هل تتذكرون "الزعتري"؟

هل تتذكرون "الزعتري"؟
موجات النزوح البشري، التسونامية إلى أوروبا، مع المخاوف المتزايدة من الإرهاب غيرت الحسابات، وقلبتها رأًسا على عقب. بان كي مون جاء إلى لبنان بعروض مالية مغرية، وبرفقته رئيسا البنكين الدولي والإسلامي، ليقول للبنانيين أريحوا النازحين ووطنوهم، تجدوا ما يسركم، وها هي الأموال جاهزة في الصناديق. الدولارات الأممية لمساعدة اللاجئين تنهال سخية من الاتحاد الأوروبي أيًضا، الذي تزور مبعوثته لبنان، في سبيل إيجاد حلول كبح الهجرة. ما كان يعطى بالقطارة لدول الجوار السوري، صار يوزع بالقناطير المقنطرة، شرط وقف التدفق الهائج، وإبقاء النازحين حيث هم. 

نظرة على "مخيم الزعتري" الذي نسيه الإعلام، رغم أن عذاباته تتفاقم، تدرك أن الغرب لا يزال يحاول معالجة النتائج، رافًضا رؤية الأسباب، وهذه باتت من شيمه التي تذهب به إلى طرق مسدودة باستمرار. في الزعتري، اختفت الخيام، وحلت أماكنها أكواخ الفقر الحديدية التي تتكدس فيها أسر، تتكاثر بمعدل 15 طفلاً كل يوم. أكثر من خمسة آلاف ولدوا في هذه الصحراء القاحلة محاطين بالأسوار والأسلاك الشائكة. يذهبون إلى مدارس رغم وصولها إلى العشر، لا تزال أضيق من أن تتسع لهم. بمقدورك أن ترى 60 أو 70 تلميذًا في صف واحد رغم نظام الدوامين. 

آلاف الأولاد يعرفون أنهم من سوريا، لكن ليس لها أي صورة باقية أو ذكرى في أخيلتهم. النجاح في الثانوية العامة ضرب من المستحيل، وبالتالي بلوغ الجامعة لن يعطى إلا للناجين. البؤس حاد جًدا في "الزعتري"، كل الأموال الأممية التي صرفت لجعل هذا التجمع إنسانيًا فشلت. "اللاجئ يبقى لاجئًا حتى حين يذهب إلى المستشفى في هذا المخيم" تقول إحدى السيدات. يغادر موظفون أجانب كثر قبل أن يتموا فترة عقودهم، لأنهم لا يحتملون هذه العزلة المريرة القاحلة، منقطعين عن الدنيا. لكثرة الهيئات الدولية، والمنظمات الإغاثية والجمعيات الإنسانية، يخيل إليك أنه ليس للعالم من هاجس سوى إنقاذ أهل الزعتري من محنتهم، إلا أن طول الإقامة وانعدام الأمل، يسدان الأفق. وبينما كان مؤتمر التعليم قائًما، علق أحد الموظفين الأجانب بالقول: "من الصعب أن تتحدث عن التعليم في هذا المخيم، بينما البعض هنا لم ير شجرة منذ خمسة أعوام". 

ما معنى أن تطلب من طفل إجراء عملية حسابية بينما هو يحتاج أن يتنفس الأكسجين؟ رغم التشديدات، والإجراءات الأمنية، وتصاريح الدخول من الخروج، ثمة مجموعات تتمكن من الهرب. بعض التقارير تقول إن الهاربين بلغوا الآلاف منذ ُوجد المخيم، ومنهم من تمكنوا من اجتياز مصاعب الحدود وتعقيداتها شبه المستحيلة ووصلوا إلى أوروبا. إضافة إلى 80 ألف لاجئ في الزعتري وعشرات الألوف في مخيمات غيره، ثمة ما يناهز 17 ألفًا آخرين، ينتظرون في الأراضي المحرمة بين سوريا والأردن، يتمنون بلوغ "فردوس الزعتري" ومكرماته. البؤس درجات، تجّرع السوريون كل مذاقاته، وما يحاوله بان كي مون، والمبعوثون الآتون بعطاءاتهم الوفيرة، وخيراتهم المشروطة، وإن تجاوبت معها الدول المضيفة ستبقى بمثابة مسكنات موضعية، لسرطان الحروب المستشرية في المنطقة.

اللاجئون السوريون والفلسطينيون، رغم عوزهم المدقع، لن تغنيهم ربطة خبز وكيلو من السكر. فهذه البلاد يموت فيها الناس قهًرا لا جوًعا. ومن يريد غًدا مطمئنًا لأوروبا عليه أن يتوقف عن السباحة على الشاطئ وليذهب إلى ما هو أعمق. رغم أن اللاجئين احتفلوا بتسمية شوارع "الزعتري" الرملية القاحلة بأسماء سورية تذكرهم ببلدهم وتشعرهم ببعض السكينة، فإن المعبر الأكبر الذي منه تدخل إلى المخيم، وتدلف إلى باقي الممرات، وفيه محال صغيرة فتحت لسد حاجات السكان، يحمل اسم "الشانزلزيه"، تيمنًا بالجادة الباريسية الأنيقة. تسمية ذات دلالة، قد تنّم عن تطلعات اللاجئين، بعد أن فقدوا أرضهم، إلى ما هو أبعد من عمان وبيروت وإسطنبول. وهنا قد لا تتلاقى حسابات حقل بان كي مون مع حصاد بيدر لاجئين جلهم من الشباب المصمم على غد أفضل، ولو شحت الإمكانيات أو حتى انعدمت.  

التعليقات (0)

    0

    الأكثر قراءة

    💡 أهم المواضيع

    ✨ أهم التصنيفات