"أخبرني الأكاذيب" عن سوريا

"أخبرني الأكاذيب" عن سوريا
بعد الحرب على العراق قام الصحافي ديفيد ميلر بالعمل على كتاب "أخبرني أكاذيب" تناول فيه تفاصيل التضليل الإعلامي الذي مورس قبل وأثناء تلك الحرب، مؤكداً أن الحقيقة هي أولى ضحايا الحرب على العراق، وبأن تلك الحرب بنيت على طائفة من الأكاذيب الإعلامية لجأت إليها أمريكا وبريطانيا لتضليل شعوبهما وشعوب العالم.

واليوم تبدو سوريا في نفس المكان الذي كانت فيه العراق قبل 12 عاماً، إذ نجح العالم للمرة المئة "خلال 5 سنوات" بتحجيم سوريا وثورتها ومعاناتها، لتصبح بحجم خبر صحفي تعداد كلماته 100 كلمة، قضايا موت ولجوء وعذاب وقهر تتحول مع الإعلام العالمي إلى خبر يتم تحريره وصياغته بحرفية، يترأس الخبر عنوان صارخ، ينتشر الخبر عبر العالم، تتلقفه القنوات الإخبارية مرة والاجتماعية مرات، يموت الخبر في اليوم الثاني ليحل محله خبر من نوع آخر، أقل مستوى من الأول مع عنوان أكثر وهجاً، وهكذا تصبح سوريا وناسها خبر لا أكثر ولا أقل، ويستمر القتل والموت.

الخط الأحمر الذي رسمه أوباما قبل 3 سنين تحول ليصبح خطاً لامرئياً وتم طي صفحته، وشهداء الكيمياوي وبعض ضحاياه الذين لا يزالون على قيد الحياة، تجاوزوا دور الأرقام ليتحولو لذكرى لدى بعض السوريين الذين عاشوا التجربة وراقبوها فقط، بينما تلألأت ليالي جيران الغوطة "بطلة المجزرة" وتحولت إلى ليالي من الاحتفالات وانتخاب لملكات جمال ولعروض أزياء تحت رعاية نظام الأسد وتغطية وكالات إخبارية وقنوات تلفزيونية، فاحتفل هؤلاء ورقصوا وسكروا ومات أولئك وبكوا وتعذبوا، والجار ليس أخ الجار في سوريا، وحتى الموت كان عنصرياً، والإعلام أعمى.

الميليشيات الشيعية الطائفية التي حجّت إلى سوريا من العراق وإيران ولبنان توقفت عن العمل بسرية، ولم تعد مضطرة حتى إلى محاولة القتل تحت غطاء الأسد، فانتشرت صور رجالها الأحياء منهم والقتلى في إعلام من يسمون أنفسهم "محور المقاومة"، ليتجاهل إعلام الغرب تلك الميليشيات ويطلق عليها تسميات شرعية، ولتكتسب شيئاً فشيئاً صفة الشرعية.

وبين مجزرة الكيمياوي ومجازر الميليشيات ثمة موت في سوريا، موت يسير على الأرض يحمل معه كل من يصادفه بطريقه، وعلى اعتبار أن سوريا تحولت إلى منصة عرض لأنواع الموت التي تندرج كلها تحت صفة الجرائم ضد الانسانية، فإن الأسد وداعميه قدموا للإعلام وللدول كل ما يصلح ليكون "سبق إعلامي"، وفي كل مرة نضبت فيها الآلة الإعلامية وأصبحت بحاجة لبعض الغذاء يقدم لهم الاسد وميليشياته وجبة جديدة دسمة من الأخبار التي من شأنها تحويل سوريا لذلك الخبر القديم الجديد، وليذهب السوريون الذين لا يزالون داخل سوريا إلى موتهم تحت الكاميرات..

