها العسكري المباشر في سورية من خلال اجتماع رباعي ضم قادة كل من روسيا ومصر والأردن والإمارات.
صحيح أن العدوان الروسي على الشعب السوري, قد نجح في منع إنهيار نظام الأسد إلا أنه فشل في حسم الصراع على الأرض فوصل طريقا مسدودا، نتيجة العديد من العوامل، التي كان أحد أهمها، الصراع على النفوذ، بين كل من روسيا وإيران، إضافة إلى قدرة الفصائل السورية على إمتصاص الصدمة، وإعادة التموضع ومن ثم البدء بسلسلة معارك ناجحة، في أرياف حلب واللاذقية، الأمر الذي أعاد الصراع الى نقطة الصفر، هذا عدا عن الحرب على تنظيم الدولة الإسلامية في كل من العراق وسورية، والتي نجحت الى حد ما في العراق لكنها فشلت في سورية وعلى أكثر من جبهة، كدير الزور والرقة وريف حمص الشرقي، رغم النجاح في إستخلاص مدينة تدمر من يد التنظيم، لكنها بقيت محاصرة من ثلاث جهات.
التدخل الروسي في سورية أسهم في تغييب الحالة الأوكرانية دوليا، وهو ما يمكن تفسيره بالتواطئ الغربي مع روسيا، والذي ترك أوكرانيا وحيدة في مواجهة العدوان الروسي والمشروع الإنفصالي للأوكرانيين الروس، مع العلم أن الغرب هو الذي ورط أوكرانيا في مواجهة غير متكافئة مع روسيا، حيث برز التخلي عن أوكرانيا مباشرة بعد لقاء ميركل بالرئيس الأمريكي أوباما في الشهر الثالث من العام 2015، وما صدر عن اللقاء "بأن زعيمي الدولتين تبادلا الآراء في هذه المسألة، وإتفقا على أنه لم يحن الوقت لتوريد أسلحة دفاعية فتاكة لأوكرانيا، وأن أوباما وافق على إعطاء الفرصة لبذل الجهود الدبلوماسية السياسية". وهو ما عاد وأكد عليه السفير الألماني لدى روسيا، ريوديغير فون فريتش، في الشهر السابع من نفس العام، عندما قال: "بأن بلاده لن تمد أوكرانيا بالأسلحة، لأن ألمانيا تعتقد بأنه لا يوجد حل عسكري للصراع الدائر في هذا البلد.
"روسيا ليست خصما ولا تشكل تهديداً" هي آخر المواقف الصادرة عن زعيم أوروبي، هو الرئيس الفرنسي فرانسوا أولاند، وذلك على هامش مشاركته في قمة حلف شمال الأطلسي، يوم الجمعة الثامن من هذا الشهر، تموز \\ يوليو حيث صرح للصحفيين قائلا: "إن مهمة حلف الأطلسي ليست أبدا التأثير في العلاقات التي ينبغي أن تربط بين أوروبا وروسيا، وبالنسبة لفرنسا فإن روسيا ليست خصما وليست تهديدا".
كلام "فرانسوا أولاند" هذا لم يكن الأول من نوعه، فقد سبقته المستشارة الألمانية ميركل التي قالت: "إن توفير الأمن لأوروبا بدون مشاركة روسيا أمر مستحيل، وإعلان مبادئ التعامل بين روسيا وحلف شمال الأطلسي "الناتو" يبقى أساس إقامة العلاقات الفعّالة والمثمرة مع روسيا.
ما يعزز الإعتقاد برغبة الإتحاد بالتقارب مع روسيا هو وجود تقارير عن رغبة ألمانية حقيقية، يقودها كل من وزيري الطاقة والإقتصاد زيغمار غابرييل، ووزير الخارجية فرانك فالتر شتاينماير، وتهدف إلى تحسين العلاقات مع موسكو، وإعادتها إلى سابق عهدها إبان حكم غيرهارد شرودر.
تصريحات المسؤولين الأوروبيين هذه، ليست مجرد تصريحات ودية، بل هي تعبير عن رغبة حقيقية لإيجاد نوع ما من الشراكة مع روسيا، ويمكن تفسيرها في سياق الأزمة التي يعيشها الإتحاد الأوروبي، خاصة بعد تصويت البريطانيين لصالح الانسحاب من الإتحاد، الذي يحاول بدوره جاهدا إمتصاص الصدمة، ويعمل على منع أي إرتدادات سلبية، قد تؤدي لإنهياره، وهو ما يفسر التقارب باتجاه روسيا.
