بيير لامازيير صدق ما تروجه السلطات الفرنسية، وبعد عدة لقاءات حضرها مع المندوب السامي الفرنسي الذي كان يزور حلب أيضاً، كتب لامازيير ملخصاً انطباعه بالقول:
(باختصار يمكن التأكد من أنهم لا يريدون أن يكون لهم أي شيء مشترك مع أعداء الانتداب، بل إنهم يطلبون فصلهم عن الدمشقيين المشاغبين وإعطاءهم الاستقلال الإداري والسياسي، والتقارير قاطعة من قبل السيد ريكلو وهو مفوض أو حاكم الدولة السورية في حلب).
صفعة حلبية تاريخية!
وبناء على هذه التأكيدات، وعلى أحلام السيد ريكلو، تقرر إجراء انتخابات لتثبيت الحقيقة التي صارت معروفة للجميع حول رغبة حلب بالانفصال عن دمشق التي تكن العداء للانتداب، والتي لا ينفك ثوارها يعكرون صفو حكم الانتداب الذي يرغب الحلبيون في أن يتعايشوا معه بسلام... لكن ماذا كانت نتيجة الانتخابات؟!
يقول لامازيير موثقا ما حدث:
(خمسة عشر يوما انقضت، جرت فيها الانتخابات في ولاية حلب بأسرها، واجتمع المجلس المشكّل... وخلال الساعة الأولى من اجتماعه قام باقتراع جماعي، يؤكد ارتباطه بدمشق، هذا الارتباط غير القابل للتبديل. وللاحتجاج على أي محاولة قد تحصل لتقسيم جديد للأراضي الموضوعة تحت الانتداب، وللإعلان عن وفائهم لفكرة الوحدة السورية، ولكي يظهروا بأنهم من خلال الاقتراع، يعبّرون عن شعور الشعب، حمل الحلبيون نصف قنطار من الاعتراضات المزينة بتواقيع جميلة بخط اليد الأسود، ممهورة بأختام بنفسجية اللون، فحواها أن كل من له قيمة في سورية الشمالية يعلن أن حلب ودمشق لا تشكلان سوى جسم واحد له الدماغ نفسه، والأحشاء نفسها، وان لب الضلع من اللحم لا يريد أن ينفصل عن العظم). (1)
مدينة عصية على الفهم!
ربما تصلح هذه القصة لفهم مدينة حلب التي وصفها لامازيير في العشرينيات بأنها (مدينة عصية على الفهم) ففي الوقت الذي تبدو فيه المدينة في قمة الولاء لمشروع أو هدف أو توجه، تكشف في اللحظة المناسبة أو الحاسمة عن جوهرها الوطني الأصيل.
ليس الهدف من هذا التقديم تبرير ما يرى السوريون اليوم أنه تأخر مرير للحاق حلب بركب الثورة، فربما اختلفت حلب في عشرينيات القرن العشرين عنها بعد ما يقرب من قرن... وربما كانت معركتها مع رفض التقسيم في عهد الفرنسيين أهون ألف مرة – كما أثبتت الوقائع- من معركتها مع نظام الأسد الذي ترك لاحقاً بصمات من الدمار الوقح وغير المسبوق لن ينساها الحلبيون لأجيال وأجيال... لكن واقع حلب مع الثورة ضد نظام بشار الأسد يبدو واقعاً إشكالياً لا يمكن التعامل معه بأحكام قطعية جاهزة دون فهم مبرراته ووقائعه... فحلب الشهباء تلك المدينة الساحرة وكبرى مدن الشمال السوري، ذات التعداد السكاني الأكبر وعاصمة الاقتصاد صاحبة التاريخ العريق والإرث الحضاري و السياسي المعروف، كان يتوقع لها أن تكون من أوائل المدن التي ستنتفض على نظام البعث و آل الأسد، و لكنها في الحقيقة لم تفعل وتأخرت عن الالتحاق بالثورة وبزخم المظاهرات التي اجتاحت البلاد من شمالها إلى جنوبها ومن شرقها إلى غربها. ويأتي السؤال "لماذا" تأخرت حلب و هل فعلا تأخرت بالقيام بالدور المطلوب منها بما يتناسب مع حجمها ودورها و إرثها الكبير؟.
حلب الانقلابية!
