ما شكل السلطة القضائية في المرحلة الانتقالية؟

ما شكل السلطة القضائية في المرحلة الانتقالية؟
في دولةٍ لم ترسخ فيها قيم الديموقراطية بعد، تكون أشد الحاجة الى رقابة القضاء، فبه تصان الحقوق والحريات، وبدونه تهدر تهتك، وإلى ساحة القضاء يهرع الناس يلتمسون فيه العدل والإنصاف، فالناس أمامه سواء، لا يرهب أحداً لقوته، ولا يستخف بحق أحد لهوانه وضعف حيلته، فالقضاة هم ضمير الأمة، ورمز إرادتها، وأصلها في إعلاء كلمة الحق والعدل التي أودعها الله أمانة بين أيديهم، وإحكام القضاء في هذا السبيل مصابيح يآتم بها الهداة.

أولاً: منهجية النظام في إسقاط السلطة القضائية

السلطة القضائية جزء من كيان الدولة، ولن تكون معلقة في الهواء، أو متفردة في صحراء، هي جزءُ من كل، تدور مع نظام الدولة حيث دار، لذلك منها تعرف أحوال الدول، وبها يقاس تطورها، ودورها في حماية الحقوق والحريات مؤشر على ديموقراطية وشفافية الدول وعدمها.

لقد نصت الدساتير السورية السابقة جميعها على مبدأ فصل السلطات، وحددت السلطات بثلاث، تشريعية وتنفيذية وقضائية، لكن العقيدة الدستورية السورية لم تجعل السلطات ثلاث، بل اثنتان تشريعية تضع القوانين وتنفيذية تنفذ القوانين، واعتبار القضاء فرعاً من السلطة التنفيذية، وإن مبدأ استقلال القضاء لا يعدوا أن يكون من مقتضيات حسن سير العدالة.

1-تغول السلطة التنفيذية على القضاة

إن النظام السياسي في سورية يعلم أهمية ودور السلطة القضائية في حماية الحقوق والحريات ومواجهة الاستبداد ومناصرة المظلومين وردع السلطات الأخرى عند تجاوزها.

لذلك وضع يده رئيس الجمهورية على السلطة القضائية، من خلال ترأسه لمجلس القضاء الأعلى الذي يعد بحق الهيئة الإدارية العليا التي تتحكم بسير عمل وزارة العدل والقضاة، وينوب عنه وزير العدل الذي يعتبر من أعضاء السلطة التنفيذية ودخيل على السلطة القضائية.

أضافة للنص الدستوري الذي شكل القاعدة للتغول على السلطة القضائية من قبل وزير العدل، أعطاه القانون الدور الأكبر في تسمية بقية أعضاء مجلس القضاء، مما جعل المجلس يدور في فلك الوزير، ولا يرفض له مقترح وله هيمنة مطلقة عليه، لا بل وصل الأمر بأحد وزراء العدل يقرر ويكتب المحضر دون دعوة أعضاء المجلس ويرسله لهم مع المراسل للتوقيع فقط.

ولإن المحامين العامين في المحافظات يتبعون إدارياً لوزير العدل وخاضعين لسيطرته، لذلك عمل الوزراء على إعطائهم سلطات ومهام تفوق بكثير ما هو موكول لهم، ولا سيما في مجال اقتراح التشكيلات القضائية، أو حتى أخذ الرأي في أداء القضاة، ومن خلال هذا الدور تغول على الفروع مثلما سيطر على المركز.

2-السلطة التشريعية ترسم وتراقب الطريق للقضاة

تقوم السلطة التشريعية برسم الطريق للقضاة من خلال القواعد القانونية الناظمة لعمل القضاة وتقييم أدائهم، فجميع القواعد القانونية الناظمة للسلطة القضائية من إنتاج السلطة التشريعية.

ومن خلال آلية المراقبة المخولة لها على وزير العدل، تراقب بشكل غير مباشر عمل السلطة القضائية، ولا يوجد نص دستوري يثني السلطة التشريعية عن هيمنتها.

بل على العكس عملت الدساتير على دعم أنياب السلطتين التشريعية والتنفيذية بوسائل غير مشروعة، وفي أحيان كثيرة قدرت أنها مشروعة لاتكائها الى تلك العقيدة الدستورية التي تعلن–زيفاً-استقلال السلطة القضائية وقضاتها في مادة، ولا تعمل بما تقول في سائر موادها.

