حرية التعبير على مذبح الواقع

حرية التعبير على مذبح الواقع
تشيرُ الإحصائيات الحالية الصادرة في اليوم العالمي لحرية الصحافة على تدهور حريّة التعبير و فضاءاتها في العالم.

في اليوم العالمي لحرية الصحافة تجدّد جميع المؤسسات الدولية دعوتها لإطلاق الحريات المقيَّدة في أماكن عديدة من العالم، أمام الصورة الصادمة للتقارير السنوية التي تصدر عن هذه المؤسسات تبرزُ الحالة المأساوية الحقيقية لأشكال حرية التعبير في الوطن العربي عموماً، على الصعيد السوري شابَ هذا المصطلح الشيء الكثير من سوء الفهم و المبالغات في كثير من الأحيان منذ إنطلاق الثورة السورية حيثُ اتَّخذته كثيرٌ من الجهات السياسية ذريعةً للهجوم على الآخرين خاصة في ظل وجود فضاء مفتوح غير منضبط في وسائل التواصل الإجتماعي، هذا الفضاء الذي سيأتي وقت نكون بأمَسِّ الحاجة فيه إلى إيجاد صيَغ قانونية تدافع عن الجميع من الإساءة.

حرية التعبير مفهومٌ فضفاض لا يخلُ ميثاقٌ ديني أو إنساني إلا و يضمنه ضمن نطاق محاذير عديدة تمنعُ متداولي الحرية التعبيرية من الإقتراب منها، هذه المحاذير تختلف من جغرافيا إلى أخرى بحسب الإرث التاريخي التي تحملُهُ المنطقة الناظمة لهذه الضوابط، ففي سورية الأسد تتوقَّفُ حرية التعبير قبل ولادتها، فالطفل الذي يقضي سنواتهُ الأولى يتعلَّمُ الكلام يتكفَّلُ النظام الحاكم من خلال منظومة تعليمية متكاملة تُشرِف عليها الأجهزة الامنية القمعية تعليم ذلك الطفل فنون الصمت طيلةَ سنواتِ عمرِهِ القادم.

و ما إن يفكِر أحد ما بالإقتراب من سقف الحريات حتى تداهمُهُ القوانين الطارئة على التاريخ و الجغرافيا معاً و التي كانت تتنوَّعُ بين النيل من هيبةِ الدولة أو إضعاف الشعور القومي أو التخابر مع جهات أجنبية أو الإنتساب إلى جماعات محظورة أو المساس بمقام الرئاسة، هذه التهم الجاهزة في بلادٍ يحكمها الأسد منَعَت الجميع- باستثناءات طبعاً- من محاولات اختراق هذه المحاذير و الإكتفاء بحرية التعبير القائمة على فكرة المشاعر الجيَاشة في الولاء المطلق للسلطة الحاكمة.

فالحرية التعبيرية التي نصَّت عليها جميع الشرائع و القوانين تعتبر بشكل أو بآخر من مقومات الحياة في المجتمع الذي يعتمد على الحركة و التطور و هي الضامن لبقائه و استمراريَّتِه، و أمام هذه الحقيقة يتطلَّب من جميع الأطراف في المناطق التي تشهد صراعات أو التي تنعم باستقرار آني أن تشتغل على حماية هذه الحرية سواء كانت موجودة أم مصادرة، الإشتغال في حال المصادرة يبدأ في العمل على استردادها بصيغاتٍ عدَّة قد لا تُرضي المتابعين في بداياتها و لكنها حتماً ستصلُ في نهاية المطاف إلى حالة توافقية يُبنَى عليها ضمن إطار منظومة واضحة العلاقات.

منذ أيامٍ جمَعني حديثٌ مع أنتوني بلايغر الأمين العام للإتحاد الدولي للصحفيين، خلال نقاشنا حول فكرة حرية التعبير الصحفي قال لي: إن الصحفيين العرب ليسوا صحفيين فقط بل هُم مقاومون بالدرجة الأولى لأنهم يشتغلون ضمن بيئة صعبة للغاية و فيها من المحاذير الشيء الكثير، هذه المحاذير تتنوع في دوائرها بين الحالة السياسية أو المصالح الإقتصادية أو البيئات الإجتماعية المختلفة، و من هنا تغدو حرية التعبير في إبداء الرأي الخاص بالمواقف المختلفة و القناعات الفكرية و السياسية و الدينية أشبَه بالسير في حقل ألغام خاصةً في مقطعٍ عرضي يتخبَّط في كثيرٍ من الصراعات كالحالة السورية اليوم، الحالة السورية التي تصلُ فيها عقوبة "التعبير" إلى القتل أو الإعتقال أو الإقصاء في ألطفِ الأحوال.