الولايات المتحدة الأمريكية، ومعها أوروبا، يدركون تماما حاجتهم للدور الروسي، خاصة في منطقة الشرق الأوسط، فروسيا وبسبب العقلية المافياوية الإستخباراتية التي تحكم زعيمها بوتين، فشلت حتى الآن في أن تكون قطبا عالميا، منافسا للولايات المتحدة أو الإتحاد الأوروبي حتى، لكنها بقيت تعتاش على الأحداث، وتحاول توظيفها بما يعزز حضورها كشريك ليس إلا، وبالتالي فهي لا تمانع أبدا في تنفيذ المهام القذرة نيابة عن الآخرين.
روسيا اليوم مؤهلة وبقوة لتكون شريكا فاعلا للاتحاد الأوروبي، الأمر الذي يعطيه دفعة سياسية وعسكرية وإقتصادية كبيرة، نظراً لما تتمتع به من إمكانيات يمكن للاتحاد الإستفادة منها، والتعويض من خلالها عن إنسحاب بريطانيا، التي كانت تتواجد بعضوية غير كاملة، وذلك بسبب إشتراطاتها المستمرة على الإتحاد الأوروبي، ومطالبتها بوضع مميز فيه، فبريطانيا ومن خلال تبعيتها للولايات المتحدة الأمريكية، كانت بمثابة حصان طروادة أمريكي، داخل القلعة الأوروبية.
الإتحاد الأوروبي وفي حال إستطاع إستقطاب روسيا كحليف إستراتيجي فإنه سيعوض وإلى حد كبير عن خروج بريطانيا منه، وسيستطيع التحرر قليلا من الهيمنة الأمريكية، هذا إضافة للتأثير الروسي على العديد من دول القارة الأوروبية التي لازال بعضها يدور في الفلك الروسي.
ما حدث لاحقا هو أن حلف الناتو قرر دعم جبهته الشرقية من خلال نشر 4 كتائب، في إستونيا ولاتفيا وليثوانيا وبولندا، كما أن قادة الحلف أكدوا على إلتزامهم بتوفير سبل حماية الدول الأعضاء من الهجمات الجوية، حيث تم الإعلان عن بدء تشغيل المرحلة الأولى من نظام الدفاع الصاروخي، ولا شك أن أوباما الذي حضر آخر إجتماع له مع الحلف قبل إنتهاء ولايته الرئاسية، قد عمل جاهدا على منع أي تقارب أوروبي – روسي، من شأنه أن يبعد الإتحاد الأوروبي عن دائرة الهيمنة الأمريكية، خاصة بعد خروج بريطانيا منه، وهو ما تجلى في القرارات التي إتخذها الحلف.
لا حدود لدهاء السياسة الأمريكية، التي وظفت قضية الدبلوماسيين الروس الذين طردتهم، على خلفية إعتداء الشرطة الروسية على أحد دبلوماسييها، قبل شهر من اليوم، حيث تفاعلت القضية بعد قيام روسيا بطرد دبلوماسيين امريكيين وأثناء إنعقاد قمة حلف الناتو في وارسو، الأمر الذي أشاع جوا من التوتر داخل الإجتماعات، وبما يخدم هدف الإدارة الأمريكية.
التحرك الأمريكي في قمة الناتو أثمر عن جملة من القرارات التي إعتمدها الحلف، حيث ومن خلال هذه القرارات يمكن لنا ملاحظة أن الولايات المتحدة قد ورطت دول الإتحاد الأوروبي مجددا وفي عدة ملفات ستبعد الإتحاد عن روسيا وستجعل من المستحيل على أوربا الفكاك من القيد الأمريكي، فإدارة أوباما كانت قررت خفض قواتها في أفغانستان الى 8500 جندي لكنها عادت وألزمت دول الإتحاد الأوروبي بإعادة تفعيل مشاركتها، وإرسال المزيد من الجنود الى العراق وأفغانستان وبحجة تدريب القوات الحكومية لهذين البلدين. إضافة إلى إرسال طائرات إستطلاع "إواكس" إلى المنطقة لدعم التحالف الدولي في حربه على تنظيم الدولة الإسلامية، هذا عدا عن تشكيل الكتائب المقاتلة ونشرها على حدود أوروبا الشرقية في مواجهة روسيا، وكذلك تحسين الدفاعات الإليكترونية، والبدء بتشغيل المرحلة الأولى من برنامج الدرع الصاروخية للحلف.
الولايات المتحدة حاولت جاهدة طمأنة الروس، وإعطائهم الإنطباع بأنهم حلفاء لها، وذلك من خلال إطلاق يدهم في سورية، ولاحقا رفع مستوى التنسيق معهم فيما يخص الحرب على التنظيمات المصنفة إرهابية، لكنها وأمام التطورات المهمة في المنطقة وجدت نفسها مجددا في مواجهة مع الروس الذين أرادتهم تابعا وأداة لتنفيذ المهام القذرة في سورية.