3- سياسة واقعية لإسقاط السلطة القضائية

لم يحترم النظام السلطة القضائية، ونظر إليها دائماً بعين الريبة والشك في ولائها، ولم تحظَ السلطة القضائية بثقة النظام الاستبدادي في سورية، لذلك عمل بشكل ممنهج على إسقاط السلطة القضائية في نظر المجتمع، فتعمد على إظهار السلطة القضائية بشكل متواضع، وعمد الى اظهار الهيبة والمظهر للسلطات الأمنية.

ولم يعمل على الاستقلال المالي سواء للسلطة القضائية أو للقاضي، لذلك حتى عند تحسين واقع القضاة ربطه بضريبة مباشرة على المواطن الذي يراجع القضاء، مع زيادة الضرائب المفروضة على الدعوى حتى يضطر المواطن لصرف النظر عن اللجوء للقضاء.

ويعلم النظام في سورية إن العدالة البطيئة والعدالة الغائبة أو بغير تنفيذ سواء بسواء، كل منها سوء وظلم بين، لإن العدالة ليست فقط هي إعطاء كل ذي حق حقه، ولكنها إعطاء كل ذي حقُ حقه في الوقت المناسب.

من هذا المنطلق عمل على تقليص عدد القضاة قياساً بحجم الدعاوى المنظورة، من أجل إطالة أمد التقاضي الذي سيؤدي الى احجام الناس عن مراجعة القضاء، وتكوين صورة سلبية عن السلطة القضائية.

ولتكتمل المهمة ترك القضاء عرضة للإعلام الرسمي، ليصوره بشكل ممنهج بأنه فاسد ومفسد، والنظام محق بعدم الاعتماد عليه في مهمة العدل التي لا يصلح لها، في حين إن ذات الإعلام يعلم علم اليقين بممارسة وفساد الأجهزة الأمنية، ومع ذلك لم نقرأ حتى بالخطأ كلمة تمسهم.

لقد عمل النظام بشكل ممنهج نصاً وواقعاً على تهميش وتشويه السلطة القضائية، وبالتالي إبعادها عن دورها في حماية حقوق وحريات المواطن، والنتيجة تخلى المجتمع عن احتضانها وحمايتها.

ثانياً: السلطة القضائية والتغيير المأمول

حتى يتمكن القضاة من القيام بمسؤوليتهم، وأداء الأمانة الملقاة على عاتقهم، فلابد من أن يتحقق للسلطة القضائية الاستقلال، ويقصد به ألا يخضع القضاة في ممارسة عملهم لسلطان أي جهة أو سلطة أخرى، وعليه يجب أن تستقل السلطة القضائية عن السلطتين التشريعية والتنفيذية.

1- استقلال السلطة القضائية عن التنفيذية

إن مبدأ استقلال القضاء عن السلطة التنفيذية من حيث مضمونه له وجهين وجه إداري وأخر فني.

فأما الوجه الإداري ويقال العضوي، فيقصد به الفصل بين العضو القضائي والسلطة التنفيذية من الناحية الإدارية حيث تقوم السلطة القضائية بإدارة نفسها بنفسها، وتجب الملاحظة بإن آلية الاستقلال تختلف ما بين المرحلة الانتقالية وما بعدها.

المجلس الدستوري والمرحلة الانتقالية

في المرحلة الانتقالية يجب أن يتوقف مجلس القضاء الأعلى، ويحل محله مجلس دستوري يضم عدد فردي من القضاة، برتبة مستشار، ولا يشكل حسب تسلسل الأقدمية، بل يتم الاختيار حسب الكفاءة في قيادة المرحلة الانتقالية، ويمارس السلطات التي كانت مخولة لمجلس القضاء الأعلى الذي يجب إن يتوقف للأسباب التالية:

• إن تشكيل مجلس القضاء الأعلى يعتمد على التسلسل في الأقدمية، ولإن أعضاء مجلس القضاء الأعلى واللذين يلونهم بالأقدمية من القضاة بقوا مع النظام يدورون في فلكه، يأتمرون في أوامره، ولا يخرجون عن طاعته، لا بل يبررون جرائمه، ويسوغون إنشاء محاكمه الاستثنائية، لذلك هم غير مؤهلين لإحداث تغيير في بنية العمل القضائي.