لطالما كانت حلب مركز ثقل سياسي واقتصادي في سورية... فهي المركز الثقافي المميز الذي أنجب العديد من المفكرين والأدباء والسياسيين والزعماء أمثال سعد الله الجابري ورشدي الكيخيا، كما أن أربعة من رؤساء سوريا في عهود سابقة كانوا حلبيين (حسني الزعيم – سامي الحناوي – ناظم القدسي – أمين الحافظ).. ويمكن القول هنا أن الحلبيين سنوا سنة الانقلابات العسكرية التي بدأها حسني الزعيم بطل الانقلاب الأول في سورية والوطن العربي، ثم تلاه سامي الحناوي بطل الانقلاب الثاني الذي أعدم فيه حسني الزعيم ورئيس وزرائه محسن البرزاي بعد محاكمة عسكرية ميدانية... ثم شكلوا نواة الإطاحة بحكم أديب الشيشكلي حين أعلنوا انشقاقا في الجيش، أدى إلى انسحابه من الحكم عام 1954، فيما يحفل حكم أمين الحافظ برد عسكري وقمعي قاس على تمرد عام 1964 في حماه ضد نظام البعث، وفي ذلك يقول حازم صاغية: (أن النظام من خلال أمين الحافظ رد بدموية مضاعفة أدت إلى مقتل ما يقرب من مئة شخص، فضلا عن قصف جامع السلطان في حماه، وكان لهذا الحدث الأخير الذي شكل سابقة غير معهودة أن نبه البيئات السنية والمدينية المحافظة إلى دور أبناء الأقليات الريفية في السلطة الجديدة) (2)
على أن هذه الوقائع لا تنفي بل ربما تؤكد أن حلب كانت المدينة التي استوعبت جميع التيارات والأحزاب السياسية خصوصا في فترة ما بعد الاستقلال فقد كانت القاعدة الرئيسية السياسية في سوريا, على الرغم من بيئتها المحافظة إلا أنها كانت حاضنة للجميع, فتصارع في مقاهيها ومنتدياتها وعلى صفحات صحفها البعثيون والناصريون والقوميون السوريون والشيوعيون والإخوان المسلمين و غير ذلك من تيارات و أحزاب. وفي عهد حافظ الأسد احتضنت في نهاية السبعينيات حركة الإخوان المسلمين وعارضت أسلوب حافظ الأسد في قمعهم على الرغم من أن ليس كل الحلبيين كانو يدعمون أو يؤيدون الإخوان، وكان ذلك بسبب رفضهم لممارسات نظام الأسد الذي لم يميز بين النشاط السياسي للأخوان المسلمين والمشاعر الدينية لبئية حلب المحافظة التي شهدت في عام 1980 مظاهرات حاشدة ضد الأسد.. قبل أن يتمكن من قمع التواجد الأخواني فيها عبر سلسلة من المجازر التي كان هدفها ترويع الناس، وإنزال حالات من العقاب الجماعي الانتقامي الذي يسكت أي حس شعبي مناوئ للنظام المنفرد بالسلطة.
هواجس الاقتصاد والسياسة!
لكن هذه التقلبات السياسية بخيرها وشرها لا يمكن فصلها عن الأحوال الاقتصادية التي تركت آثارها على مجتمع حلب... فمنذ أن وصل حزب البعث إلى السلطة في سوريا عام 1963 بدأ تغيير بنيوي يحفر (خبط عشواء) في المجتمع السوري وكانت حلب أول المتأثرين فيه، ولعل جذور ذلك بدأت قبل ذلك أيام الوحدة مع مصر حيث كان تأميم المعامل والمصانع ولحقه تأميم الأراضي الزراعية بعد إنقلاب 8 آذار, مما أدى إلى تغيير طبقي في المجتمع الحلبي الذي كانت فيه البرجوازية التقليدية ذات ثقل اجتماعي وسياسي و اقتصادي كبير, وفي ظل حكم البعث و حكم آل الأسد بدأت هذه البرجوازية تضمحل شيئا فشيئاً وتفقد دورها، حيث عمل النظام على تهميشها بشكل ممنهج، فراحت تفقد دورها الاقتصادي والسياسي تدريجياً وبالتالي خف ثقلها الاجتماعي، وتراجع دورها بشكل ملحوظ. فالعائلات والشخصيات الحلبية لم يعد لها ذلك التأثير في ظل حكم البعث، بعد أن أخذت أراضيهم وصودرت أرزاقهم مرة بحجة التأميم ومحاربة الإقطاع، وأخرى بحجة الإصلاح السياسي، وثالثه تحت شعار النهج الاشتراكي ومحاربة (البرجوازية العفنة) مما أدى إلى غياب نوع من المرجعية الاجتماعية التي كانت سائدة في حلب.
