العمل الإعلامي بين الشرق و الغرب

العمل الإعلامي بين الشرق و الغرب
في آليات العمل الإعلامي و الصحفي العربي من جهة و الاوربي و الأمريكي من جهة ثانية هناك تفاوتٌ واضح للمشاهد العادي قبل المشاهد العارف بخبايا صناعة الرأي من خلال الصورة و نشرات الأخبار أو الدورات البرامجية التي يتم تقديمها، شاهدنا ذلك جليّاً على مدار السنوات الماضية منذ احتلال بغداد عام 2003 و الإعتداءات الإسرائيلية  المتكررة على قطاع غزة و أخيراً الثورة السورية التي اندلعت عقِب الإحتجاجات في درعا في آذار 2011.

أسباب اختلاف تناول الحدث بين وسائل الإعلام العربية و الأجنبية سواء الناطقة بالعربية أو بلغات أخرى مردُّهُ إلى زاوية النظر التي تنطلقُ منها تلك القنوات في تحليلها للخبر السوري بشكل خاص.

القنوات الفضائية العربية المملوكةُ للدولة خارج اعتبارات هذا البحث كونها تخضعُ لمنظوماتٍ متعددة يشكِّلُ الأمنُ أحدَ دعائمها الرئيسة، فالحديث هنا بين ثنائية العمل الإعلامي الفضائي الخاص في الشرق و الغرب، القنوات الفضائية العربية الإخبارية تفاجأت بالربيع العربي و حاولت تدارك ذلك الخلل فأوقَفَت كل خطوطها التحريرية بعد بضعِ خطواتٍ حاولت من خلالِها إظهار التوازن العام الذي بدا بارداً على الشاشة في أيام الثورة الأولى.

ثمَّ ما لبثَت أن انطلقت عبر شبكاتٍ من المراسلين تحاول نقل الحدث و تجييره سياسيا فاكتفَت في الفترة الأولى ببث روح التمرُّد لدى الشعوب الثائرة عبر فيديوهات مدروسة التأثير لكسر الصنم الخاص بالديكتاتور في قلب الشباب العربي، هذه الحالة من التغطية ما لبِثَت أيضاً أن دخلت في مسارات أكثر تعقيداً تتعلَّق بالدعم السياسي لبعض الفصائل أو التيارات الذي تمارسُه الدُول الداعمة في الأصل للمؤسسات الإعلامية فكانت القنوات الفضائية ذراعاً إعلامياً يُتيحُ بعض المساحة لناشطين ينقلون الحدث.

أما على الجانب الآخر من هذه الثنائية فيقَع الإعلام الغربي و الأمريكي الذي انتهَجَ مؤخَّراً- أي منذ ثلاث سنوات تقريباً- آلية جديدة في تغطية الحروب لم تحدث من قبل، حيث اعتمدت هذه الشبكات على مواقع التواصل الإجتماعي و المُدوّنات الموثوقة حيث قامت تلك المؤسسات بالإشتغال على تكوين قاعدة بيانات تعمل على مدار الساعة لتحليل الأخبار و المقاطع المصورة و التأكُّد من مصداقيتها ثم إطلاقها ضمن القالب التحريري الذي تشتغل عليه، و هنا برز الحدث السوري بصورة غير حقيقية حيث تم إبراز الطرفين المتصارِعَين "النظام و المعارضة" على أنَّهما أطراف متكافئة و هم بذلِك حيَّدُوا فكرة أصل الإجرام في العقلية العسكرية التي تحكم سوريا و وضعوها في سياقٍ واحد مقبول في الظرف الحربي الحالي من خلال استخدام كلمة " عنف متبادل".

و هنا لا بد أن نذكر القضية الأخيرة التي أُثيرت في مواقع التواصل الإجتماعي في الأول من مايو أيار الجاري حين أوردت شبكة بي بي سي العربية خبراً تُعلِن فيه قيام المجموعات المعارضة في سوريا باستهداف مدينة حلب، ذلك الخطأ " المقصود" و المنسجم مع سياسة بي بي سي منذ انطلاق الثورة السورية حتى اليوم سواء من خلال البرامج أو نشرات الأخبار أو الوثائقيات التي تم تقديمها، عادت الشبكة فيما بعد لتعتذر عنه نتيجة الضغط الذي سبَّبتهُ وسائل التواصل الإجتماعي.