• إن قضاة محكمة النقض-باستثناء واحد أو اثنين-بقوا في مواقعهم، ولم يتخذوا أي موقف اتجاه ما حدث في سورية من ظلم وقهر وقتل وتدمير، لذلك فإن الاعتماد في المرحلة الانتقالية هو اعتماد على قضاة هم شركاء بصمتهم في الجريمة.

• إن المرحلة الانتقالية هي مرحلة استثنائية بكل المقاييس، وتحتاج لتغيير ثوري وجذري في بنية السلطة القضائية، لن يستطيع القيام به من دجن وروض كل هذه السنين من أعضاء مجلس القضاء الأعلى، لا بل وساهم في إضعاف وتهميش دور السلطة القضائية.

• يجب إلغاء موقع وزير العدل في المرحلة الانتقالية ونقل صلاحياته لرئيس المجلس الدستوري، حتى يتم تحرير القضاة من هيمنة الوزير، وتكون المرحلة الانتقالية فاصل زمني بين فترة الهيمنة السابقة وفترة التحرر اللاحقة.

وربما يدعي أحدهم بإن قضاة مرتبة النقض لم يتخذوا أي موقف لإيمانهم المطلق بإن القاضي يجب أن يبتعد عن السياسة ودهاليزها، نجيبهم بإن ما حدث ليس له علاقة في السياسة، لإن العمل السياسي ينصب على تكوين الأحزاب والترشح وشغل مواقع سياسية، وإن ما حدث لا علاقة له بكل ذلك، إن رفض الظلم والقتل والتدمير وتدمير البلد وتهجير أهله هو من صميم مهام القضاة، وهم أولى الناس بمحاربة الظلم بكافة أشكاله، ومن لم يفعل ذلك يفقد صفة القاضي لا بل يفقد صفة الإنسان.

مجلس القضاء الأعلى وتجديده في المرحلة الدائمة

إذا كنا بحاجة في المرحلة الانتقالية لتوقيف مجلس القضاء الأعلى، فإننا بأمس الحاجة لعودته فور انتهاء تلك المرحلة، لإن من أهم ضمانات تحقيق مبدأ استقلال القضاء إنشاء مجلس القضاء الأعلى تشكيلاً قضائياً خالصاً ليضمن الى حد كبير مظهر الاستقلال في مواجهة السلطة التنفيذية.

ولأنه الجهاز الإداري الداعم لاستقلال القضاء يجب أن يكون مستقلاً، ومتمتعاً بكافة السلطات اللازمة لإدارة شؤون السلطة القضائية وتصريف أمورها بموجب نصوص دستورية.

ونرى أن يتم تشكيل لجان داخل مجلس القضاء الأعلى تتولى كل منها جزء من اختصاصاته كما يلي:

•لجنة تشريعية تعمل على وضع القواعد المنظمة للسلطة القضائية وحماية القضاة، ويشترط في هذه القواعد ألا تخالف الدستور ودون الأضرار بالحقوق المرتبطة بالضمانات والمبادئ الأساسية للتقاضي.

•لجنة شؤون الأعضاء: وتهتم بالتعيينات القضائية والترقية والنقل والندب والإعارة.

•لجنة الإداء القضائي: وتهتم بمتابعة وتقييم الإداء القضائي وتلقي الشكاوى ومعالجتها.

•لجنة مالية: تشرف على أعداد الموازنة المالية الخاصة بالسلطة القضائية، وتشرف على تنفيذها بشكل مستقل عن السلطتين التشريعية والتنفيذية.

أما الوجه الأخر للاستقلال فهو الاستقلال الفني والوظيفي، ويقصد به استئثار القاضي بنظر قضاياه والفصل فيها، دون تدخل من جانب أي سلطة لا بالترغيب ولا بالترهيب وهو استقلال ينبغي أن يكون كاملاً ومطلقاً.

