الجزيرة العليا (الحسكة) في ضوء كتابات الرحالة
تحظى منطقة الجزيرة العليا "الحسكة" (1) بأهمية واضحة، منذ إلحاقها بالدولة السورية الحديثة، نظراً لتمتعها بالمزايا الاقتصادية الكبيرة، ومن المؤكد أنها أراضي كردستانية كانت ولا تزال موطنا للشعب الكردي، وما لحق بها من تغيير أسماء الأماكن، وهجرة أقوام مختلفة، لا يغير من طبيعة كونها جزء من كردستان، وبصورة أدق تشكل (غرب كردستان) كما دأبت الدوائر البريطانية على تسميتها منذ مطلع القرن العشرين.
وأدت عوامل عدة دوراً مهما في كتابة هذه الدراسة، تأتي في المقام الأول منها، محاولات بعضهم إظهار الكرد وكأنهم من العناصر الطارئة على المنطقة، وترويج داعية سوداء مفادها أن الكرد استوطنوا الجزيرة بعد أحداث ثورة الشيخ سعيد بيران العام 1925، وقيام تركيا الكمالية بارتكاب المجازر بحق الشعب الكردي في شمال كردستان(2)، ومع الإقرار بأن العديد من الشخصيات الكردية انتقلت من (سةرخت/ شمال الخط) إلى (بةن خةت/ جنوب الخط) أي من شمال كردستان إلى غربها.
وهذا أمر طبيعي في حركة الشعوب، فقبل رسم الحدود المصطنعة كانت أراضي كردستان واحدة، وما تغير فقط هو السلطة الحاكمة في جزئي كردستان، حتى أن تلك الشخصيات كانت تستقبل بحفاوة بالغة من قبل أخوتهم الذين وجدوا أنفسهم فجأة جزءا من سوريا الحديثة، وبالرغم من ذلك كان الكرد من أكثر العناصر الايجابية في بناء الدولة الجديدة.
وتشير المصادر التاريخية أن منطقة الجزيرة العليا كانت أرضا عاش فيها الشعب الكردي تاريخياً(3)، ويؤيد ذلك تنقيبات البعثات الأثرية التي أجريت في عدد من المواقع الأثرية، أنها كانت مسكونة بالكرد دائما(4). على سبيل المثال، عاش السوبارتيون في المنطقة الواقعة بين جبال زاغروس ونهر الخابور، واتخذ الحوريون من مدينة أوركيش عاصمة لدولتهم، وهي تقع على منابع الخابور، وكان الملك الميتاني ساوشستر الأول جعل مدينة (واشوكاني/ سرى كانيه) عند منابع نهر الخابور مركزاً لحكمه.
كما تظهر السجلات التاريخية أن المملكة الميتانية التي تأسست قبل نهاية العصر البابلي القديم وقبل الانتقال من العصر البرونزي الوسيط إلى العصر البرونزي المتأخر، وكان نهايتها في عهد الملك الحثي شوبيلوليوما الأول في منتصف القرن الرابع عشر قبل الميلاد، قد بنت مملكتها في الحدود الجغرافية للمنطقة، ومنها توسعت لتشمل المناطق المجاورة، حيث يقول الآثاري ميركو نوفاك بخصوص ذلك:" يقع تل براك على نهر الجقجق الأسفل في منطقة مثلث الخابور، قلب مملكة ميتاني وهي معروفة باسم خانيكلبات " (5).
ويكاد الأمر يتكرر في العصور الإسلامية، وبالرغم من تسمية المنطقة بـ(ديار ربيعة) في المصادر العربية نسبة الى قبيلة بني ربيعة التي لا تمت إلى جغرافية المكان بصلة كون أصولها تعود إلى شبه الجزيرة العربية، فإن الأصل التاريخي للمنطقة بقي ثابتا عصياً على الإنحلال.
لقد بقيت منطقة الجزيرة العليا تابعة للنفوذ الكردي، خلال القرنين العاشر والحادي عشر مثلا، اذ يذكر الفارقي مؤرخ الدولة المروانية – الدوسكية (990-1085) :" كان باد بن دوستك الحاربختي – وهو أبو عبد الله الحسين بن دوستك، وانما لقبوه باد – خرج من جبال باحسمى وهي ولاية حيزان والمعدن، فلما مات عضد الدولة قوي امره، وكثر جمعه، وكان مقامه في باب حيزان والمعدن، وحدث نفسه بالملك، واخذ البلاد، وملك جميع ديار ونصيبين والجزيرة في مدة يسيرة، وهو اول من ملك من الاكراد...". (6).
