الورشات الدستورية المسيّسة..خطأ بالمفهوم أم تعمد بالخلط؟

الورشات الدستورية المسيّسة..خطأ بالمفهوم أم تعمد بالخلط؟
الإعلان الدستوري والورشات الدستورية المسيّسة ..خطأ بالمفهوم أم تعمد بالخلط؟

الثورة تغيير عنيف، يهز بنية المجتمع أفقياً وشاقولياً، فالتغيير الثوري أشبه بانكسارات الجبال السريعة تحدث تغييرات كبيرة ومؤلمة، والثورة فيما تتضمنه من معانِ، أصبحت عادةً لا تعني أكثر من مرادف مؤكد (للتغيير) ومن أولى الأشياء التي يطالب الثوار بتغييرها المنظومة القانونية، وأكثر أنواع القوانين التحاماً بالثورة الدستور، الثورة والدستور علاقة تبادلية، الثورة نتاج دستور فاسد أو تجاوز على دستور لم تحترمه السلطات، وأول وأهم أهداف الثورة إعادة صياغة العقد الاجتماعي والسياسي من خلال دستور جديد.

لذلك لا غرابة أن تكثر الندوات والورشات عن دستور سورية المستقبل بمجرد شعور مبني على التمني بقرب النهاية والبدء بمرحلة انتقالية، لكن الذي يدعو للغرابة ما نتج عن هذه الورشات من توصيات أو قواعد تتمنى تضمينها بالإعلان الدستوري في المرحلة الانتقالية، لأن هذه التوصيات ناتجة عن الخلط بين الدستور الدائم والمؤقت والإعلان الدستوري، وطبيعة كلاً منهم الناتجة عن الشرعية التي يستمد كلاً منهم وجوده منها.

هذا الخلط بين المفاهيم انتقلت عدواه الى الفئة الجماهيرية الواسعة التي عارضت عقد مثل هذه الندوات، ورأت بأن الدستور يستمد وجوده من الشعب السوري بأكمله، كما أن المتتبع لما جرى في الفترة الماضية يجد بأن الجميع يتحدث عن الدستور دون تفرقة بين الدستور الدائم والمؤقت والاعلان الدستوري، لذلك نجد من اللازم أن يتم التفرقة بين هذه المصطلحات.

شرعية الدستور الدائم

الدستور الدائم يتضمن مجموعة القواعد الأساسية في الدولة المعاصرة التي تنظم شكل الدولة، ونظام الحكم فيها، وتنظيم السلطات العامة من حيث تكوينها واختصاصاتها، وعلاقاتها مع بعضها البعض وبالمواطنين، وتقرر حقوق المواطنين وحرياتهم وفلسفة نظام الحكم.

ويوجد في الدول المستقرة سياسياً وأمنياً واجتماعياً، ويستمد شرعيته من آلية وضعه وإصداره، وجرت العادة أن يتم وضعه في الدول الديمقراطية بأحد الطريقتين:

الأولى أن يتم انتخاب أعضاء الجمعية التأسيسية المكلفة بوضع الدستور من الشعب، فتقوم بالصياغة والتصويت عليه واصداره، الثانية أن يتم اختيار لجنة فنية للصياغة ومن يثم يعرض على الشعب للاستفتاء.

ويستمد هذا الدستور شرعيته من الشعب الذي فوض وانتخب أعضاء الجمعية التأسيسية ابتداءً، أو بالتصويت على الدستور انتهاءً، وهذا الأسلوب الديمقراطي لا خلاف على شرعيته ومشروعيته، وفي حالتنا السورية سيأتي هذا الدستور لاحقاً بعد نهاية المرحلة الانتقالية ولا يمكن تطبيقه أثنائها.

مشروعية الدستور المؤقت

الدستور المؤقت ويضعه بالعادة الثوار أو الانقلابين بعد استيلائهم على السلطة، وتبرز فيه فلسفة الثورة أو الحركة الانقلابية سواء في مقدمته أو ضمن مواده.

