الحقوق والحريات العامة في المرحلة الانتقالية

الحقوق والحريات العامة في المرحلة الانتقالية
السلطة والحرية

القواعد الدستورية دائماً هي ثمرة نضال الحرية في مواجهة السلطة، لإن الحرية لا توجد إلا في مواجهة سلطة ما، وهدف الحرية هو الحد من تلك السلطة، ومع ذلك فلا بد من وجود السلطة لا نها ضرورة إنسانية، تماماً كما إن النظام والقانون ضرورتان كونيتان.

من يقول بالسلطة يقر بوجود قيود على الخاضع لها من جهة، وبضرورة النظام من جهة أخرى، وفي المقابل من يقول بالحرية سوف يقول بوجود القدرة حيالها، وبضرورة الامتناع عن التوجيه والإكراه والقسر والتقييد  من ناحية السلطة.

هناك إشكالية عامة تتعلق بالتوفيق بين ما هو فردي وبين ما هو جماعي، بين الحرية(الفردية) والسلطة (الجماعية)، انعكست العلاقة بين الحرية والسلطة على الدستور في ثلاثة اتجاهات:

الأول: يرى القانون الدستوري هو تعبير عن السلطة.

الثاني: يرى القانون الدستوري هو الذي يجب أن يعبر عن الحرية وينتصر لها.

الثالث: وهو اتجاه حديث تبناه (هوريو) ويرى القانون الدستوري هو فن التوفيق بين السلطة والحرية، لأنهما متلازمين ومتكاملين ومن غير الممكن فصلهما، فالسلطة ليست دائماً مناقضة للحرية والحريات العامة بحاجة الى نظام لكي يكون لها وجود واقعي.

من هذا الديالكتيك بين السلطة والقانون يمكن القول بأن الحرية والقانون متكاملان وليس متناقضين.

إن الحرية نسبية والسلطة كذلك، ويتعين على الدستور تحديد نسبة كل منهما بحيث يحفظ توازناً في العلاقة بينهما، يسمح بالقول بأن كل منهما له وجود محترم.

ومن هنا يظهر التساؤل كيف سيتعامل الإعلان الدستوري ضمن هذا المفهوم النسبي وكيف سيعالج إشكالية السلطة والحرية في المرحلة الانتقالية؟ إن معظم الفقهاء الدستوريين يرون إن الثورة لا تسقط كامل الدستور، بل تسقط الدستور السياسي ولا سيما القواعد التي تنظم عمل السلطات، أما الدستور الاجتماعي ولا سيما القواعد المتعلقة بالحقوق والحريات فأنها تمتاز بالثبات وعدم التغيير.

وقد حرصت الشعوب على تقديس الدستور الاجتماعي وتمييزه عن الدستور السياسي، ومن هذه الشعوب الشعب البريطاني الذي ترك الدستور السياسي للعرف، وحرص على تدوين الدستور الاجتماعي ولا سيما المتعلق بالحقوق والحريات حتى يضمن احترامها وعدم انتهاكها، فلا زالت وثائق الماكنا كارتا 1215 وملتمس الحقوق 1689 وغيرها ثابتة لم تتغير لغاية الآن.

وكذلك رافق إعلان حقوق الإنسان والمواطن الفرنسي 1789 جميع الدساتير الفرنسية التي تغيرت وبقي هو ثابت لم يتبدل، وبناءً عليه هل ستبقى النصوص الناظمة للحقوق والحريات في سورية بدون تغيير مثلما حصل في فرنسا بريطانيا وامريكا؟

الجواب بالتأكيد بالنفي، لأنه لا يوجد دستور اجتماعي أستقر في ضمير السوريين وأخذ شيء من القداسة والاحترام، بل على العكس هذه النصوص لها في نفوس السوريين من الكراهية والاشمئزاز أكثر من غيرها، لأنها كانت نصوص ذرائعية وبطريقة رخيصة ومكشوفة من أجل تثبيت السلطة على أنها سلطة شرعية. 

كما إن هذه النصوص ولدت ميتة، لإن كل فقرة تحدثت عن حقوق الإنسان في الدستور السوري انتهكت مادياً وتشريعياً من قبل السلطة قبل وأثناء وبعد وضعها.