أدرك الأسد علاقة الاقتصاد بالسياسة وشراء الولاءات في حلب المشغولة دوما بهواجس المدينة الكبيرة ذات الثقل الصناعي، والتاريخ القديم العريق على طريق الحرير، فسعى لكسب دعم طبقة التجار مرة أخرى باحثا بين الوجوه التي حلت محل الطبقة القديمة، وعمل في بداية حكمه على استمالة الحلبيين إلا أن صراعه مع الأخوان وقسوته على المدينة خلقت شيئا من الرهبة والخوف والتوجس المتبادل، وزاد في ذلك هواجسه الامنية الاحترازية في جعل حلب البعيدة عن المركز ذات ثقل يمكن أن يرجح كفة سبق وأطاحت بالشيشكلي... وعندما فشل في احتواء المدينة قرر تهميشها، وبعد 1980 فرض عقوبات جماعية على حلب , فأهملها ومنع أي مشروع حيوي ذا قيمة في حلب , وكان يحول فائض وارداتها إلى محافظات أخرى , وكان لا يستحي من قول إن الحلبيين كلهم وقفوا ضده في تلك المواجهة الدموية وليس الإخوان المسلمين فقط , ولذلك كانت المدينة الأولى في سوريا التي طبقت فيها الأحكام العرفية على المواطنين بصورة مبالغ فيها وعشوائية على مدى سنوات حكمه!.
ومع وصول بشار الابن إلى السلطة، حاول تغيير استراتيجية أبيه في ظل الركود الذي عانت منه المدينة، وركز اهتمامه على حلب ليستطيع السيطرة عليها من جديد، بإقامة علاقات مصلحية مع تجارها وأصحاب رؤوس الأموال ليعمل على استعلال برجوازية طفيلية القائمة على علاقات الفساد والمنفعة والاستفادة من علاقتها بالسلطة، حلت محل البرجوازية التقليدية العريقة في دارية (لا غفلة) من زمن البعث... فأدخل الكثير من رجال الأعمال في شراكات مع شخصيات مقربة منه مثل ابن خالته رامي مخلوف وغيره حتى أصبح من الصعب عليهم الخروج منها . وعندما اندلعت شرارة الثورة ضد حكمه في أقصى الجنوب، ظل الرهان لأشهر طويلة على أن تبقى حلب خارج المعادلة الثورية أقصى فترة ممكنة، لذلك تحاشى النظام في البداية استفزاز المدينة كما فعل في درعا و حمص.. وكما عاد ليمارس سيرة أبيه الأولى على حماه ذات العداء التقليدي مع حكم البعث.
تجارب الثمانينات المريرة!
الحلبيون المسكنون بمرارة ووحشية القمع في ثمانينات القرن العشرين ومجازر حي المشارقة وبستان القصر وسواها، وقفوا ينظرون قطار الثورة وهو يمر سريعا بين مهد الثورة في درعا وصولا إلى الوسط فالشمال، حيث استعادت إدلب توقها القديم للانقضاض على نظام لم تجد معه يوماً أية روابط ولاء حقيقية.
طبعا لم يمنع هذا من وجود نوع من الحراك السلمي المحدود في أوقات مبكرة... لكن الصورة العامة لحلب الساكنة والساكتة بقيت عصية على الثورة... وبرزت العقبات الصعبة التي راحت تواجه الشباب الثائر، الذي لم تقنعه كثيرا ذكريات الآباء المريرة مع تجارب قمع الثمانينات الوحشية... لكن الذاكرة الشعبية المتوارثة لتلك الأحداث لعبت دوراً كبيراً في تردد الكثير من الحلبيين في تأييد الثورة والانضمام لها، ليس كرها في الثورة أو تأييداً للأسد بل، لأن ذاكرتهم تحفل بالصور والأحداث الدموية التي لا يمكن أن تمحى... إذ يكاد لا يوجد بيت أو عائلة لم يفقد عزيزا في تلك الأيام، أو لم تذق لوعة اعتقال أب أو أخ أو ابن عم غاب لسنوات في سجون وأقبية التعذيب في عهد الأسد الأب، فالخوف من تكرار تلك الأحداث ساهم في تأخر الكثير من الحلبيين بالانضمام للثورة خصوصا بعد أن رأوا الإجرام الذي ارتكبه النظام بحق أهالي درعا و حمص.