وهذا النوع من الدساتير يدعي أنه يمتلك المشروعية وإن كان فاقد للشرعية، لأن الشرعية تعريب لكلمة égalité ومرادفة لكلمة القانونية وتعني ما يطابق القانون الوضعي، أما المشروعية تعريب لكلمة Légitimité والتي تعني ما يطابق الاخلاق والعقل وبالتالي رضا الشعب عن هذه السلطة وليس شرطاً مطابقة السلطة للقانون في المشروعية.

لذلك لا توجد رابطة حتمية بين شرعية السلطة ومشروعيتها، فقد تكون السلطة شرعية لأنها استلمت السلطة وفق قواعد الدستور القائم، ومع ذلك لا تملك المشروعية لعدم حيازتها على رضا المحكومين، وقد تكون الحكومة تحمل صفة المشروعية وغير شرعية في ذات الوقت، مثل حكومة الثورة أو الانقلاب، لأنها تحقق أهداف الجماعة وبالتالي تحوز رضا المحكومين فهي تمتلك المشروعية، ولكنها استولت على السلطة بطريقة تخالف القواعد الدستورية لذلك هي غير شرعية.

وبناءً على هذا التمييز البسيط والواضح يمكن القول بعدم استقامة الحديث عن شرعية الثورة وهي خرق للشرعية (بمعنى القانونية) لذلك فالأصح أن توصف الثورة بالمشروعية.

يتضح مما سبق إن الدستور المؤقت حائز للمشروعية وفاقد للشرعية، وهو يأتي في حال انتصار الثورة التي تمتلك رؤية واحدة وتجتمع في ظل قيادة واحدة، وهو غير متوفر في الثورة السورية على الأقل في المرحلة الحالية، لذلك لا يمكن تطبيق هذا النوع أيضاً.

نظرية الضرورة والإعلان الدستوري

ولأن المرحلة الانتقالية تحتاج لقواعد دستورية لتسييرها بغض النظر عن طول المرحلة أو قصرها أو حتى شكلها، إذاً لم يبق أمامنا إلا الإعلان الدستوري الذي يستمد حقه في الوجود والتطبيق من (الضرورة الواقعية) لأن احترام قواعد الشرعية التي توجب العودة الى الشعب للمصادقة على الدستور تعتبر ضرباً من المحال في المرحلة الانتقالية.

إن المبدأ الذي يضع سلامة الدولة فوق القانون قد وجد قديماً عند الرومان، وأصبحت القاعدة إن الضرورة تخرس القانون، وعرفت مؤلفات القانون الدستوري ما يعرف بالدكتاتور الواقعي، حالة الضرورة هي تعبير عن قصور القواعد القانونية عن حماية النظام الأساسي في الدولة، ويؤدي تطبيق تلك القواعد الى تعريض أمن وسلامة الدولة لأضرار جسيمة، او توقف كيان الدولة.

وقبل الاسترسال في شرح النظرية يجب في حالة الضرورة التفريق بين الحفاظ على استمرار الدولة وبين استقرار نظام الحكم وبقاء الحاكم في مكانه، فالضرورة التي نعنيها تنصب على الأولى أي الحفاظ على استمرار الدولة وبقاءها، إذاً حالة الضرورة تنشأ للدولة حق يبيح ما يتخذ باسمها وتحت الحاحها من إجراءات غير شرعية ولا مشروعة.

ويرجع أساس هذه النظرية والتي تم البناء عليها لاحقاً الى فكرة التحديد الذاتي التي قال بها هيجل ((فالقانون ليس غاية في ذاته، ولكنه وسيلة لتحقيق غاية الدولة البعيدة في حفظ بقائها، وصيانة أمنها، وتأكيد اطرادها وتقدمها ونموها، فإذا قدرت الدولة أن القانون لم يعد كفيلاً بتحقيق هذه الغايات، كان لها بمقتضى سيادتها أن تنحي القانون جانباً، وأن تحقق أهدافها بكل الوسائل المتاحة لها.