لذلك يتوجب النص عليها في الإعلان الدستوري، وبصياغة ومضمون وضمانة مختلفة عن السابق، واحترام من الحكام والمحكومين لها، علنا ننشأ دستور اجتماعي يستقر في ضمير الجماعة السورية، هل تقبل الحريات التدرج؟

إن المرحلة الانتقالية تتميز بعدم استقرار أمني، فهناك من يقول بمنح الحرية والحقوق بالتدرج لأنها سنة الكون، وحتى لا تعود السلطة السابقة التي تغولت على الحريات سابقاً الى واجهة الحكم من خلال استغلال نصوص الحقوق والحريات. وبالتالي يجب أن تكون ضمانات الأفراد في ظل ثورة لم تنتهي أقل من ضمانات حرياتهم في ظل أمن مستتب.

يرد الدكتور محمد عصفور على ذلك بقوله (إنه ليس في احترام سيادة القانون ما يهدد أمن الثورة أو سلامتها، فالإجراءات التعسفية ليست السبيل لحماية النظام الثوري، وإنما يستمد هذا النظام حمايته من داخله، وليس من خارجه، وحماية النظام الثوري من الداخل تعني أن تلتزم الثورة في مبادئها، وألا توجد هوة بين ما تعلنه وما  يجري تطبيقه) ويتوجب علينا أن نستفيد من الأرث الإنساني في مجال الحقوق والحريات العامة، ففي فرنسا أو أمريكا أو حتى منظمة الأمم المتحدة فقد أعلنت جميعها حقوق الأنسان دفعة واحدة وطالبت بتطبيقها حالاً دون تأجيل.

كما إن السنن الكونية التي نص عليها التشريع الإسلامي لم يكن هناك تدرج في الحقوق، إنما التدرج ورد بالتكاليف والواجبات مثل تحريم الخمر، أما الحقوق فقد جاءت دفعة واحدة وغير منقوصة بقوله تعالى (ولقد كرمنا بني أدم).

إن هذه الحقوق لا تقبل التجزئة ولا التدرج ولا التأجيل، فهي حقوق ترتقي لمرتبة الواجب على الفرد والجماعة تطبيقها دون تأخير.

حقوق للجميع دون استثناء أو امتياز

إن الشعب السوري عانى بجميع مكوناته من الاستبداد، لإن الاستبداد ثقافة ينتجها المستبد ويوزعها على الجميع بالتساوي _على رأي الكواكبي_ من هذا المنطلق نرى إن أزمة الحقوق والحريات هي أزمة تخص الجميع فيجب أن تتم معالجتها بنصوص عامة تشمل الجميع دون تفرقة بين أحد منهم عبر النقاط التالية:

1- من خلال مفهوم المواطنة التي هي صفة المواطن الذي يتمتع بالحقوق ويلتزم بالواجبات في إطار الدولة التي يحمل جنسيتها.

ففي دولة المواطنة جميع المواطنين متساويين بالحقوق والواجبات ولا تمييز بينهم بسبب أي اختلاف، وبالتالي فإن القانون يحقق المساواة داخل المجتمعات، ويفرض النظام، ويجعل العلاقات بين البشر (متوقعة) أي تجري وفق تصور مسبق يعرفه ويرتضيه الجميع.

ويجب العمل من خلال دولة (المواطنة) على حماية جميع مكونات الشعب السوري ضمن بنية المجتمع وتشكيل حماية داخلية للجميع، لإن حماية الجزء حماية للكل، والخطورة تتأتى إذا تم اعتداء من الداخل على أي جزء والحماية كانت خارجية، فهي خطورة على الجزء المحمي لأنها تفصله عن محيطه وتضعه بحالة عداء مع باقي المكونات، وخطورة على الكل لإن الحامي الأجنبي سيتخذ من تلك الحماية ذريعة للتدخل والهيمنة والتعدي.

2- يجب العمل على نشر مفهوم وثقافة الأغلبية والأقلية السياسية، وإحلالها محل مفهوم الأغلبية والأقلية العددية، نشر هذه الثقافة سيؤدي الى خلق جيل خارق للطوائف والأعراق وقادر على التعايش دون شعور بعقدة التفوق أو النقص أو المظلومية.

