الإعلام السوري الرسمي .. الشعار يسبق الواقع

الإعلام السوري الرسمي .. الشعار يسبق الواقع
التوصيف الدقيق اليوم لحالة الصحافة السورية أنَّها " بين خِلَافَتين"، يبدو هذا العنوان في حقيقتِهِ تناصَّاً مع عنوان الكتاب الذي أصدره مؤسسة فريدرش ايبرت للكاتب و الباحث السوري عبدالله الحلاق،الكتاب يعتبر دراسة ثمينة عن واقع الصحافة السورية و مشكلاتها و تحدياتها منذ تأسيسها في فترة الحكم العثماني للمنطقة العربية وصولاً إلى ظهور الإعلام البديل الذي ظهر عقِب الثورة السورية و مروراً بفترة حكم البعث و وراثة الأسد الابن مقاليد السلطة في البلاد بعد موت والده، التاريخ يُعيد نفسه في مواقف عديده، ليس بذات الشكل و إنما يعيد إنتاج و تدوير الأحداث فتأتي مرَّةً على شكل ملهاة و أخرى على شكل مأساة و من خلال هذه النقطة يمكن الربط بين مختلف المراحل التاريخية عبر المعرفة الدقيقة ببنية الأنظمة السياسية التي تتعاقب تأريخياً على البلاد.

في الحديث عن الإعلام الرسمي الحكومي في سوريا، لا يختلف اثنان أن معوقات النهوض بأدواته المختلفة عديدة جداً، ولكن المتأمل في قراءة الواقع الإعلامي السوري قبل انطلاق الثورة في آذار من عام 2011 يجد أن الخطاب الرسمي تعامل بأحادية مفرطة حدّ الموت مع الشعب المتعدد الاتجاهات و الثقافات، و المخالف لما يقدمه هذا الإعلام بكل وسائله يقع في دائرة المتآمر على الدولة و النظام.

لابد من القول إن العنجهية و الأستذة و النظرة التي تشوبها الريبة دائماً هي أحد أهم المسببات التي جعلت الإعلام الرسمي يبتعد عن الشارع و همومه و مشاكله و قضاياه، فكان الحديث عن أزمة المجاعة في دارفور أهم من مناقشة قضايا استيعاب الخريجين الجامعيين الذين يفدون إلى كل العالم عبر مطارات سوريا الرئيسية، و ربما كان الحديث عن أزمة العنوسة في مصر و جماعات الدعوة و القتال في الجزائر وقضية الصحراء الغربية في المغرب أهم بكثير من الحديث عن أزمة السكن في سوريا ، ومن المؤكد أن مناقشة أسباب أزمة اليورو في ألمانيا يفوق أهمية طرح أسباب الأزمة المالية التي تصيب الشباب السوري و كشف الفساد الذي أسقط حكومة ايهود أولمرت في اسرائيل يفوق أهمية الحديث عن مشاريع وهمية كبوابات دمشق أو المتحلق الحلبي أو الحلم الحمصي!.

مارس الإعلام السوري قبل الثورة آلية واضحة تقومُ على الإيهام بالإقتراب من الشارع و لكن في جوهر المهمة كانت الإبتعاد الحاد عن كل م يتعلَّق بالمواطن، تم الإشتغال على ذلك من خلال تضخيم "الأنا" السورية، برز ذلكَ جليَّاً في أغاني و أهازيج تزخر بها ذاكرة السوري أينما حل، أنا سوري آه يا نيالي واحدة منها.

لم يكترث الإعلام السوري بطرح سؤال النهضة السياسي أو الإقتصادي بل لجأ إلى نظريات إعلامية قديمة تمّ تداولها في الأنظمة الديكتاتورية التي أعاد هوَ إنتاجها بشكل أكثر حداثي، هنا نتحدَّث عن رومانيا و إسبانيا و ألمانيا النازية و كوريا الشمالية، فإرتكزَت هذه الوسائل على مفاصل أساسية تقوم على التمجيد بالأب القائد و إظهارِه بمظهَر المخلِّص و المُنقِذ للأمة و من جهة ثانية كانت تبرِّر استمرارَهُ بالحكم من خلال شعار " تحرير فلسطين".

في هذا البحث لا نقدّم كشف حساب مع الإعلام الرسمي و لكن نحاول أن ندور في عناوينه العريضة التي انطلق منها لإدارة الأزمات المتلاحقة التي كانت تضربُ البلاد في العقدَين الأخيرين على أقل تقدير، فمع وصول الديكتاتوريات العربية للحكم- نظام الأسد- نموذجاً، لم تعد وسائل الإعلام تضطلِع بمسؤولياتها الأساسية فإنتقلَت من دور الرقيب و المتابع إلى مهمة تجميل الإحباطات و نكران الهزائم و إبقاء الأحلام على أُهبَة الاستعداد لولادة لم تكُن، فانتقلَت بذلكَ من مكانها فوق السلطوي إلى أسفل أقدام الرئيس و الأجهزة الأمنية.