فإذا أدت حالة الضرورة إلى تخلف القانون عن واقع الحياة كان للدولة أن تدافع عن نفسها وبقاءها بكل الوسائل حتى لو خرجت على مقتضى القانون.

ولأن القاعدة التي تحكم الحياة الإنسانية إن الدائم يقدم على العرضي، واللامحدود يقدم على المحدود، ولما كانت الدولة وحمايتها هي الهدف الذي تسعى إليه المنظومة القانونية والدستورية، تصبح حماية الدولة والتضحية بكل هذه المنظومة القانونية التي تعوق هذا الهدف واجباً مقدساً وحقاً مطلقاً.

هذه النظرية التي أوجدها الفقهاء الألمان ظهرت تجلياتها في الحربين العالميتين، ووجدت الدول نفسها أمام منظومة قانونية ودستورية عاجزة عما يحدث من حولها من أجل حماية الدولة وبقاءها، فاضطرت الدول للأخذ بهذه النظرية وأيدها الفقه في تلك الدول، وخاصة في فرنسا فيرى الفقيه هوريو (إن تطبيق القانون رهن بالظروف العادية أما الظروف الاستثنائية فإن سلامة الدولة توضع فوق القانون).

وقد لخص الفقيه بارتملي نظرية الضرورة الألمانية بقوله (لا تخضع الدولة للقانون إلا عندما تريد وفي الحدود التي تريد وفي الوقت الذي تريد)، لذلك يجمع غالبية الفقه الفرنسي على إن استخدام إجراءات الضرورة ليس مجرد رخصة تترخص الحكومة في استخدامها، إنما هي واجب يرقى الى مستوى الالتزام متى توفرت شروط الضرورة كأن يوجد خطر جسيم وحال يهدد الدولة مثل حالة الحرب والعصيان المسلح.

وعليه فأن فكرة الضرورة تجد سندها في الواقع وليس في القانون، وأننا نختلف مع الفقه الألماني بأن حالة الضرورة قانونية وأنها مطلقة، ونتفق مع الفقيه دوجيه بأنها مصدر مؤقت ومشروط في أن معاً.

إذاً القاعدة إن سلامة الدولة هي القانون الأعلى، لذلك يجب التسليم بجواز خرق قواعد الشرعية إذا وجدت ظروف استثنائية تهدد الدولة لأن الظروف الاستثنائية تتطلب حلولاً استثنائية.

خصائص الإعلان الدستوري

لإن المرحلة الانتقالية ظرف استثنائي بالغ التعقيد والخطورة، وهي تشبه حالة الاستشفاء التي يمر بها المريض حتى يتعافى، فهي حالة ضرورة حقيقية، ومنها يستمد الإعلان الدستوري حقه في الوجود والتطبيق، فهو إذاً يستمد شرعيته من الواقع الذي تفرضه الضرورة.

ولأن الضرورة يجب أن تقدر بقدرها، لذلك يتوجب عدم التوسع في الإعلان الدستوري الناظم للمرحلة الانتقالية وتحميله أكثر مما يحتمل، لأنه لا يمتلك الشرعية الدستورية ولا المشروعية الثورية.

لذلك يجب أن يبقى الإعلان الدستوري أسير الغاية التي يسعى لتحقيقها، وهي تسيير أمور الدولة حتى لا تتوقف الحياة فيها، بمعنى تسيير مؤقت للسلطات فقط، دون التطرق لغير ذلك، لأن الإعلان الدستوري هو من صنع الخبراء الدستوريين وتفرضه حكومات الأمر الواقع، ويستمد شرعيته من الضرورة وليس من أرادة الشعب، لذلك يتمتع الإعلان الدستوري بخصائص يستمدها من حدود الضرورة التي أوجدته وهي كما يلي:

الإعلان الدستوري جامع

لإن المرحلة الانتقالية تتسم بالحساسية المفرطة من حيث أنها تفصل بين النظام الدكتاتوري الشمولي والديموقراطي، والفترة قصيرة، لذلك يجب أن تكون الآليات التي تعتمدها سلطات المرحلة الانتقالية تراعي هذه الحساسية، بحيث تستوعب الجميع ولا تستثني أحداً.