سيطر تنظيم داعش على الإعلام بشكل تام، وغطت أخبار تغطية أثداء البقر، وحجاب "ملكانات" العرض في واجهات المحلات لتصبح الخبر الأول، ولتكتسح شهادات المغتصبات وأسيرات داعش كل الصحف العالمية والوكالات، وليزيد داعش من متعته بتصدره الأخبار ، فينشر صور عمليات القتل تباعاً، وبقيت أمريكا تقوم بواجبها "المقدس" بالقصف، فتطايرت أرقام عدد طلعاتها الجوية وعدد الضربات التي وجهتها للتنظيم، ولكن الإعلام نفسه الذي احتفى بتصريحات المسؤولين العسكريين عن قتلى داعش، تجاهل أخطاء التحالف برمي الأسلحة والمساعدات للتنظيم "عن طريق الخطأ" بدلاً من إيصالها للمحاصرين والمقاتلين السوريين، وتجاهل هذا الإعلام الصفقات التي جرت نهاراً جهاراً بين داعش والأسد، ولم تغطِ انسحاب داعش من المناطق التي تسيطر عليها لحساب الأسد والعكس بالعكس، وأصبح الحجاب والنقاب والاغتصاب هي الأخبار التي يتم تغطيتها فقط، ولو لم يصور التنظيم عمليات إرهابه وقتله لأسرى سوريين وعراقيين وأجانب، لما جاء ذكر تلك العمليات.

تحولت قضية اللاجئين السوريين إلى القضية والخبر الأول على طول العالم وعرضه، وتضخمت الرواية وتزايدت أعداد اللاجئين السوريين "إعلامياً" وابتعدت عن الواقع أشواطاً واشواطاً، وتحولت الوكالات إلى موظف رسمي لدى حكومات الغرب لنقل أخبار اللجوء ورمي الأرقام هنا وهناك، وباتت شهادات اللاجئين يومية وحكايا التهريب هي المفضلة لدى صحفيي العالم، وشاركت صور القهر لبعض اللاجئين في مسابقات التصوير ليتسلم ملتقط الصورة الجائزة، وليلفظ بطل الصورة أنفاسه بين الأسلاك الشائكة على الحدود، أو ليدفن كرامته وبلده في واحد من المخيمات التي انتشرت في أوروبا، ولن يعرف أن صورة ظلمه وقهره والخوف في عينيه فازت بجائزة عالمية، وأنه أصبح مشهوراً أكثر من نجوم السينما، فكل ما يهمه الآن هو الحصول على ذلك اللجوء وآخر ما يمكن أن يفكر فيه هو مطالعة الصحف أو المواقع الصحفية.

روسيا اليوم في سوريا، النيويورك تايمز تقول إن سوريا اليوم هي أرض لحرب بالوكالة ما بين روسيا وأمريكا.

روسيا اليوم في سوريا، تقاتل هي والاسد بأسلحة روسية جديدة، وكأن حظر دخول الاسلحة إلى سوريا ليس أكثر من تعويذة فقدت مفعولها وتم دفنها في فناء المنزل، وانشغل الإعلام مرة أخرى بتصوير بعض الجنود الروس المنتشرين في سوريا، وباتت صورة مغنية روسية في صورة "سيلفي" مع مفتي سوريا "الذي أجاز القتل تحت اسم الدين"، باتت صورته معها هي البطل الإعلامي الجديد، ولتسيطر واحدة من الضربات الروسية لداعش على مجازر ارتكبتها الطيارات الروسية.

يقول السوريين "آخر واحد بيطلع من سوريا يطفي الضو"، وإن كانوا يسخرون من درجة التعب التي وصلوا إليها، فإن تلك النكتة الموجعة تبدو قريبة من واقع عمل عليه الاسد لخمس سنوات، ليترك هؤلاء بيوتهم وأرضهم وذكرياتهم لميليشيات شيعية غريبة ولجنود روس يسرحون في طول أرض سوريا وعرضها، ولتتحول جملة الألماني جوزيف جوبلز مهندس ماكينة الدعاية الألمانية لمصلحة النازية وأدولف هتلر: «اكذب،اكذب، ثم اكذب حتى يصدقك الناس" إلى إيقونة الأسد ومؤيديه وساعده في كل ذلك الإعلام الذي تديره دول تتجاهل السوريين لصالح تجارتها وحماية مكتسباتها من الموت السوري.. وأخبرني أيها العالم الأكاذيب عن سوريا.

التعليقات (1)

    حسين ابو صلاح

    ·منذ 8 سنوات 6 أشهر
    صدقتِ يا هنادي.. فلبوس الاعلام العالمي هو الكذب، و لكل دولة أجندتها و مصالحها، و الحقيقة في اجندات الدول. و بالمحصلة: العالم لا يكترث بأوجاعنا و آلامنا، و اصبحت اخبار سوريا بضعة سطور مملةفي اخر نشرات الأخبار.
1

الأكثر قراءة

💡 أهم المواضيع

✨ أهم التصنيفات