منذ إنطلاقة الثورة السورية بدأ الواقع الصحفي من خلال شبكة أورينت أولاً و ما تلاها من مؤسسات إعلامية تمنَحُ مساحات واسعة للحريات المنضبطة و هنا واجهتنا كمختصين في الخطاب الإعلامي مسارَين: الأول يقوم على الوعي الفردي الخاص بقيمة الحرية و معانيها المتعددة و الثاني احساسٌ جمعي بخطورة بعض الممارسات غير الواعية في إنتاج خطاب إقصائي يقومُ في شعاراتِهِ على عناوين الحريَّات و غيرها من القِيَم السَامِيَة، هذا من جهة و من جهة أخرى مدى قدرة المجتمع على تَقَبُّل الحالة الجديدة القائمة على تحطيم التُهَم الجاهزة التي فصَّلَتها السلطة للإيقاع بأي أحد، تلك التي تتعلق بالمساس بأمن الدولة و النيل من هيبتها .. إلخ.

و في عملية الصهر بين الوعي الخاص و الجمعي نتجَ إنقسامٌ حاد في المجتمع بين مؤيِّد و معارض، أو بلغةٍ ثورية بين " شبّيح و ثائر"، فشَل الممازجة جعلتنا أمام خيار الإقصاء من منطلَق حرية التعبير، ذلكَ المنطلَق الذي ما لبِثَ أن دخَل على كلَي الضفَتين في زواريب ضيِّقة تتعلّقُ بالإنتماءات الإثنية و الدينية و الطائفية و العرقية مما أدى إلى زيادة الإنقسام بسبب مساحة حرية التعبير الواسعة التي أتاحتها الثورة السورية للمؤيِّد و المعارض على حدٍّ سواء!.

الحرية أيضاً لها صورٌ تعبيرية منها ما هو لفظي و منها ما هو فعلي، الفعل يدخل في حيِّز الوعي الخاص و العام لكل الخلفيات الثقافية و الدينية و الإجتماعية معاً لمجتمع ما، أما اللفظي فهو الذي يقوم على اللغة التي تُساهِم إلى حدٍّ كبير في خلق بيئة قادرةٍ على استيعاب هذه الحالة التعبيرية المفاجئة في سقفِها المفتوح، و هذا ما يقودنا هنا للحديث عن حرية الصحافة بوصفها أمراً مقدَّساً بإعتبارها تؤمن و تقوم على الأفكار أولاً و آخراً.

الصحافة اليوم في عيدها العالمي تعاني في كثيرٍ من البدان و بالمطلق يمكن القول إنه لا يوجد صحافة حرَّة بالمطلق في العالم فكل الوسائل الإعلامية تخضع لجملة من المعايير الخاصة بسياساتها التحريرية، و هذا المعايير تتفاوت بين مؤسسة و أخرى، و في هذا الإطار كانت الحالة الثورية السورية نقطةً واضحةً في التمييز على مستوى النظر في خطَّين أفقي و عمودي ضمن الرسم البياني العام الذي جمَع المؤسسات الإعلامية العربية و تعاملها مع الحدث و تبنّيه أو التملُّص منه.

اليوم تمثل حرية الصحافة في كثير من البلدان غطاءً للعديد من أشكال التعبير سواءً عن الرأي الشخصي أو الرأي الجمعي في إطار خاص أو عام، ضمن منظومةٍ فردية أو مؤسساتية، لذا تسعى تلك البلدان إلى ضمان حرية التعبير ضمن ما تنص عليه قوانين البلاد، و في الحالة السورية بما أنَّ البنية القانونية رخوة في هذا الإتجاه فإنَّ مفهوم حرية التعبير غير واضح المعالم في الماضي و الوقت الحاضر.

لا شكَّ أن الفكرة لا تولدُ من العدَم و هناك تجارب حيَّة تمَّ بناؤها عبر سنوات طويلة جداً من العمل الشاق للوصول إلى حالة الإختلاف الصحي و هذا ما نمر به اليوم رغم المخاض العسير الذي تشهده الثورة السورية، لكن الإشتغال على هذا الأساس هو أمر هام لأنه يتيح جملة من المعارف و الخبرات التي تؤسِّس لواقع جديد يحترم حقَّ الآخر بالإختلاف و قبل كل هذا التعبير بحرية ضمن ضوابط القانون الجديد.

حرية التعبير التي تقوم على الإقصاء و الإلغاء و الشطب هي حالة من الديكتاتورية حتى لو تجمَّلَت بمساحيق شعاراتية تعتمد على عناوين عريضة من الحريات العريقة، إلا أنها في جوهرها لا تقل شوفينيَّة عن الحالات القمعية التي عانَت منها بلادنا على وجه الخصوص في تاريخها الحديث، لذا يجب أن نؤسس لمفهوم حرية التعبير بدءاً من الواقع الصحفي الذي يُعتَبَر الممارسة الأولى التي ستضمن في المستقبل انتشار هذه الثقافة بين شرائح المجتمع ككل، حريَّةٌ لا تنطلِق من أُسُس دينية أو طائفية أو عرقية و إنما من أُسُس وطنية فقط و لتكون بهذه الصورة أسلوب حياة حقيقي نمارسه بشكل يومي و لا ندعو إليه فقط في مناسباتٍ عالمية كاليوم العالمي لحرية الصحافة.

التعليقات (0)

    0

    الأكثر قراءة

    💡 أهم المواضيع

    ✨ أهم التصنيفات