عن «رسائل من اليرموك»

عن «رسائل من اليرموك»

لطالما تأذّت قضايا عادلة من أعمال فنّية حاولتْ نقلها، أو أقول انتقلت بها إلى الجمهور المتلقّي، أي أن العمل الفني، ليكن فيلماً، انتقل بواسطة القضيّة، أي ركبَ عليها، ليصل إلى جمهور، ويصل صاحب العمل إلى مدن ومهرجانات باسم الفيلم لا كعمل فنّي، فلا قيمة فنّية تكون للفيلم، بل كناقلٍ لقضيّة راكبٍ بكلّ ثقله عليها، ويصل الفيلم، كرمى لها، إلى ما يصله من احتفاءات.

يخصّ ما قلته أفلاماً تتسلّق على قضايا، فبدل أن تضيف الأولى إلى لأخيرة تأخذ منها، وتركبها لتصل بها إلى قبول عام وربّما احتفاء لا يتعلّق بالفيلم بل بموضوعه، فتكون القضيّة هي المبرّر لهذا الاحتفاء، ويكون الفيلم متسلّقاً بائساً.

ولأنّ موضوع المقالة هو فيلم «رسائل من اليرموك» لا بدّ أن يكون الفيلم ذاته محرّضَ الأسطر الافتتاحية هذه. لكن لا. أسوأ. فالفيلم لم يركب على المخيّم المنكوب وحسب، أي لم يستغل قضيّة دون أن يمتدّ الاستغلال ليصل شخصاً بعينه، بل تعدّاها إلى استغلال عمل فنيّ لأناس من المخيّم. لم يكتفِ الفيلم باستخدام القضيّة كفكرة مجرّدة للوصول إلى الجمهور بل امتدّ إلى استخدام أشخاص منتمين إلى هذه القضية، هم وأعمالهم التوثيقيّة والفنّية.

الفيلم المذكور للمخرج الفلسطيني رشيد مشهراوي. عُرض قبل أيام في مدينة تولوز جنوب فرنسا ضمن عروض «سيني-بالستين». خرج الجمهور من القاعة متأثّراً بقصّة المخيم وأهله كما بان، أعجبهم الفيلم بقدر ما هم متضامنون مع المخيّم ومجمل المناطق السورية التي تتعرّض لوحشيّة النظام أو “داعش”، أو كليهما. أعجبهم الفيلم بقدر ما تأثّروا بالصّور التي صوّرها نيراز سعيد من داخل المخيّم ونقلها عبر الإنترنت إلى المخرج مشهراوي في رام الله.

ما دون ذلك، ما دون الصّور التوثيقية التي خرجت من المخيم، لم يكن في الفيلم ما هو بارز غير الطاقيّة العجيبة التي يصرّ مشهرواي على ارتدائها حتى في بيته أو مكتبه، وحتى أثناء محادثات السكايب مع نيراز.

فالفيلم، برداءته كما ولّفه مشهراوي، لم يكتفِ بالإساءة لقضية اليرموك بل تعدّاها إلى الإساءة للصّانع الحقيقي للعمل، نيراز، الذي اعتمد الفيلم أساساً على اللقطات التي خاطر بحياته وصوّرها في المخيم المحاصَر ليرسلها إلى مشهراوي. فدون هذه الأخيرة لن يبقى من الفيلم غير محادثات الأخير مع نيراز يطلب منه المزيد من اللقطات.

لكنّ الفيلم يحوي كذلك مشاهد استعراضيّة حيث خرج مشهراوي وطاقيّته، معاً، إلى متحف محمود درويش في رام الله ليسأل عن إمكانيّة إنجاز معرض فوتوغرافي لصور التقطها نيراز في المخيّم. صار ذلك وشارك وزير الثقافة الفلسطيني في افتتاح المعرض، رغم مُشاركة السلطة الفلسطينية التي يمثّلها هذا الوزير، في مأساة المخيّم وصفّها إلى جانب مسبّبها، النّظام وأعوانه.

تشغل هذه المَشاهد حيّزاً زائداً عن حدّه، هذا عدا عن خلوّها أساساً من أي وظيفة غير استعراضيّة. لكنّها، لذلك، أتت ملائمة للمَشاهد الأخرى التي صوّرها مشهراوي، أقصد جلساته على السكايب يحكي مع نيراز سائلاً إياه أسئلة تُلائم، هي الأخرى، الطاقيّة «الأجنباويّة» ذاتها التي يرتديها في بيته ومكتبه.

في مقابل هذا الاستعراض: الطاقية الغريبة عن كل ما في الفيلم إلا مُخرجه، المخرج الغريب عن موضوع الفيلم، معرض «الغفلة» الغريب عن صاحبه الأساسي نيراز. مقابل ذلك هنالك المَشاهد التي لولاها لكان الفيلم شريطاً دعائياً لرشيد مشهراوي، هنالك المَشاهد التي تحوي كل ما يحتاجه الفيلم الوثائقي، والنقيضة تماماً للاستعراضيّة، لكنّها، لوثوق نيراز أولاً و«شطارة» مشهراوي ثانياً، صار أن جمعها الأخير، بما يحتاجه هذا الجمع من انتهازية، مع لقطاته الترويجيّة فصار الفيلم «رسائل من اليرموك».

اليوم، يُشارك الفيلم في مهرجانات محليّة، يُسافر مشهراوي إليها وتُجرى معه لقاءات، وذلك لموضوع الفيلم وتوثيقيّة مَشاهده التي صوّرها نيراز، لا لجلسات السكايب المصوَّرة في رام الله، أمّا نيراز فقد اعتُقل من قبل الأمن السوري قبل شهرين، أي بعد خروج الفيلم وانتشاره.

واليوم كذلك، نيراز في معتقله لا نعرف شيئاً عنه، ومشهراوي منشغل عنه حتى بإشارات سريعة عبر حواراته الصحافية، أو الفيسبوك، منشغل في مهرجاناته.

التعليقات (0)

    0

    الأكثر قراءة

    💡 أهم المواضيع

    ✨ أهم التصنيفات