وفي القرنين الثاني والثالث عشر استمر الطابع الكردستاني للمنطقة، حيث يذكر الجغرافي والمؤرخ المعروف ياقوت الحموي (1179-1229) حدود الجزيرة بقوله:"جزيرة اقور هي التي بين دجلة والفرات، مجاورة الشام، تشتمل على ديار مضر وديار ربيعة، بها مدن جليلة وحصون وقلاع كثيرة، ومن أمهات مدنها حران، الرها، الرقة، رأس العين، نصيبين، سنجار، الخابور، ماردين، امد، ميافارقين، الموصل، وغير ذلك" (7).
يلاحظ من شهادة ياقوت الحموي السابقة، أن اسم الجزيرة اسم هو (اقور) وهي تسمية أقرب ما تكون إلى اللغة الكردية، وبالأخص من المفردة الكردية (اخور/الشمس) لاسيما أن الكرد عبدوا الشمس خلال حقبة مبكرة من تاريخهم، كما أن قوله (مجاورة الشام) تدل دلالة قطعية على أن حدود بلاد الشام لم تكن تصل إلى الجزيرة، إلى جانب أن أسماء المدن العامرة في الجزيرة لم تكن عربية باستثناء اسمي الرقة والموصل.
كما يذكر المؤرخ ابن فضل الله العمري (1301-1349) في كتابه (مسالك الأبصار):"لم أذكر من عشائرهم إلا من كنت بهم خبيراً، ولم أُسمّ فيها منهم إلا بيت ملك أو إمارة تبدأ بجبال همدان وشهروزر وأربل وتنتهي إلى دجلة الجزيرة من كوار الموصل نترك ما وراء نهر دجلة إلى نهر الفرات لقلة الاحتفال به، على أن الذي ذكرته هو خلاصة المقصود، إذ لم يبق إلا أكراد الجزيرة وقرى ماردين، وهم لكل من جاورهم من الأعداء الماردين مع أن مساكنهم ليست منيعة، ومساكنهم للعصيان غير مستعصية..." (8).
يمكن القول في ضوء ما تقدم، أن الكرد سكنوا الجزيرة العليا في القرن الرابع عشر كامتداد لسكنهم فيها منذ فجر التاريخ، وشهادة ابن فضل العمري دليل واضح بهذا الصدد، حيث يذكر أن حدود الكرد يصل الى نهر الفرات، وان "الجزيرة وقرى ماردين" هي موطن الكرد دون غيرهم.
كما يؤكد الرحالة التركي أوليا جلبي (1611-1680) في رحلته التي قام بها إلى المنطقة وكردستان في 1655، على الرغم من تحامله الواضح على الكرد، أن الجزيرة العليا تعد موطن الكرد دون غيرهم، ويذكر أسماء عشيرتين كرديتين كانتا تتحكمان بالمنطقة من خلال قوله:" توجهنا نحو الجنوب، ووصلنا مكانا يسمى (كندلي) وهي نهاية حدود ماردين، وهو مكان غير آمن، اذ يقوم الكرد من (اشدي/ اشتي) و(شقاقي/ شكاكي) باعمال قطع الطريق"(9).
بل أن أوليا جلبي يعترف اعترافا جلياً أن المنطقة هي جزء من كردستان التي تمتد على رقعة واسعة بحسب رأيه، اذ يقول بخصوص حدود كردستان في عصره :" أما عرض كردستان فليس يقدر طولها يحدها من الشرق حدود العجم، ومن حرير واردلان وحتى بلاد الشام وحلب"(10).
فيما يوضح العالم الالماني كارستن نيبور(1733-1815) والذي نشر بعد زيارته لمنطقة الجزيرة قادماً من بغداد والموصل في طريقه الى دياربكر وحلب في العام 1764، عن طريق خارطة رسمها لمنطقة الجزيرة، وحدد عليها اسماء خمسة عشائر صادفها في رحلته، وقال عنها انها كردية وهي: دقوري، كيكي، جاجان، مللي، شيتية، كما ذكر اسم قبيلة عربية واحدة هي قبيلة طي (11).
وكتب المستشرق الروسي (ب. ليرخ) وهو من أوائل الذين كتبوا عن القبائل والعشائر الكردية يقول :"يعيش الكرد في حلب وفي وادي عفرين وكان عدد الكرد في الجزيرة اكبر بكثير"(12)، وفي السياق نفسه يذكر الخبير في الشؤون الكردية (ميجرسون) اثناء قيامه برحلة إلى كردستان، بعد لقائه الكرد هناك ووصفم بانهم:"أول الكرد الذين قدر لي لقاؤهم، انهم طلائع شعب عظيم"(13).
وكانت صحيفة كرد(14) قد كتبت عن منطقة الجزيرة تقول "هذه المنطقة موطن وساحة تجوال لعشائر عديدة، كردية وعربية معروفة مثل الملي ودقوري وكيكي وخلجان وقره كيجي وازناور وبرازي والجبور وشمر" ، ونظرا لاهمية منطقة الجزيرة من الناحية الاقتصادية سمتها الصحيفة بـ "امريكا العثمانية"(15).