حدثان مهمان دفعا الإدارة الأمريكية للاستدارة باتجاه المواجهة مع روسيا، حيث تمثل الأول بإنسحاب بريطانيا من الإتحاد الأوروبي، الذي بدأ بدوره إرسال رسائل ودية لروسيا، والثاني الصفعة التي وجهتها تركيا للولايات المتحدة بعدم التنسيق معها قبل إعتذارها عن إسقاط الطائرة وفتح صفحة جديدة من العلاقات مع الروس، الذين أرسلوا أول طائرة روسية تحمل على متنها 189 سائحا روسيا، وهبطت في منتجع أنطاليا التركي بتاريخ التاسع من هذا الشهر.
من خلال ما صدر من قرارات عن قمة حلف شمال الأطلسي "الناتو" التي عقدت في وارسو على مدى يومين، فإن العنوان العريض لهذه القمة كان "ترويض الدب الروسي وإبقائه حبيس قفصه، وتوحيد الجهود باتجاه العدو المشترك للجميع ألا وهو التنظيمات الجهادية في المنطقة"، وهو ما سيبقي روسيا في الواجهة، حيث سيستأنف الحلف إجتماعات المجلس الأطلسي – الروسي، في مقره في العاصمة البلجيكية بروكسل، وذلك بعد أكثر من عامين من اللقاء الأخير بين الطرفين، في نيسان \\ إبريل 2014، حيث كانت الإجتماعات قد توقفت بعد العدوان الروسي على أوكرانيا، وكذلك من خلال إجتماعات وزراء دفاع التحالف الدولي ضد تنظيم الدولة الإسلامية في واشنطن في العشرين من الشهر نفسه.
التقارب التركي – الروسي الأخير سيحرر روسيا ومعها دول الإتحاد الأوروبي وتركيا، من الكثير من الضغوط السياسية والاقتصادية والعسكرية، وسيفتح آفاقا جديدة للتعاون والتنسيق، ليس أمنيا فقط، بل في عدة مجالات منها الطاقة والاقتصاد ومكافحة الهجرة والحرب على ما يسمونه "الإرهاب"، خاصة في ظل التقارب التركي – الإسرائيلي الأخير، الذي سيعني الكثير لأوروبا وسيكون عنوانه إقتصادي بامتياز، "غاز البحر الأبيض المتوسط، من الجنوب والروسي من الشمال".
دول الإتحاد الأوروبي لا تنفق أكثر من 1.4 من ميزانياتها على الدفاع، لهذا فهي تعتمد في حماية أمنها على الولايات المتحدة الأمريكية، وبالتالي فهي قد تجد نفسها لاحقا أمام سيناريو، يجبرها الاعتماد على نفسها خاصة في حال وصول ترامب الى البيت الأبيض، فالرجل شكك علنا في جدوى الإنفاق العسكري للحلف والولايات المتحدة خارجيا.
اللافت للنظر هو أنه وبعد مرور أسبوعين على تصويت البريطانيين بالموافقة على الانسحاب من الإتحاد الأوروبي، فإن دراسة نشرت إستطلاعات لرأي الشارع في أكثر من دولة أوروبية، أظهرت إنخفاضا ملحوظا في شعبية كافة الأحزاب اليمينية المتطرفة، وذلك على عكس كافة التوقعات، في حين أن بريطانيا نفسها لازالت مهددة بالتفكك بعد انسحابها من الإتحاد.
لا يبدو أن الدب الروسي قادر على التعلم من أخطائه، ولا إستيعاب حقيقة المخطط الأمريكي المرسوم له، لكن يبقى هناك هامش كبير لمناورة كافة الأطراف، التي يمكنها إعادة رسم سياساتها، والتموضع بحسب ما تقتضيه مصالحها الإستراتيجية العليا، فهل سنشهد تغيرا جوهرياً في خارطة التوازنات الدولية والإقليمية، أم ان الأمر سيقتصر على مجرد تعاون إقتصادي وتنسيق أمني، بين كل من الإتحاد الأوروبي وروسيا؟ لتبقى الولايات المتحدة هي القطب العالمي الأوحد المتحكم في مسار الأحداث؟ وهل سيبقى الدب الروسي مجرد تابع ينفذ المهام القذرة؟ أم أنه سيقلب الطاولة على الجميع؟ وكيف ستنعكس مجمل هذه التطورات على الشأن السوري؟ هذا ما سيكشف عنه مقبل الأيام وطبيعة الرد الروسي على تصعيد الحلف الأطلسي عسكرياً!
التعليقات (2)