بين خوفين..

بين خوفين..
إلى ناجي الجرف

غادرت سوريا لأنني كنتُ خائفاً من الاعتقال، اشتهيت موتاً يأتي فجأة، لا أشعر بتفاصيله، لكن القدر رحمني، وأبقاني بعيداً عن رصاص القتلة، وعن الهاون العشوائي، لكنه صنع كتلة هائلة من صخر صلد، أبقاها على صدري طيلة سنتين ونصف، منعتني من التنفس والتفكير بحرية...

 ورغم ذلك كنت أستطيع التسرب من تحت ضغطها الهائل، فكتبت أشياء شخصية كثيرة، وكتب مقالات نشرتها هنا في أورينت نيوز، وفي غير مكان تحت اسم مستعار.

حريتي الوحيدة كانت قابعة في هذا الحيز، حيز الكتابة، وبكل ما تمكنه الكلمات من امكانيات التحليق، كنتُ أذهب إلى أخر الأشواط، ففيها كنت أرى صورتي تتكرر في كل المظاهرات التي خرجت، أذهب من دمشق إلى حمص ودرعا، إلى عامودة وسلمية، وإلى حلب وحماة، وإلى كل قرية وناحية وبلدة.

وفي هذه الفسحة كنت أمسي معتقلاً وشهيداً، فأتحدث بأصوات المعتقلين والشهداء، وأصف حالهم، وعبر مسارات هذه الحرية تساقط من لغتي الشخصية تقعر الكلمات وتعقيد الجمل، فصارت مثل الثورة، واضحةً نقية، مليئة بالمعنى بذاتها ولذاتها، وبينما كنت أنشر قطعاً شعريةً مليئة بالمجازات، ظناً مني بأنني أحتال على الرقيب الأمني الذي اعتقل الكثيرين بسبب ما كتبوه على فيس بوك.

كان الأصدقاء النابهون يسجلون موقفي، ويدركون بأن (التقية) في الكتابة ليست أكثر من فعل إجرائي يجنبني الاعتقال بسبب اعتراف يلتقطه أحد المخبرين، ليجعله مادة لتقريريه الأمني.

 كل شيء صنعته في عامين ونصف، كان يتمحور حول فكرة تجنب الاعتقال، ولكن أسقط في يدي، فبعد سنة ونصف من منع السفر بات الخطر قريب، فقرر الأصدقاء بأن أخرج من سوريا، كي لا أغيب في الثقوب السوداء/ المعتقلات، ويصبح مصيري كمصير من كتبت عنهم، وكان ما أرادوه..

في المنفى تتحول الأفكار الرازحة عن الخوف من الاعتقال إلى حالة من العبث، فهنا يصبح المعتقل الافتراضي حراً في الحركة، ولكنه يبقى أسيراً لوطنه، فلا يشعر بطعم الحرية، سوى في التفاصيل الإجرائية، كالعيش والحركة والسفر، ولكنه لا ينخلع من أساور حديدية تربطه بالمكان الذي رهن له حياته وأحلامه.

ولعل الطرافة والألم في آن معاً، أنني ومثلي الكثير كنا نتجمع في مكان واحد، نستقر فيه، لنصنع مجتمعاً مؤقتاً، يمكننا من ممارسة الفعالية التي نشتهي، ويسهل لنا أن نعيش حريتنا في الكتابة والعمل.

كانت غازي عنتاب في جنوب تركيا هي المكان، وشيئاً فشيئاً حولناها إلى المعتقل الإرادي الذي اخترناه، كي لا نمضي بالتحرر من الوطن، وكانت شروطنا عليها بسيطة، إذ يكفينا توفر الحيز الأدنى من كل شيء كنا افتقدناه في البلاد، كي نستعيد صورة سوريا كما نحب ونشتهي.

وفي هذه المدينة كنا نمارس كل النزق، كل القباحة، كل الهراء، كل الضغينة، كل الاستلاب. لقد كنا نعيد انتاج عقود من خراب صنعه الاستبداد، ونظهره، فيبدو للناظر من بعيد خراباً حقيقياً، ولكنه كان بالنسبة لمن عاش المدينة وعلاقات السوريين فيها، أشبه بفعل تطهر حقيقي، يمكن للبعض أن يخوضه وينجح، ويمكن للبعض الآخر أن يفشل فيه فيبقى رهينه حتى تجارب أخرى، قد تساعده على تنقية النفس من سرطان الكراهية.