3- إن إعطاء أي حق لأغلبية أو أقلية عددية دون غيرها هو إخلال بمبدأ المساواة، ويعتبر بمثابة امتياز وسيؤدي الى شعور بعدم المساواة والريبة عند من لم يشمله النص، وسينعكس لدى صاحب الامتياز

بخوف وتوجس وانعزال خشية أن ينزع منه ذاك الامتياز.

4- يجب علينا الاستفادة من تجارب الأخرين، ولا سيما دول الجوار التي نصت وعملت على تكريس الطائفية السياسية التي أدت الى توتر دائم ناجم عن عدم استقرار سياسي واقتصادي وأمني (مثل العراق ولبنان) وأدى تخبط الدولة والمؤسسات والقائمين عليها الى نسج شبكة من التصرفات والأقوال الطائفية لم يستطيعوا الانفكاك منها، بل على العكس الحالة الطائفية بازدياد وتتناسب طرداً مع عدم الاستقرار السياسي والأمني.

ضمانات للحقوق والحريات

لا يكفي النص على الحقوق والحريات في النصوص الداخلية، والمصادقة على الاتفاقيات الدولية، بل لابد من ضمان احترامها وحمايتها من طرف الحكام والمحكومين على السواء.

ففي الفترة الدستورية السابقة كان النص موجود والاعتداء المادي والتشريعي مترافق معه، ولم تحمي النص من الاعتداء الضمانات العامة التي يراها الفقهاء من وجود دستور يسمو على القوانين ينص على مبدأ فصل السلطات، لذلك لابد في المرحلة الانتقالية من النص على خطوات إجرائية إضافية لحماية الحقوق والحريات وتتضمن ما يلي:

1- إصدار تشريع يتضمن النص على عقوبات جزائية على كل من يعتدي على حقوق المواطنين وحرياتهم وتشديد العقوبة إذا كان الفاعل موظفاً أو لديه سلطة.

2- تفعيل الرقابة على دستورية القوانين وجعلها سابقة ولا حقة لصدور التشريع، وتوسيع حق الطعن بدستورية القوانين، وإعطاء هذا الحق للمواطن العادي في حال أستند في دعواه على مخالفة التشريع للنصوص المتعلقة بالحريات مثل ما هو حاصل في المادة 93 الفقرة 4 من الدستور الألماني.

3- تفعيل أليات مراقبة واحترام حقوق الإنسان، ويقصد بالأليات المراقبة تلك المؤسسات والهيئات والإدارات المسؤولة عن تنفيذ القانون والتحقق من أنها تلتزم بالمعايير الدولية والوطنية التي وضعت لصون حقوق الأفراد وحرياتهم.

هذه المؤسسات يجب أن تكون وطنية سواء كانت حكومية أو منظمات مجتمع مدني وإعطاءها الحيز اللازم لقيامها بالمراقبة حتى تحقق أمرين:

الأول: هو في خدمة فعالية هذه الحقوق والحريات.

الثاني: سيادي بالرد على المنظمات الدولية المسيسة التي تعتمد رقابة الحقوق والحريات وسيلة لتنفيذ أجندة سياسية وليست غاية للتحقق من تطبيق الحقوق والحريات.

إذاً الحرية هبة من الخالق، تلد مع الإنسان ويجب أن ترافقه الى اللحد، فلا يحق لأحد أياً كان أن يحرم منها الأخر، لأن الله الذي وهبنا الحياة وهبنا معها الحرية في نفس اللحظة ونفس السبب وفق ما قال جيفرسون عن الحرية، التي تغنى بها الشعراء، وأطرى عليها الفلاسفة، ودافع عنها الأحرار، ومات لأجلها الشهداء.

فلا يحق لأحد أن يؤجل أو يقسط أو ينتقص حقوق وحريات الشعب السوري الذي طال انتظاره لها، ودفع ثمناً لأجلها لم تدفعه إلا قلة من الشعوب، ولم يعد لديه صبر أكثر مما صبر على سرقة حقوقه وهدر حرياته.

التعليقات (0)

    0

    الأكثر قراءة

    💡 أهم المواضيع

    ✨ أهم التصنيفات