بمقاربةٍ بسيطة نستطيع أيضاً أن نلمس الفرق بين القنوات الأجنبية الناطقة بالعربية و النُسَخة الأصلية منها، " نتحدث عن بي بي سي، سكاي نيوز، فرانس 24، دي اتش فِ لِ الألمانية"، في هذه المقاربة لا يمكن القول إن مهنية الصحفي هي التي تحكم العمل الإعلامي لأن هناك منظومة متكاملة يتم عبر معاييرها إختيار الطاقم التحريري، نتحدث هنا عن خط تحريري يقوم في جوهره على المساواة بين الضحية و الجلاد مع الأخذ بضرورة اتاحة ذات المساحة للقاتل و المقتول للظهور على الشاشة من منطلق حرية التعبير.

الإختلاف بين الشرق و الغرب ليس اختلاف في التجربة أو المهنية بالرغم أنّ الصحفي العربي ما يزال إلى حدٍّ كبير يلعب دور " شاعر القبيلة" و ذلك من خلال قيامه بالإشتغال بمؤسسة لا يتبنى خطابها التحريري، الإختلاف يقوم في جوهره على فكرة الإيمان بالحرية و الحق في التعبير عن الإختلاف، و بالرغم من هذا فإن التعميم بصورته المطلقة هو أمر خاطئ، الفكرة تقوم من الخلفية الثقافية في فهم الأشياء، فالغرب و وسائله الإعلامية عموماً لم تكن تُظهِر الديكتاتور العربي بصورتِهِ الحقيقية حتى قيام الثورات العربية، و ضمن هذه المعادلة الصعبة روَّجَت وسائل الإعلام الغربي لضربات الناتو التي عجَّلت بسقوط النظام الليبي مثلاً بينما لم تنحُ بهذا الإتجاه في المسألة السورية، ربما هذا يتعلق بشبكة علاقات عامة كان النظام الحاكم في دمشق قد هيَّأ لها من خلال دبلوماسيَّتِهِ في تلك الدول أو عبر مؤسسات ثقافية كان يدعمها بشكل دائم لإستخدامها وقت الحاجة.

و في ذات الوقت تخضع وسائل الإعلام الغربية إلى مزاجية و ذهنية المتلقي الغربي من خلال لعبة التقديم و التأخير في القضايا التي تهمُّه، تلك التي يأتي في مقدِّمَتِها القضايا الإقتصادية الداخلية و ملفات الضرائب و الرهن العقاري و مؤخراً الإرهاب الذي يتم التلويح به كسلاح فعَّال لضبط الشارع في المدن المختلفة.

طبيعة الإطار المعرفي للجمهور مهمة جداً في عملية التلقي للأخبار أو البرامج الحوارية أو عناوين الصحف، فالمتلقي الذي لا يملك أدنى معرفة عن تاريخ الصراع في الشرق مثلاً لن تُمثِّل الحالة الراهنة شيء في حساباتِه سوى من بابِها الإنساني و قد لاحظنا ذلك بشكل جلي في ملف اللاجئين الذي كان يعلو و يهبِط بحسب شمَّاعة الإرهاب أو بمنسوب الغرق في البحر الابيض المتوسط، النظرة المسبقة هنا تغدو هي الصورة النمطية التي ينطلق منها الغربي في تجسيد مخاوفه و يساعده بذلك التجسيد صحفي لا يدرك أبعاد الصراع في الشرق الأوسط مثلاً، الحالة العربية من هذا النموذج يمكن توضيحها بمثال عن تعامل الشارع العربي مع مذابح رواندا أو الحرب في الكونغو.

يمكن القول إن الإطار المعرفي يلعب دوراً كبيراً في خلق بيئة مقبولة لصناعة الرأي العام و تمرير المُراد من خلال جماهير مستعدة على تصديق كل ما يقال لها، و إن كانت القاعدة اليوم تقول إن المشاهد ذكي و عارف فإنّ الواقع أمامَ ذلك المشاهد يتفوّق على قدراتِه في التحليل و التركيب العقلي.

و من هنا اتَّبَعَت المنظومة الغربية ككل في سياق تغطيتها لملفات ساخنة في منطقتنا العربية من القاعدة الصحفية التي تعلّمناها منذ عشر سنوات تقريباً في معهد صحافة الحرب و السلام الألماني و التي تقوم على فكرةٍ واضحة تُفيدُ بأنه: إذا وقَعَ حادثٌ عرَضيٌّ في شارعٍ ما، فإنَّكَ كصحفي قادر على بناء خمس قصص إخبارية من خلال خمسة أشخاص مختلفين شاهدوا الحادث حيث يقوم كل واحد منهم بتقديم قصة مغايرة للآخر، و ضمن هذه اللعبة استطاع الإعلام الأجنبي بناء رؤيته الخاصة للمشهد في سوريا، فبدا متخبِّطاً لا يقارب الواقع في كثير من الأحيان خلا بعض القصص الأخبارية التي يتولّاها ناشطون يُتقِنون التحدُّث بلغات أجنبية.