ولكن هل يكون القاضي مستقلاً بالنظر في قضاياه، وهو فاقد لأمنه ويحيط به الخوف من كل جانب، ومستهدف من جميع السلطات؟

بالتأكيد أنه غير مستقل، لإن أمن القاضي ركن لازم لإقامة عدله، فإن كان القضاء هو المصدر الأساسي لأمن المجتمع، فلا ترقب من قاضي أمناً يفتقده، ولا تنتظر من قضائه حقاً هو منه خائف.

ذلك إن أدوات عمل القاضي ليست مجرد القلم والأوراق التي يطالعها أو يدون فيها، وإن حواسه لا تقف عند السمع والبصر وإنما بنفس هادئة مطمئنة فيما تقضي وكيفما تقضي.

وعلى ذلك فإن أمن القاضي-بكافة أنواعه ومستوياته-هو ما يتوجب تأمينه ليكون استقلاله تاماً ومنجزاً حيال جميع السلطات.

2-استقلال السلطة القضائية عن السلطة التشريعية

السلطة التشريعية –بشكل عام-تملك مكنة التشريع وآلية الرقابة، ومن خلالهما تستطيع التغول على السلطة القضائية.

فمن خلال مكنة التشريع تستطيع أن تسن قواعد قانونية متعلقة بصميم عمل السلطة القضائية، فترسم لها الطريق وتحدد لها التوجه، وهو ما ينظر أليه على أنه تغول من قبل السلطة التشريعية وخرق لمبدأ فصل السلطات.

وهو ما تنبهت له الدول في وقت مبكر من القرن الماضي وأعطت حق التشريع للسلطة القضائية فيما يتعلق بعملها، ومن هذه الدول الولايات المتحدة الامريكية التي أصدرت بعام 1934 قانونRules Enabling Act والذي جاء بعد كفاح من قضاة المحاكم الاتحادية استمر قرابة السبعين عاماً، وبمقتضاه فوض الكونجرس المحكمة العليا وجميع المحاكم سلطة سن وإصدار القواعد القانونية المتعلقة بالشؤون الإدارية والإجرائية للمحاكم بشرط ألا تتعارض مع القواعد المقررة في الدستور.

لذلك يتوجب إعطاء السلطة القضائية مستقبلاً حق إصدار قرارات لها قوة القانون بما يتعلق في تنظيم شؤونها، وعدم ترك هذا الأمر للسلطة التشريعية.

ولإن السلطة التشريعية تمارس الرقابة على أعضاء السلطة التنفيذية ومنهم وزير العدل، فإذا كان له أي سلطة على القضاء بشكل مباشر أو غير مباشر، ستتحول الرقابة عليه الى رقابة وتدخل بشكل غير مباشر بأعمال السلطة القضائية وخرق لاستقلالها.

من هنا يجب إبعاد وزير العدل عن أي عمل يتعلق بالقضاء، وحصر مهامه في الأشراف الإداري على الموظفين، وعلى تنفيذ الميزانية الخاصة بالوزارة، وعليه يجب العمل على تحقيق الاستقلال للسلطة القضائية، واستقلال القاضي، وإعادة الهيبة للقضاء كسلطة، وعودة الوقار للقاضي، من خلال ثقافة مجتمعية منهجية.

لإن القضاء المستقيم والمقتدر-كما يقول المستشار طارق البشري-لا يمكن الاستغناء عنه، ولا بديل له لكي تحل الخصومات داخل الجماعة الحضارية بالوسائل السلمية المشروعة، لأنه به وحده تتحول الخصومات من وسائل استخدام العنف لحماية الحقوق أو لاقتضائها الى وسائل استخدام الحجج والأسانيد الحقوقية التي تعتمد على أحكام وقواعد معروفة سلفاً.

وإذا انحسرت هاتان الصفتان عن القضاء، وعمَ العلم بانحسارهما، فليس معنى ذلك فقط إن ظلماً سيشيع ولا إن حقاً سيهضم فقط، وإنما معناه الأخطر إن أساساً من أسس تحضر الجماعة انهار، لذلك فإن الأمن الاجتماعي يحتاج الى نظام قضائي مستقل ومستقيم ومقتدر.

التعليقات (0)

    0

    الأكثر قراءة

    💡 أهم المواضيع

    ✨ أهم التصنيفات