في غازي عنتاب، عملت في عدة مؤسسات، بحد أدنى من الشروط، كان محرق النشاط العقلي يتركز على فعل الحرية، إذ لا يمكن لثورة أن تنجح دون أن يتمكن ثوارها من أن يكونوا أحراراً، ولكي يكتمل شرط الحرية ويثمر يجب أن يكون الثائرون متمكنون من أدواتهم.

وهكذا كانت مساحة التدريب والعمل على انشاء المؤسسات الإعلامية، تجمعني مع جيل جديد من الشباب الذين يرغبون بالدخول إلى مهنة المتاعب في توصيفها العام، والتي تحولت إلى مهنة الموت في التوصيف السوري الخاص. الأقسى في هذه المهنة يأتي من أنها تأسر الفاعل فيها، تشده إلى تفاصيلها الكلية بعد أن يستمتع بحريته التي فقدها في الوطن، وفي النهاية تعتقله.

 وشيئاً فشيئاً كانت معادلة الخوف من الاعتقال الذي يودي إلى الموت، تتكرر معي ومع غيري هنا في غازي عنتاب، وفي عملنا على إنتاج صحافة جديدة تتحرر من قيود الاستبداد وسيطرة نظام الأسد على حياتنا وطرق تفكيرنا.

 لقد كان هؤلاء الشباب يعيشون مخاضاً صعباً، قوامه الرغبة بالحرية، مختلطة بالرغبة بالتحرر من سيطرة الممولين والداعمين، معجونة بحلم العودة إلى الوطن، على أرضية مليئة بكل ما ورثناه من فساد أخلاقي كرسه النظام ونمط العلاقات الاجتماعية التي فرضها المستبدون.

 كره الكثيرون غازي عنتاب، وأحبها الكثيرون، وعلى عتبات مشاعر الأفراد، كانت المدينة وطناً مؤقتاً، يضطر السوريين لأن يقبلوا به طالما أنه قريب من سوريا، وطالما أنه يمكنهم ببساطته من العيش والعمل.

ولكن الحقيقة التي همس بها العديد ممكن عرفتهم وعملت معهم، كانت تقول بأن هذه المدينة ستكون جزءاً من الذاكرة السيئة للسوريين، وهذا ما كان يحصل حين كنا نودع الناشطين الإعلاميين بعد تدريبهم، وهم يعودون إلى سوريا، ولا نعرف بأننا نهيل عليهم تراباً من الأسى، فهم يذهبون إلى الاحتمالين بين الموت والحياة، وكم غلب الاحتمال الأول، حتى ضاقت الذاكرة بصور الشهداء..! صورة غازي عنتاب التي ترسخ الآن.

وبعد اغتيال ناجي الجرف، هي صورة سورية بامتياز، فكل من فيها معتقلون، بصورٍ وأشكالٍ متعددة، فمن معتقل بمعيشته، إلى آخر معتقل بأحلامه ومشاريعه، إلى معتقل بالانشداد إلى الحدود القريبة. إلى صورة عامة نرى فيها السوريين معتقلين جميعاً بعد قرار فرض تأشيرة الدخول على الراغبين بالمجيء إلى تركيا.

فالمغادرة من هنا قد تعني فيما تعنيه ذهاباً بلا عودة، وصولاً إلى صورة شخصية تتكرر عند كل من قابلتهم بعد استشهاد ناجي، بدأت الكتابة بالحديث عنها، لقد كنا نخشى في الشام أن نكون معتقلين، لنصبح بعدها موتى تحت التعذيب..!

وها نحن نخشى في هذا المنفى أن يودي بنا الاعتقال الإرادي -أو لنقل- رغبتنا بالبقاء على أهبة حلمنا السوري، إلى مصير أشد قهراً، فهنا نصبح قتلى بمسدسات مزودة بكواتم صوت، لا أحد يسمع صوت الطلقة، ولا أحد يعرف من كان يتربص بنا، في عالم يعتم علينا كل شيء، لا نرى فيه سوى عيون الضباع وهي تلمع في الظلام.

التعليقات (0)

    0

    الأكثر قراءة

    💡 أهم المواضيع

    ✨ أهم التصنيفات