في هذا المنطق اللامفهوم إلا في دولةٍ شمولية صارت الإنكسارات، انتصارات مزعومة، و صارت الخسارات، نجاحات كارثية، و ضمن هذه الدائرة مارست وسائل الإعلام الرسمية دورها من خلال شعارات متعددة و برامج موجَّهة مدعومة في بنية الدولة العميقة تستهدف أجيالاً شابَّة قادمة.

الحقائق التي يمكن ذكرها هنا كثيرة جداً و غنيةٌ بها الذاكرةُ السورية و تكفي عملية مقاربتها لفهم أسباب الثورة التي قامَ بها شبَّانٌ تغذوا على وسائل الإعلام الرسمية بوصفها باباً واحداً و وحيداً لمعرفة الأخبار، و من المناسب هنا أن نذكر النكتة السورية التي تطالب الناس بفتح إذاعة "مونتكارلو" الفرنسية ليعرفوا الأخبار في العاصمة دمشق، و بالرغم من هذا تبقى المقاربات الممكنة عملية خطيرة لأنها تتصل بشكل أو بآخر بالوعي العام، و لكن من الضروري أيضاً القول إن وسائل الإعلام تلك لم يكن لها دورٌ بالمطلق في خلق أرضية للثورة، أي ثورة، فهي قائمة في جوهرها على تبرير الاستبداد و تمجيده.

مع مطلع عام 2004 بدأت المراسيم و القرارات الخاصة بالإعلام في طور التنفيذ، و سأقتصر هنا على ذكر تجربتين فقط، الأولى لقناة " شام" الفضائية و الثانية لمكاتب " أورينت" التي أغلقها الأمن السوري عقِب جملة من المداهمات قبل انطلاق الثورة السورية بقليل، أمام هذا المشهد يمكن فهم العقلية الأمنية و السياسية التي تخاف من صحيفة كالدومري التي أسَسها و رأس تحريرها الفنان العالمي علي فرزات.

المساحة الممكنة للإعلام في عقلية النظام السوري هي أن تكون معه في ذات الخندق، لا يكفي هنا أن تكون على الحياد أو أن تقف بين جبهَتَين أو في الضفة الأخرى منه، لا يقبلُ بكَ إلا إن كنتَ معهُ تصوِّب أسلحتَكَ على المتربِّصين به، لذلك لم يكن مفاجئاً أن يتَّخذ الإعلام الرسمي صورته التي بدا عليها مع إنطلاق الإحتجاجات في عام 2011، حيث اشتغل جاهداً على تعويم مفردات و مصطلحات مثل " مدسوسين، عملاء، إرهابيين"، و وصف الحركة الثورية بالمؤامرة التي تستهدف الوطن و النظام معاً، و هنا أنتجت هذه الوسائل في مفارقةٍ عجيبة خطابَين متناقضين، الأول للداخل السوري يقوم على عنوان عريض مفادُه أن ما يحدث في البلاد هو مؤامرة كونية تريد الإطاحة بالنظام المقاوم و الممانع للمشاريع الإمبريالية و الصهيونية و الرجعية و الأمريكية و الأوربية.

و الثاني خطابٌ قدَّمَتهُ هذه الوسائل من خلال شبكةِ علاقاتٍ واسعة في العالم، يقوم على إبراز الطرف المعارض للنظام على أنه تيارات راديكالية تسعى للإطاحة بالنظام العلماني المؤمن بالتعدد و الحريات، في هذه الخلطة الغريبة اشتغل النظام على تصدير أزماتِه إلى الخارج فبرزت حالة من الهيستريا لدى القائمين عليه، تارةً يمجِّدون العروبة التي يحمي عرينها النظام الحاكم في دمشق و طوراً يشتمونها بإعتبارها مطيَّةً لأزلام المشاريع الإستعمارية الأجنبية في المنطقة.

كل ماسبقَ يقعَ في دائرة الجريمة المنظمة التي مارسها القائمون على الإعلام الرسمي في مهمّتِهِم الأساسية لتجهيل الشعب، تلك المهمة التي بدأت في اتهام المعارضين للنظام بشرفهم و أعراضهم مروراً بالترويج لخروج أهل الشام لشكر الله على نعمة المطر وصولاً إلى الدور الإنتقامي الذي يمارسهُ مراسلو و مذيعو القنوات الفضائية الرسمية في ساحات المواجهة و استهتارَهُم المطلق بالدم السوري و ليس انتهاءً بتكريرِهِم المُمِل أنَّ سوريا بخير!.

التعليقات (0)

    0

    الأكثر قراءة

    💡 أهم المواضيع

    ✨ أهم التصنيفات