عقبات في وجه الثورة!
ولعل أهم العقبات التي واجهت حلب في انضمامها للثورة، كان غياب القدرة على تنظيم الصفوف في مجتمع ميديني واسع، فعدم التجانس السكاني والكثافة السكانية الكبيرة في الوقت ذاته كانت تحول دون تنظيم مظاهرات كبرى كالتي شهدتها حمص أوحماه، وكلما كان هناك دعوة لمظاهرة كانت المشكلة هي تجميع الشباب لبعضهم من أجل الخروج للساحات المسيطر عليها أمنياً بحرص جديد بعد أن أفلتت مدن أخرى. ناهيك عن ضعف التواصل بين الناشطين واختراق النظام لهم، فكلما كانت هنالك دعوة للتظاهر في مكان ما، كانوا يجدون عناصر الأمن و الشبيحة قد سبقوهم وفرقوا مظاهرتهم واعتقلوهم.
كما أن غياب الحاضنة الاجتماعية في المدينة و خصوصاَ في الأحياء الراقية كان من أهم الأسباب في تأخر حلب المدينة في الالتحاق بركب الثورة، حيث أن الكثير من الطبقة الغنية في حلب كانت ترى في الثورة تهديدا لمصالها الاقتصادية.. فالثورة ستخلق بطبيعة الحال نوعاً من عدم استقرار، وسيهدد ذلك مركزها المالي والاقتصادي، كما أن النخب الفاسدة التي عمل نظام الأسد الأب والابن على تظهيرها و دفعها إلى الواجهة كانت نخباً مرتبطة ارتباطا عضويا بالنظام، فالقيادات الدينية الإسلامية والمسيحية كانت تقف إلى جانبه، لأنها تدرك أنه سبب وجودها وبقاءها، حيث عمل بشار ومن قبله أبيه على استبعاد القيادات الدينية المعارضة أو حتى الملتزمة بأصول الدين، بقيادات وشخصيات دينية هشة تواليه، وأغدق عليهم الامتيازات أمثال المفتي حسون و قبله مفتي حلب محمد صهيب الشامي ليكونوا صوته و أداته التي يسيطر بها.. وربما لا ينسى المتابعون التسجيل المصور الذي بث للمفتي حسون، والذي يثني فيه على ما يسميه (رجاحة أهل حلب) لعدم قبولهم دعوات التظاهر على حد تعبيره، أو قوله بسذاجة لاتخلو من رخص أنه هدد المحافظ إن لم يلبي مطالب أهل حلب بأنهم سيخرجون للتظاهر!
لقد كان هذا نموذجا صارخاً عن (النخب) الجديدة التي راحت تمثل حلب في الافتاء أو المكانة الاجتماعية أو حتى في مجلس الشعب المختاربعناية من أسوأ أصناف المصفقين من كل المدن... ولهذا كان الشارع الحلبي منفصلاً عن نخبه الاجتماعية بعكس العديد من المدن مثل درعا التي لعبت الروابط العائلية والعشائرية دوراً كبير في دعم الشباب الثائر، كما أن التجانس السكاني والطائفي نوعا ماً في حماه وحمص مقارنة بحلب، لعب ذلك الدور في إيجاد البيئة الحاضنة للثورة والسريعة الاشتعال بالمظاهرات. حيث أدى تلاحم النخب الأكثر بساطة من تعقيد فساد المال والسطلة في المجتمع الحلبي، مع القواعد إلى الصمود في وجه وحشية الأسد وآلته العسكرية والإصرار على الاستمرار في الثورة تصاعديا مهما غلت التضحيات.