وحتى تكون كذلك يجب أن تكون القواعد الدستورية جامعة ومجمع عليها السوريين، فتبتعد عن الأمور الخلافية أو التي تثير إشكالية أو حساسية لدى أي مكون سوري، لأن الإعلان الدستوري مؤقت شرعيته استثنائية لا يتحمل حل إشكاليات تحمل صفة الديمومة، مثل شكل الدولة أو أسمها أو علاقتها بالدين أو أيدلوجية وفلسفة الحكم القادم، وتترك هذه الأمور للدستور الدائم صاحب الشرعية والمشروعية والديمومة فهو أقدر على معالجتها.

والتجارب التاريخية للدول تؤكد عدم التطرق لهذه الإشكاليات أثناء المرحلة الانتقالية، فدولة جنوب افريقيا بقيت في المرحلة الانتقالية من عام 1992 الى عام 1996 لتعلن بعدها الفيدرالية، ومن يدرس جميع الإعلانات الدستورية يجدها لا تحدث تغييرات جوهرية بل تركز على قواعد إجرائية لا خلاف عليها.

الإعلان الدستوري إجرائي

فهو ينظم عمل السلطات الثلاث في الدولة، وكيفية تكوينها، وماهي سلطاتها، وطبيعة العلاقة بين تلك السلطات، فهي قواعد إجرائية شكلية تبتعد عن النظريات الفلسفية والأيدلوجية وما يتفرع عنهم.

 الإعلان الدستوري مؤقت

لأن وجوده مرتبط بوجود الضرورة التي أوجدته، والضرورة بطبيعتها مؤقتة، فهو يستمد وجوده من شرعية واقعية مؤقتة، لذلك هو محكوم زمانياً بالفترة الانتقالية المؤقتة التي تبدأ بسقوط الدستور السابق وتنتهي بولادة الدستور الدائم الجديد.

الإعلان الدستوري إنساني

هو لا يحرم أحد من السوريين من حقوقه الطبيعية ولا حرياته العامة، لذلك هو يقوم على مبدأ المساواة ليصل الى دولة المواطنة، وينص على الحقوق والحريات العامة، لإن حقوق الإنسان تستمد شرعيتها من القانون الطبيعي عند البعض من الفقهاء، ومن القانون الالهي عند البعض الأخر، وبكلتا الحالتين لا تحتاج الى شرعية من الشعب لإقرارها لإن وجودها سابق لوجود الجماعة.

من هنا نكتشف الخطأ في التوصيات التي رفعتها الورشات الدستورية من أجل تضمينها في الإعلان الدستوري، ومنها ورشة فيينا التي تطرقت لشكل الدولة، وعلاقة الدين بالدولة، فجاء خطئها بأنها حملت الإعلان الدستوري أكثر مما يحتمل، فهو بشكل أو بأخر ضرورة والضرورة تقدر بقدرها، والتوصيات المذكورة ليس الإعلان الدستوري هو زمان أو مكان طرحها، بل يختص بها الدستور الدائم الذي هو حق للسوريين وحدهم الذين أقسموا بدمهم أن لن يسمحوا لأحد أن يسلب منهم هذا الحق مرة أخرى.

الدكتور عبد الحميد عكيل العواك: دكتوراه في القانون الدستوري 

                 

التعليقات (0)

    0

    الأكثر قراءة

    💡 أهم المواضيع

    ✨ أهم التصنيفات