“سوخوي” لداعش في هولندا

“سوخوي” لداعش في هولندا
كان النّهار الأوّل لي بعد زيارة إلى بيروت استغرفت أسبوعاً، النّهار الأوّل في أوروبا حيث مررت بأقرباء لي في هولندا قبل إكمال طريقي إلى فرنسا، كحال جميع السوريين المشتّتين بين آلاف النّقاط، غير المسمّاة، الظاهرة على خريطة أوروبا. من النّهار الأوّل سمعت كلمة “داعش”، دون أن أسأل أو يأتي أحدنا على سيرتها. مرّ بنا جارٌ هولندي. عرف أنّي قادم في زيارة قصيرة فسألني مباشرة عن أهلي في سوريا، منسّقاً في رأسه افتراضات مسبقة يبني عليها أسئلته وتعليقاته التي لم يبدُ أنّه أراد بها غير إظهار تعاطفه.

استلمَ الحديث عن الدّمار الذي لحق بالبلد هناك، ومن الكلمات الأولى التي نطق بها كانت “داعش”. لم يأت على ذكر النّظام هناك، قال «آيسيس» فانتبهت أكثر لحديثه، حريصاً على عدم مقاطعته، منتظراً أن يقول «أسد». لم يقلها، انتظرت أكثر متمنّياً أن ينطق بها، مانحاً إياه الفرصة بمواصلة هزّ رأسي موافقاً. لكن ما سمعته في الخطاب التضامني الصّادق والسّاذج كان أشد وقعاً عليّ من عدم ذكر الأسد بالاسم والاكتفاء بلوم “داعش” على ما يلحق بالسوريين من مآسي.

«لا أفهم كيف يمكن ل”داعش” أن يقصف النّاس»، قالها بإنكليزيّة ركيكة إنّما تكفي لإيصال فداحة الفكرة في رأسه كما هي. ومؤكّداً حديثَه، رفع يده جاعلاً إياها على شكل طائرة (سوخوي ربّما)، على أنّها واحدة من الأسطول الجوّي ل”داعش”.

ومثله كثر، في هولندا وفرنسا حيث أقيم، وكل العالم. أصدّق رغبته الساذجة في تضامنه، محض رغبة إنسانية، مصدر المعلومة الوحيد لديها هي النّشرة المسائيّة على التلفزيون المحلّي. لكنّ الرغبة هذه والتضامن هذا يتم غالباً حصره في التصريح للضحيّة بالتعاطف معها، كضحيّة «نزاعات» أو «حروب» أو «أزمات» غير مفهومة، فلا يُرفَق التضامن ذاته بموقف سياسي واضح تجاه المسبّب لكون أحدنا ضحيّة، وكأنّنا ضحايا كوارث طبيعيّة، وهذه نصف المصيبة.

أمّا المصيبة كاملةً فتكون حين يُراد تحديد المسبّب، بأن يكون “داعش”، دون غيره. وهو، الجار البسيط والملايين مثله من المصوّتين ودافعي الضرائب الأوروبيين، لا يتغاضى عن المسبّب الأساسي والأكبر للدمار البشري والحضاري في سوريا فحسب، ويا ليته فعل، بل يحيل الدّمار إلى جهة أخرى اسمها “داعش”، فلا يكون النّظام المسبّب المجهول في حالة كهذه، بل يكون بريئاً تماماً بحصر السبّب في غيره، في “داعش” الذي، في هولندا فقط، سمعتُ أنّ صارت له طائرات حربيّة!

حاولت مقاطعته قائلاً بأنّ الطائرات للنظام، أو، بحالات أقل، لروسيا أو أمريكا أو أي بلد يريده في هذا العالم إنّما ليس ل”داعش”، قاطع محاولتي لمقاطعته. كان منتشياً، فرحاً بحالة التضامن التي يظهرها، “منعجقاً” بحاله، بمعرفته في تفاصيل حرب تُشنّ، بالنّسبة له، في عالم آخر.

لا أتكلّم عن الحكومات في أوروبا والعالم، فلكلّ منها مساهمتها في المأساة التي يعيشها السّوريون الآن، وجميعها ربّما منهمك ب”داعش” لا النّظام، رغم الفوارق الفلكيّة بين كل منهما فيما سبّبه من مأساة، ورغم تجذّر أحدهما منذ أكثر من أربعين سنة والظهور الطارئ للآخر، طارئ كدولة أو تنظيم.

أتكلّم عن النّاس، الجيران، الأوروبيين العاديين، الموظّفين والعاملين والطلاب والمتقاعدين الذين لم يعودوا يرون من كلّ المأساة غير “داعش” الذي صار السّطل المتّسع لكل جرائم الحرب المرتكبة داخل الحدود السورية، وصار النّظام هو المواجه له وهو الضّامن لتلاشيه وفي أحسن الأحوال، صار النّظام مُغيَّباً عن كل ما يُرتكب في سوريا.

لا أناقش في جرائميّة “داعش” وأفعاله، لكن، والأهم، لا أناقش في عبثيّة المقارنة بين ما ارتكبه وما ارتكبه النّظام، والحديث عن الارتكابات ينحصر فقط في المدّة الواقعة بين أوائل العام ٢٠١١ وحتى اليوم، فكيف بالحديث عن زمن لم يعرف جيلان كاملان من السوريين غيره في حكم عائلة الأسد؟

هل سيقتنع المشاهد المخلص لنشرات الأخبار المسائية في محطّة هولندية أو فرنسية أو مهما يكن، بأنّ الأسد بهيئته الأشبه بهم (ذقن تلمع وبدلة بربطة عنق) بأنّه من يقصف الأهالي بطائراته وأنّه استحضر الرّوس والإيرانيين ومرتزقتهما للمشاركة في الحرب على الأهالي؟ وأنّ البغدادي بلحيته المبلّلة بالدّماء وهيئته الأقرب للشخصيّة الشريرة في فيلم فانتازيا مرعب، أنّه، المسكين، الوحيد من بين جميع مدمّري سوريا من لا يملك طائرات؟

الآن أتمنى لو أنّ الجار الهولندي اكتفى بإبداء التعاطف مع السوريين دون تحديد المجرم، لو أنّه فقط اعتبرها كارثة طبيعيّة.

التعليقات (2)

    خالد زين الدين

    ·منذ 8 سنوات 5 أشهر
    لم اكن اعلم ان الكاتل الفلسطيني سليم البيك ضد النظام السوري. لقد فاجأني ذلك لانني اعرف انه على علاقة وثيقة بداعمي النظام وبكزادر من حزب الله وتنظيمات فلسطينية موالية للاسد. عجيب هذا الزمن

    سليم البيك

    ·منذ 8 سنوات 5 أشهر
    هذه مدونتي الممتلئة بالمقالات التي لم توفّر لا النظام ولا التنظيمات التي تحكي عنها، من حزب الله إلى الفصائل. http://horria.net يمكنك العودة إلى الأرشيف الالكتروني لجريدة القدس العربي كذلك. تحقق من معلوماتك قبل التعليق.
2

الأكثر قراءة

💡 أهم المواضيع

✨ أهم التصنيفات