الفيدرالية واللامركزية في سورية الجديدة

الفيدرالية واللامركزية في سورية الجديدة
ما من شك في أن الحرب الدموية التي دخلت، في مارس الجاري، سنتها السادسة، قد عملت على تمزيق النسيج الوطني السوري. بيد أن المفارقة أن مطلب الفيدرالية وخطط التقسيم لم تصدر عن أي طرف من الأطراف السورية المتنازعة، وإنما من الدول الأجنبية، موسكو أولاً ثم واشنطن قبل أن تتراجع عنه. 

ولن يحلّ تعدد الدويلات الطائفية أزمة الدولة الوطنية المأزومة، لكنه سيضاعفها وسينشرها على اتساع المساحة السورية، لأنه يتجاهل المشكلة الحقيقية التي هي الدولة الدستورية والوطنية، أو المواطنية، لصالح دول أقل دستورية ومواطنة. ولن يخفف هذا الخيار من العنف، لكنه بالعكس، في الظروف التي تعرفها المنطقة، والمواجهات الكامنة فيها بين جميع الأطراف، الداخلية والخارجية، سيدفع إلى تفجير كل العنف المكبوت، والمضبوط نسبيا حتى الآن، على مستوى المنطقة بأكملها، ويعمّم المآسي داخل الدول المنقسمة، وفيما بينها، بسبب الاختلال الكبير في التوازنات الاجتماعية والمذهبية والدولية الذي سيثيره. والسبب: 

أولاً، أن الدولة المولودة حديثاً، أي دولة، تحتاج إلى عقود طويلة، قبل أن تجد الجماعات التي تعيش ضمن حدودها توازناتها الداخلية، وتسنّ قاعدةً ثابتةً للتعامل والحياة المشتركة، وعقوداً أخرى، حتى تكتسب دورها وموقعها المعترف به، والمقبول من دول الإقليم. وخلال هذه الفترة، تعيش المجتمعات نزاعاتٍ، وأحياناً حروباً أهلية عنيفة، وكل الدول الوطنية نشأت بعد حروبٍ أجبرت الجميع على وضع قاعدةٍ واضحةٍ وواعيةٍ، للتعامل في ما بينها. وهذا هو وضع سورية، اليوم، التي لم تخرج بعد من الصراعات الداخلية، للوصول إلى توازنٍ يرسو على أساسه تفاهمٌ وطنيٌّ شاملٌ يلتزم بمبادئه جميع الأفراد، يحفظ حقوق كل واحد منهم، ويوفق بين الجماعات المتنافسة، ويقيم حياةً وطنيةً ثابتةً ومستقرة. ولو انقسمت سورية، الآن، سيعني ذلك تحطم نواة البنية الوطنية السورية التي بذل كثير من الجهد والتضحيات لبنائها، قبل أن تقوّضها مطامع نخبةٍ حاكمةٍ جاهلةٍ وفاقدةٍ معنى الوطنية، وسيطلق ديناميات حروبٍ جديدةٍ داخل الأطراف المتباعدة والمتناثرة والمتصارعة على الموارد والسلطة، وسنقضي عقوداً طويلةً إضافيةً في كل جزء منفصل، لإيجاد توازنٍ مستحيل التحقيق. ولأن الوصول إلى مثل هذه التوازنات البنيوية والتفاهمات الوطنية أصعب في البلدان الصغيرة المعرّضة لأن تكون مناطق تجاذب وتنافس بين الدول الإقليمية الكبرى، إنْ لم تضع نفسها تحت وصايتها، ستكون الحرب أشدَّ عنفاً داخل الدول المنقسمة الصغيرة، وفيما بينها وعليها. 

ثانياً، أن التقسيم يشرّع الأبواب واسعةً أمام استخدام الدويلات الصغيرة التي لا حظّ لها في البقاء، بإمكاناتها الذاتية للصراع بين الدول الإقليمية الأكبر على جذبها واستخدامها أدواتٍ في استراتيجيات الهيمنة الإقليمية والدولية المتنازعة. وسيعمل هذا على تفاقم الأزمات، وتنامي النزعات للحروب والاقتتال، داخل الإقليم، بدل تخفيض وتيرتها وتجفيفها، ويزيد، بالتالي، حرمان الشعوب من حقها في التقدم، ويدين المنطقة كلها بالتخلف والتقهقر، أكثر مما أصابها حتى الآن. 