ومما له دلالته، كان تأسيس زعيم العشائر الملية ابراهيم باشا الملي (1845-1909)(16) في نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين، شبه امارة كردية مركزها ويران شهر (أورفا حالياً) التي كانت تتبع منطقة الجزيرة الكردية، ولا تبعد عن مدينة سري كانيه إلا مسافة 30 كم في الجانب الآخر، ولكنها في الوقت نفسه كانت تمتد جنوب البلدة المذكورة آنفاً، من خلال تجمع عدد كبير من العشائر الكردية في المنطقة، وهذا الامر كان وراء قدرته على الانتصار على قبيلة الشمر عام 1890 (17).
هوامش:
(1) اشتق اسم الحسكة من اسم عشيرة كردية قديمة، اذ يرد في السجل العقاري العثماني خلال القرنين السادس عشر والسابع عشر ذكر عشيرة حسكية (Hesekite) ولا يظهر اسمها في اي وثيقة بعد العام 1646، للتفاصيل ينظر: أكراد سورية في مرآة مصادر الأرشيف العثماني خلال القرن 18 للميلاد، ت: د. نضال محمود حاج درويش، مجلة الحوار، العددان (67-68)، 2015، ص 38.
(2) يذكر البعثي العتيق منذر الموصلي مثلا:"اما في العصر الحديث فان وجود الاكراد في شمال سورية انما بدأ عام 1926 على وجه التحديد - اي بعد فشل ثورة سعيد بيران في كردستان تركيا – هربا من المذابح ، حيث لاذ اكراد كثيرون انذاك بالاراضي السورية فتوطنوا فيها ثم اكتسبوا الجنسية"، ينظر كتابه: عرب واكراد رؤية عربية للقضية الكردية ، (دمشق، 1986) ص 95. :(
(3) سعد ناجي جواد ، الاقلية الكردية في سوريا (تداول محدود) ، (بغداد ، 1988) ، ص6 .
(5)صالح عثمان، تاريخ المنطقة الكردية وخصوصية القضية الكردية في سوريا، مجلة الحوار، العدد (57 )، صيف 2007، ص 61.
(6)ينظر بحثه: الامبراطورية الميتانية والسؤال عن الكرونولوجيا المطلقة: بعض الاعتبارات الأثرية، ت: د. نضال محمود حاج درويش، على الرابط: www.medaratkurd.com
(7)احمد بن يوسف بن علي بن الازرق الفارقي، تاريخ الفارقي، حققه وقدمه له: د. بدوي عبد اللطيف عوض، (القاهرة، 1959)، ص 51-52 .
(8)ينظر مؤلفه: معجم البلدان، ج2، ص72، نقلا عن: د. بدوي عبد اللطيف عوض، في تحقيقه لكتاب الفارقي، (القاهرة، 1959)، ص52، الهامش 2.
(9) ازاد احمد علي، بلاد الأكراد كما حدّدها ابن فضل الله العمري في القرن الرابع عشر، جريدة الحياة، 19 تموز 2015.
(10) ينظر: رحلة اوليا جلبي في كردستان عام 1655، ت: رشيد فندي، (دهوك، 2008)، ص83.
(11) المصدر نفسه، ص 99.
(12)برهان نجم الدين شرفاني، كردستان – سوريا خلال الانتداب الفرنسي 1921-1946، رسالة ماجستير قدمت الى مجلس كلية التربية في جامعة زاخو، (زاخو، 2012)، ص34.
( 13) ينظر كتابه: دراسات حول الاكراد واسلافهم الخالديين الشماليين ، ت: د. عبدي حاجي ، (حلب ، 1992) ، ص71.
(14) ميجرسون (ميرزا حسين شيرازي) ، رحلة متنكر إلى بلاد ما بين النهرين وكردستان ، ت: فؤاد جميل ، ج1 ، (بغداد ، 1970) ، ص62 .
(15)للتفاصيل ينظر : عبد الفتاح علي يحيى البوتاني ، وثائق عن الحركة القومية الكردية التحررية ، (اربيل ، 2001) ، ص584 .
احمد جميل ديار بكرلي "امريكا العثمانية وسعادة العشائر المستقبلية" ، صحيفة كرد ، العدد (1) ، استنبول 22 تشرين الثاني 1908 ، ص2 .
(16)د. احمد عثمان ابو بكر ، اكراد الملي وابراهيم باشا ، (بغداد ،1973) ، ص56 –57 .
17)) جون فردريك وليامسون ، قبيلة شمر العربية مكانتها وتاريخها السياسي 1800-1958 ، ترجمة وتقديم : مير البصري ، (لندن ، 1999) ، ص62-63.
د. علي صالح ميراني/ مختص في التاريخ الكردي الحديث والمعاصر
التعليقات (32)