على هامش انتصارات يرويها مهرجون..

على هامش انتصارات يرويها مهرجون..

في الحياة اليومية، لا يمكن أن نحكم على الوضع النفسي لأي شخص يحمل وجهاً حيادياً، وحين نعتاد ونألف وجوه الناس، لا نتوقف إلا عند اللحظات المختلفة، أي تلك التي تدفعهم لأن يعبروا عن مشاعرهم، إما بالصوت، أو بالصورة. وبشكل طبيعي وبتأمل الوجوه ومن خلال تعابيرها النافرة عن سياقها المعتاد، سنفهم الحال الراهن أو سنعثر على مفتاح يؤشر له.

وجوه السوريين الذين مازالوا يعيشون في مناطق سيطرة النظام، لا يمكن لنا أن نفسرها في هذه الأيام، خاصة وأن هؤلاء لا يملكون القدرة على التعبير عما يجري في دواخلهم، فبعد خمس سنوات من المأساة، وبعد اعتياد تفاصيل الموت، وبعد إدمان الوجع، وتحول كل هذه التفاصيل إلى سياق يومي، لا يتغير فيه شيء سوى زيادة تراكمه، كيف يمكن أن نستعيد الفراسة ومن بعدها تحليل الوضع النفسي لهؤلاء، والسؤال ذاته ينطبق بشكل او بآخر على الشعب السوري بشكل كامل، بعد أن وصلت به الأحوال لأن يكون عالقاً في مصيدة، لا يمكن له أن يخرج منها، طالما أن مفاتيحها باقية بيد القوى الإقليمية والدولية!! 

بعيداً عن البلاغة، وعن لغة التجييش، وبعيداً كذلك عن الخطابات التعبوية في الراهن السياسي، وكذلك في الراهن الميداني على الأرض، السوريون كجماعة بشرية تجتمع تحت اسمها كل الأطراف من قوى سياسية وطوائف وقوميات، مهزومون، منكوبون، ولا يملكون أي أفق، وفي كل ساعة تمر عليهم، هناك خسائر، تضاف إلى ما سبقها، وحتى حين يستيقظ السوري في لحظة ما ليسأل نفسه؛ ما الذي يجري، لن يجد بين يديه أي إمكانية للحصول على جواب، فاللحظة التالية كما السابقة، هي لحظة تراكم، ولا مجال أبداً للتوقف، فالوقت بات طوفاناً هادراً جارفاً، يجري بقوة تدميرية هائلة، هنا لا يمكن لأي سوري أن ينأى بنفسه عن المسارب التي تمر فيها التفاصيل التي يحملها هذا الطوفان، ولكن في المقابل لا يمكن لكل سوري أن يعبر عن موقفه منها، خاصة إن كان يخضع لسلطة النظام الذي مازال رهين سياساته التقليدية ذاتها، فهو نظام لا يقبل من الخاضعين له أو الذين يعيشون تحت هيمنته أي شكل من أشكال الاحتجاج، ولهذا تراه وبعد خمس سنوات مازال يقوم باعتقال أي شخص يشك بميوله المعارضة التي لا تنسجم مع سياساته الأمنية.

 تبعثر السوريين بين مساحات النزوح واللجوء بين الداخل وبين دول الجوار، وصولاً إلى المنافي البعيدة، وخروجهم من تحت سلطة النظام، منح البعض منهم طرائق للتعبير عن أحوالهم، يستغلونها في الاحتجاج، مما يخفف عنهم قليلاً من الضيق، ويخفف من حيادية الوجوه، فوجه السوري الغاضب، الذي يصرخ محتجاً على سوء حاله وأحواله، يشعرنا بأن صاحبه على قيد الحياة، بينما تبقى الوجوه المحايدة أقرب إلى صفة الموت منها إلى الحياة..!

لا يستطيع النظام ومن معه، أن يتحدث عن انتصاراته، دون أن يكتشف مؤيدوه دون عناء يذكر حقيقة الأثمان التي يدفعونها بإرادتهم، لشراء أوهام الانتصار، فبعد مقتل مئات الآلاف من السوريين على يد جيشه، ومقتل أعداد هائلة من جنود هذا الجيش، منذ بداية المعارك، قبل أربع سنوات، وبعد سقوط أعداد لا يمكن تقديرها بسبب التكتم عليها يومياً، من أجل التقدم صوب المدن الصغيرة التي بقيت مستعصية عليه طيلة الفترة الماضية، كيف يمكن لماكينة النظام السياسية والاعلامية تسويق انتصارات كهذه؟ في الوقت الذي يحاول مئات الآلاف من الشباب السوري -المؤيد والمعارض على حدٍ سواء- مغادرة البلاد لينجوا من مطحنة الدم التي يقودهم إليها؟! 

ألا يفسر العجز عن تسويق الانتصارات بالحجة والمنطق، تلك المساخر التي يؤديها مهرجو إعلامه الذين يظهرون باللباس العسكري على الشاشات وهم "يشدون وينعطون" متحدثين عن تقدم هنا، وسيطرة هناك؟! 

كيف يمكن لأصحاب الوجوه المحايدة، الذين أغرقتهم بحار الدم والخراب والجوع، أن يصدقوا عصابة من المهرجين يتكون أفرادها من مسؤولين وإعلاميين وغيرهم، يحدثون السوريين عن انتصاراتهم العسكرية والسياسية، بوقاحة لا يمكن أن نعثر في التاريخ البشري على مثيل لها..؟! 

الحكايات التي يتناقلها السوريون عبر وسائل التواصل الاجتماعي، لا تقدم معطيات تجعل السوريين يصدقون روايات الانتصار التي يؤدي مشاهدها هؤلاء وغيرهم، من إعلاميين إيرانيين وروس وربما غربيين يسترزقون من جعالات النظام.. 

إنها الحكايات الحقيقية والواقعية التي تروي تفاصيل ما يحدث في السجن الكبير الذي مازال يحكمه النظام في سوريا، فهي تؤكد واقع الموات الكامل للحياة، أو على الأقل تفسر وبشكل دقيق الأسباب التي تدفع بالجماعة البشرية لأن تقرر مغادرة موطنها، والتوجه صوب أي بقعة أرض آمنة، فلجوء السوريين، ومغادرتهم لمدنهم وتركهم لأعمالهم ومصالحهم، لم يكن في أي لحظة من اللحظات ترفاً أو موضة يمارسه المرء برغبته..!

كل وجوه السوريين الذين كانوا ومازالوا يصلون إلى الجزر اليونانية والتي رصدتها كاميرات المصورين، كانت تؤشر إلى أسى عميق في تفاصيلها، لا يمكن لملامح فرح النجاة من أخطار عبور البحر أن تمحوه..، ولو قرر أي أحد أن يجمع بين صورة مهرج من مهرجي النظام على شاشاته، وبين صورة سوري آخر نجى من الموت ووصل إلى الشاطئ اليوناني، فإن النتيجة ستكون مفجعة..! إذ لا يمكن فعلاً أن تكون الصورتان لشخصين ينتميان لذات الجماعة البشرية..!

هنا وفي هذه التفاصيل، لن نحتاج لتحليل الصور، بل إننا سنكتفي بالمشاهدة، فوحدها الوجوه بملامحها المتعبة، هي من سيروي الحقيقة، عن شعب استفردت به ضباع الأرض، وتركه الجميع لمصيره المفجع..!

 

التعليقات (1)

    محمد جميل خضر

    ·منذ 8 سنوات 5 أشهر
    الله.. الله.. الله
1

الأكثر قراءة

💡 أهم المواضيع

✨ أهم التصنيفات