صندويشةُ فلافل ... قصةُ وطن

صندويشةُ فلافل ... قصةُ وطن
ثانويةُ أبي ذر الغفاري الآخذةُ مكان القلب من مدينة الحسكة ... والواقعة في مركزها .... وحدها هي ذات الأثر الكبير في نفسي إلى هذا اليوم ....تلك الثلاث سنوات التي قضيتها فيها طالباً للعلم كان لها التأثير البالغ في تكويني الإنساني ووعيي السياسي والقومي والوطني .. بالإضافة إلى معرفتي الحقيقية وتجربتي بمكونات مدينتي الحسكة الجميلة من عربٍ وكورد ومسيحيين من سريان وآثوريين وغيرهم.... أبي ذر كانت هي لحظة الحياة الحقيقية التي عشتها في المدينة وخروجي من قوقعة الحارة التي كُنتُ فيها واجتياز الحواجز التي انتجتها سياسياتٌ عديدة تمت ممارستها علينا ... عالمٌ مليءٌ بالقصص الجميلة منها والمؤسفة المؤثرة الحزينة ...أبي ذر كانت أشبه بمجتمعٍ صغير يُلخص الحسكة كُلها بل ربما يُلخص سورية بأكملها ..... بأغنيائها الجشعين ذوي الثياب اللامعة النظيفة ووجههم البيضاء وفقرائها المساكين ذوي العيون الحزينة وقروييها الطيبين ذوي القلوب الصافية .... وكأنها كتابٌ ولكل طالبٍ في الثانوية يشكل صفحته .. بالذين سكنوا في أزقة المدينة الضيقة وشوارعها الطينية الممتلئة بمياه الأمطار والتي تتلئلئ في داخلها النجوم من فوقها عاكسةً سحر الكون...بأيام الشتاء الباردة وحرارة الصيف التي كانت تحرق الحناجر......كل ذلك في علاقة جدلية متكاملة لا يغيب عنها اي شيء.

فكانت سلسلة متتالية من الأحداث ...يرويها الكتاب بنفسه ....عشتُها برفقة الكثيرين من الأصدقاء....بين المُفرح والمُحزن ....اذكر أننا في احدى الفصول الدراسية من العام 2008 كنُت ورفاقي في الصف وبُحكم الخروج المُبكر من المنزل وعدم تناول الإفطار الصباحي نتفقُ على أن نجمع مصروفنا الشخصي لكُل يومٍ والذي كان عبارة عن عشرة ليرات سورية من كل شخص وأن يقوم أحد الزملاء بالتطوع والذهاب خلسة من فوق سور الثانوية إلى مطعم الحمراء الشهير الكائن في ساحة الرئيس في المدينة والذي لا يبعد عن مبنى الثانوية إلا الشيء القليل وذلك لجلب صندويشات الفلافل ..... كان ذلك امراً محظوراً في المدرسة ويمنعهُ الناظرُ بحجة أن هنالك ندوة أو مطعم داخل المدرسة ويتوجب علينا الشراء منه ..إلا أنه في الحقيقة كانت الندوةُ تبيعُ طعاماً لا يصُحُ للأستهلاك البشري وكان رديئ الجودة جداً....تفضيلنا لشراء الصندويش من مطعم الحمراء كانت محاكمة عقلية أكثر من أنها خروجٌ على سلطة الهيئة الإدارية للثانوية .... ما دُمنا نستطيع أن نحصل على طعامٍ أفضل ذو مذاقٍ أشهى وحجمٍ أكبر وبالسعر نفسه فلما نكون مُرغمين على شراء الطعام الفاسد .....تعميم هذه المحاكمة يدفعني للتساؤل تُرى هل كان ذلك بداية لكسر التفكير والطاعة التي جُبلنا عليها منذ صغرنا تحت سلطة التهديد والخوف والرهبة وبداية التفكير الجدي لدينا بأننا بشرٌ من حقنا الحصول على الأفضل ولسنا مرغمين على تقبل الأسوء فقط من أجل أرضاء شخص يحمل عصا طويلة.