لا تستقيم مقارنة الأوضاع عندنا بما حصل في أوروبا الشرقية، فمن جهةٍ، لم يولّد الانقسام في منطقة شرق أوروبا نزاعاتٍ جديدةً، لأنه حصل في منطقةٍ زالت أسباب التنازع على الهيمنة الإقليمية فيها مع زوال الحرب الباردة، ولم يعد هناك سوى التنافس الاقتصادي في ما بينها. بينما تقع المنطقة العربية في بؤرة النزاع على الهيمنة بين الدول الإقليمية المتنافسة والقوى الدولية التي نقلت محور نزاعها من مناطق، مثل أوروبا الشرقية، إلى الشرق الأوسط. ومن جهةٍ ثانية، لم يؤثر التقسيم سلباً على إمكانات التطور والتنمية للدول الصغيرة الجديدة، لكنه فتح آفاقاً أوسع لها، باندراجها في اقتصاد الاتحاد الأوروبي الذي قدم لها، ولمجتمعاتها، فرص نمو استثنائية، ونمّى لدى شبابها اتجاهاتٍ إيجابيةً متمحورةً حول تحسين شروط حياتها، بدل النزاع والاقتتال الدائمين. 

ثالثاً، أنه في منطقتنا، حيث توجد مشاريع هيمنة إقليمية معلنة، من إسرائيل إلى إيران إلى تركيا، وتنافس بين الدول الكبرى على النفوذ في إقليمٍ يزخر بالنزاعات غير المحسومة، بما فيها سياسات الطاقة والمسألة اليهودية/ الفلسطينية وغيرها، يقود تقسيم سورية إلى فتح باب مواجهاتٍ استراتيجيةٍ وجيوسياسيةٍ ستحول أراضي جميع الدول المجتزأة إلى ميدان حربٍ دائمة، وسوف يفاقم ذلك من مستويات العنف وأسباب الاقتتال. وربما لن تهدأ الحرب بين الجميع عقوداً طويلة. وسيذهب أبناء الدويلات الصغيرة، مهما كان اسمها، اتحاديةً أم لا، جميعاً كحطب وقود حروب الدول الإقليمية الكبرى المتنافسة. 

هذا لا يعني أن من الممكن أن نتجاهل حاجة الجماعات التي خنقتها عقود طويلة من حكم التصحير السياسي والثقافي والإنساني، إلى مصادر لإعادة شحن ذاتها بالأفكار والقيم التي تجعل لحياتها معنى. وهي لا تجد، اليوم، منبعاً لقيم التضامن والتعاون والتفاهم الإنساني، يخرجها من حياة التصحر والجفاف الذي وضعها فيه حكم التعقيم الجماعي، سوى بالعودة إلى الاستثمار في وشائج القربى الدينية أو القومية أو الجغرافية القائمة. وفي هذا البحث عن الذات، وإحياء القيم الإنسانية المرتبطة بها، قيم التعاطف والألفة والتعاون، ينبغي وضع النزوع الكبير اليوم إلى كسر مركزية الدولة التسلطية، والتعلق بإقامة "مواطن" أكثر حميميةً وقرباً من مشاعر الناس وعواطفهم، وبعداً عن الوطنيات الأيديولوجية الفارغة التي لم يكن هدفها سوى التغطية على الاستبداد. ولا ينطبق هذا على الجماعات القومية، إنما أيضاً على الجماعات المحلية المنتمية للدين والمذهب والقومية نفسها. وعلى النظام السياسي والإداري الجديد القادم أن يلبي هذه الحاجة، ويقدم للجماعات وسائل إرضائها في صيغةٍ من اللامركزية الواسعة التي تضمن للأفراد أن يعيدوا امتلاك شروط وجودهم في البيئة القريبة، ويساهموا في إدارة شؤونهم وتسييرها. وسيكون ذلك في مصلحة تعميق المشاركة في الحياة الجماعية الوطنية، وتعزيز فرص التنمية الاجتماعية والإنسانية معاً. ولذلك، كرّست وثيقة "العهد الوطني لسورية الجديدة" الذي أصدره المجلس الوطني السوري منذ تأسيسه عام 2011 مفهوم اللامركزية الواسعة، قبل أن تطرح اليوم مسألة الفيدرالية بعد خمس سنوات. 

التعليقات (1)

    مصباح

    ·منذ 8 سنوات 3 أسابيع
    الفيدرالية لا تعني التقسيم أو التجزئة والأمثلة على ذلك كثيرة في العالم، من يتأمل في أحوال الدول الإتحادية أو الفيدرالية أو اللامركزية المنتشرة في أنحاء الكرة الأرضية يجدها أكثر إستقرارا وتطورا ورقيا، الصراعات الإثنية والمذهبية في بلد ما تؤدي للعنف والفوضى والتخلف فكفى الشرق الأوسط صراعات وعنف ودماء وتخلف وبإستطاعة قومياته ومذاهبه وطوائفه التعايش بشكل سلمي وديمقراطي في نظام فيدرالي ينصف كل المكونات.
1

الأكثر قراءة

💡 أهم المواضيع

✨ أهم التصنيفات