أخلاق الصحافة فيما يتعلّق بقضايا الشرق الأوسط هي أمر نسبي يخضع لجملة من التعقيدات المبنية على مواقف مسبقة تعتمد في جوهرها على الخوف من التغيير أو السؤال الجدلي: ما هو البديل؟، طبعاً ليسَ من مهمة وسائل الإعلام بالمطلق الإجابة عن التساؤلات بل طرح تلك الأسئلة و ترك الباب مفتوحاً على الإجابات المتعددة، و بالتالي كان التعاطي اليومي مع الأخبار المليئة بالدم أو بالقتل أو بالتهجير أمر غير قابل للإستمرار في الإعلام الغربي أو الأمريكي فهو خاضع بدورِه أيضاً لبعض الظروف المتعلِّقة بالحالة الدولية، و من المناسب هنا تذكُّر الفترة التي أعقَبَت استخدام الأسلحة الكيميائية في الغوطة الشامية.

أيضاً هناك أمر حساس جداً في قضية التغطية الغربية للحدث في الشرق- سوريا نموذجاً- يتعلق ذلك بقضية المنافسة في السوق الإعلامي الغربي على الخبر الخاص بالثورة السورية، هذه المنافسة – في نقيض مع حالة وسائل الإعلام العربية- غائبة كليَّاً عن المشهد و هذا ما يمكن اكتشافه من خلال متابعة الصحف الأوربية أو الفضائيات الإخبارية غير الناطقة بالعربية.

الأمر الأخير الذي يمكن تسليط الضوء عليه في هذه المسألة يتعلق بكون وسائل الإعلام الغربية بالرغم من ترديدها الدائم لمبدأ الإستقلالية فإنَّها لا تخرج من دائرة تبعيَّتِها للمصالح الوطنية في الدول التي تستضيفها، و بالتالي تقديم وجهة نظر هذه الدول في القضايا الشائكة الخاصة بالجغرافيات المختلفة، فمثلاً قبل و خلال حرب العراق 2003، اشتغلت وسائل الإعلام بتركيز كبير على ضرورة التغيير في بغداد، و هذا التغيير لا تتعلق ضرورته القصوى في حرية الشعب العراقي بقدر ما يتعلق ذلك بالأمن الوطني الأوربي أو الأمريكي، هذه الحالة مفقودة اليوم، فملفات الإرهاب و اللاجئين تتقدّم على الحالة الإنسانية في كثير من الحالات.

سأختصر أخيراً على ذِكرِ حالَتَين فقَط، ففي مثل هذا اليوم 3 مايو أيار من العام الماضي، حضرتُ الإحتفال الأوربي باليوم العالمي لحرية الصحافة في مركز بوزار الثقافي الشهير في العاصمة البلجيكية بروكسيل، خلال أحد الجلسات النقاشية الخاصة بصعوبات تغطية الحدث في الشرق الأوسط، كانت تتحدث صحفية أوربية عن المشاكل التي تعرّضت لها خلال زيارتها للعراق في ذلك الوقت حيث تعرَّضت كثيراً لمواقف تدعوها للمواعدة و الخروج سويَاً من قِبَل رجال في أربيل!.

هذا بالضبط ما يريد الأوربي أن يسمعه فقط أي ما ينسجِم مع قناعاتِه المُسبَقة عن الشرق و سكَّانِه، أما الحالة الأخرى فهي جاري الثمانيني الذي بادرني بالأمس بسؤال أربكني حين قال: ياصديقي لقد شاهَدتُ تقارير إخبارية تتحدَّث عن حياة طبيعية بشكل تام في مقاهي حلب و في أحياء العاصمة السورية دمشق!.

أمام هذه المتتاليات اليوم نجد أننا كصحفيين سوريين في الوطن و في الشتات أمام مهمَّات كبيرة تتعلَّق في صلب وجودنا.

التعليقات (0)

    0

    الأكثر قراءة

    💡 أهم المواضيع

    ✨ أهم التصنيفات