اعتدنا على أن نقوم بذلك مستسلمين للمنطق ...حتى أتى ذاك اليوم .... المشهد الذي ترسخ في وجداني إلى اللحظة... حين قال لنا ناظرُ الثانوية ونحنُ نسألهُ عما حصل ... قال لنا ضاحكاً من خلف السياج والعصا بيده ...وعلى وجهه ابتسامةٌ صفراء وهو يُنظفُ أسنانهُ بلسانه من بعض قطع البقدونس العالقة بينها ... لقد كانت ضربة ًموفقةً وعمليةً نوعيةً ناجحةً قُمنا بها اليوم استطعنا أن نستولي على صندويشات الفلافل التي كان سيتم تهريبها إلى داخل الثانوية عن طريق أحد العمال الصغار من مطعم الحمراء وقُمنا بتوزيعها على الأساتذة والموجهين ....وهو يتابع كلامه والابتسامة مستمرةٌ ولسانهُ يمخر بين أسنانه الصفراء بسرعةٍ متواترةٍ كما المنشار ....ثم أردف بالقول سنعتبرُ ما حصل وما جرى هديةً من قبل أبنائنا الطلبة ...ثم توجه بالكلام لصاحب الندوة الموجودة داخل الثانوية يُطالبهُ بتحسين جودة الصندويش ....ثم انهى المشهد بقهقهةٍ عاليةٍ .....كُنا جميعاً نعلمُ بأنه شريكٌ لصاحب الندوة والقههة ليست ابتسامة بل أمورٌ كثيرةٌ يصعب علينا شرحها وقتها.....أو ربما بلغة عسكريةٍ كانت تغطيةً على انسحابه من أمامنا ..... يُدير ظهرهُ ويتوجه لمكتبه ...ربما كان يمضغ وقتها ما تبقى من البقدونس في فمه ...ونحن ننظرُ إليه وعلى الجانب الآخر كان اثنين من عمال النظافة في المدرسة يتقاسمان آخر قطع الصندويش ال 24 .......

اليوم استطيع ان اعترف أن هذا المشهد كانت نهاية ثقتي الكبيرة بالمؤسسة التربوية ....وليس بالمدرسين الأجلاء خصوصاً أن الكثير منهم انزعجوا جداً لما حصل ......أدركت أن هذه المؤسسة باتت مشحونةً بأمور أخرى غير التربية.....في الحقيقة صندويشة الفلال التي تم مصادرتها عنوةً ومن غير حق والتي كنُا ندفع ثمنها مصروفنا الشخصي ليومٍ كامل والتي تم التهامها أمام أعيننا ....ونحن ننظر ولا نستطيع ان نتفوه بكلمة ....أصبحت اليوم قصةً  لوطنٍ حزين وما صندويشة الفلافل هذه إلا إسقاط صغير على أشياء أكبر حدثت في هذه الأعوام .... هذا الأمر كان مخبئاً في قلبي فضلتُ نسيانه ورميه في الزاوية التي يجب على الانسان وضع الكثير من الاشياء فيها للاستمرار بالحياة .....لكن ما أظهره من جديد تحولهُ إلى مشهدٍ أكبر وصندويشة الفلافل الصغيرة نسبياً امتدت وكبرُت لتصبح على اتساع وطنٍ بأكمله وناظرُ المدرسةِ وعصاهُ والمُستخدمان وصاحبُ الندوة .....كلهم ...كبُرت أحجامهم وتغيرت اشكالهم وألوانهم ...وتعاظم جبروتهم.... ليأخذوا أدواراً أكبر بكثير عن ما كانوا عليه.

"الحياة ليست عادلة" ربما هذا الكلامُ للصحة فيه الأمر الكثير رغم إيماني الراسخ بالعدالة الإلهية التي تسقُط ُمن سماء العزة على الارض وفق زمنٍ يكون فيه للخالق حكمته.... لكن الحياة التي أراد الخالق لها النور لم ينشأها على الظلم .... نحن البشر من أوجدنا الظُلم على هذه الأرض نحن من نقوم به ونحن أدواته للأسف ....من المؤسف أن تُغتصب الحقوق ومن أكثر الأسف أن لا يملُك الإنسان الحق في الدفاع عن نفسه ولو بالقول أو حتى بالتعبير عن ما في داخله ....من المؤسف أن تموت حباتُ الطلع وهي لازالت تخرج رؤسها الصغيرة من بين القشر اليابس ...

بالنسبة لي ستبقى صندويشة الفلافل التي كنا ننتظرها أن تأتي إلينا من مطعم الحمراء بفارغ الصبر ... هو المذاق الجميل للوطن .... تلك النعمة الآتية من حقوله الخصبة النقية .... ومن مياهه العذبة هذا الطعم الذي رسخ فينا حب التراب والماء والسماء...رغم ذلك كله لازلنا نحلم بالوطن ...وطني الذي لم يكن يوما يعرف رائحة البارود ...وطني الذي وان استطاع الغرباء سلبه وأخذه لكنهم لن يعرفوه أبدأ كما عرفني هو وعرفته وان طال مقامهم فيه .....وطني هي آخر ثلاث أيام قبل عيد الفطر .. اللحظات الأولى من نهاية الدوام المدرسي والحنين لكي أرى وجه أمي .....وطني البخار الأبيض الذي كان يخرج من قدر الحساء والثلج يغطي الشوارع المدينة كلها....... آخر يومٍ في الشتاء وآخر قطرات الندى في صباحٍ ربيعي ..... وطني قريتي الباردة في اللية الدافئة بقلبي الجدي وهو يقول لي ربما في الغد يصلنا المنخفض الجوي هذا ما قالته الأخبار .....وطني آخر رغيف خُبزٍ يخرُج من الفرن ويأخذهُ الخباز ليُطعم أهله....

نعم هذا هو وطني ....

التعليقات (0)

    0

    الأكثر قراءة

    💡 أهم المواضيع

    ✨ أهم التصنيفات