ولا يمكن حين نتحدث عن التنوع وعدم التجانس السكاني الحديث عن موقف المسيحيين في حلب. فالمسيحيون تاريخياً هم مكون أساسي من مكونات المدينة، ولهم إسهاماتهم الكبيرة، وموقعهم في أحياء المدينة الراقية، ولا يمكن تصور حلب بدونهم فهم جزء من تاريخ المدينة وثقافتها، ولكن موقفهم المسكون بالخوف من التغيير ودعاية النظام حول سلفية الثورة أفرز شكلا صارخاً من التأييد لنظام بشار الأسد، استجابة لروايات النظام حول وصول الإسلاميين و المتطرفين للسلطة مما سيعرضهم للاضطهاد الديني والاجتماعي، وبعضهم دعم النظام بسبب المكاسب التي أعطاهم إياها، كبعض المناصب و الامتيازات منذ أيام الأسد الأب، و كانوا لا يرغبون بالثورة لأن ذلك من شأنه أن ينقص من هذه الإمتيازات ويجعلم متساويين مع باقي شرائح المجتمع الحلبي، مما قد يؤثر على وضعهم النخبوي في المجتمع. ولكن ذلك لم يمنع أن يظهر بعض أبناء الطائفة المسيحية كناشطين معارضين للنظام.
تجار مخدرات وممولو شبيحة!
كذلك فقد دَعمت العشائر في حلب النظام من آل بري والبكارة والعساسنة وغيرهم, وقيام النظام بتوظيف وتمويل الكثير منهم كشبيحة لقمع المظاهرات كان من أهم الأسباب التي أرهبت سكان المدينة و حدَ من خروجهم في المظاهرات، فهم نوع من المافيا سكت النظام عنهم طوال الفترات الماضية حتى ما قبل الثورة و سكت عن إجرامهم الذي كان يخيف المدينة... فمجرد ذكرهم يكفي لبث الرعب في قلوب الناس، لأن الكثير من أهالي حلب يعلمون أن الكثير منهم يعملون كقتلة مأجورين أو كتجار سلاح أو مخدرات، و عندما قامت الثورة أخرج الكثير منهم من السجون وقام بتسليحهم حتى يعاونوه في إرهابه لمدينة حلب.
الثورة فيها،حيث انتقل الثقل الثوري من حلب المدينة إلى الريف الحلبي الذي انتفض عن بكرة أبيه، ودفع الثمن باكراً في وقت كان تنتشر فيه النكات عن انشغال أبناء المدينة بالكبة الحلبية في أيام الجمع، وأضحى أبناء الريف الشاسع المساحة يخرجون في مظاهرات يومية منددة ومطالبة بإسقاط النظام الذي أفقره وهمشه متعمداً.
وإلى جانب الريف لعبة جامعة حلب دوراً في جر المدينة إلى الثورة بشكل أو بآخر... صحيح أن النظام – باعترافات موثقة- كان يتساهل مع أبناء حلب الذين يشاركون زملاءهم من مدن أخرى الخروج في مظاهرات الجامعة الغاضبة، فيما يمارس أقسى حالات العقاب والاعتقال والتعذيب مع طلاب جامعة حلب الذين ينتمون للمدن الثائرة كإدلب وحماه والقامشلي... إلا أن هذا لم يمنع بعد جهود شاقة وعسيرة من أن تترك الجامعة أثرا في محطيها، ولو بدا متأخراً وبطيئاً
استحقاق الثورة!
إن الثورة في حلب التي بدأت بشكل رئيسي واتسعت ريفياً، ما لبثت ان أفسحت المجال لدخول ونمو كتائب الجيش الحر في أحياء المدينة التي شهدت أشرس المعارك مع جيش النظام، وكبدت حلب ثمنا باهظا من معالمها وتاريخها وسوقها التجاري العريق وجامعها الأموي الذي شكلت صدمة إحراقه حدثاً بالغ التأثير في الوجدان العربي لا السوري والحلبي فحسب... ولهذا يمكن القول أن حلب إن لم تكن وفية لأسباب الثورة في البداية ولم تؤمن أنها ضرورة وليس خياراً، وإن لم تتخذ قرارها الجدي والحاسم في اللحاق بالثورة باكراً... إلا أنها سددت غرامة التأخير بشجاعة... فقد أدركت – ولو متأخرة- أن الثورة قدر كل السوريين اليوم، وأن الثمن الباهظ التي دفعته سيخلق لديها وعياً تاريخياً كبير، بضرورة استعادة مكانتها كواحدة من حاضنات التغيير الأساسية في سورية... كلما اقتضت الضرورة ذلك مستقبلا!
هوامش:
(1) بيير لامازيير (مسافر إلى سورية) ترجمة د. فوزية الزوباري- ط1- دار المدى: دمشق 2009
(2) حازم صاغية (البعث السوري) ط1- دار الساقي- لندن: 2012
التعليقات (25)