"صناعة النموذج" بالإضافة إلى أثرها على الكثير من السوريين، لعبت دوراً في مساحات التأثير على الرأي العام العالمي، وذلك عبر ما سوقه النظام من خلال مؤسسات إعلامية كثيرة دعمته في حربه ضد الثورة، وهذه المؤسسات كانت تذهب نحو المناطق الساكنة لتصور حياةً يوميةً شبه عادية، ولتبرز بالمقارنة معها سوء الوضع في المناطق المحررة، وقد سعى النظام إلى تكريس الوضع السيء في تلك المناطق عبر سياسات الحصار أولاً وعبر التدمير المباشر، وبما يمنع إيجاد أرضية مستقرة يمكن لمؤسسات المجتمع المدني أن تشتغل فيها على صناعة نموذجها الخاص.
ولنتذكر كيف سعى النظام دائماً إلى تدمير كل المبادرات التي أرادت التخفيف عن سكان المناطق المحررة (تدمير مشفى الأورينت كمثال)، وأيضاً لنتذكر مسعى تنظيم الدولة الإسلامية (داعش) لفعل الأمر ذاته في المناطق التي استولى عليها بدوه. لقد تكرس كل الجهد لدى كل من الجهتين على مسار واحد هو احباط إمكانية أن تقوم المناطق المحررة بفعالياتها المدنية أو العسكرية على تنظيم أمورها، واعطاب إمكانية أن تؤسس هذه المناطق هيئاتها البديلة التي تستطيع أن تسير الحياة اليومية للسوريين.
ولكن وقبل أن يتم تعليق الفشل على شماعتي النظام وتنظيم الدولة، يجدر بنا أن نتساءل هل توفرت لدى القوى المسلحة متعددة التسميات والمشارب النوايا الحقيقية للدخول في معركة صناعة النموذج؟ هل كان قادة الجيوش والجبهات والكتائب والألوية مدركين لما تنطوي عليه هذه القضية من أخطار، تؤدي فيما لو لم يتجاوزها إلى وصمهم برعاة للفوضى، وتمنع عنهم اعتراف العالم بقدرتهم على إدارة الحاضر والمستقبل؟ القراءة السريعة لتفاصيل الواقع في الكثير من المناطق تضعنا أمام مشهد سلبي بشكل عام، ولكنها لا تقول بأن غالبية هؤلاء كانوا غائبين عن ضرورات تكريس النموذج الآخر، الذي يتيح للمجتمع المدني ممارسة فعالياته التي تبدأ بتأمين الإغاثة والطبابة وصولاً إلى ممارسة الفعاليات السياسية والثقافية..، غير أن التفكير والإعلان عن الرغبات، غالباً ما كان يصطدم بوقائع حياتي يومية تشكل فيها الفوضى المعوق الأكبر، بالإضافة إلى عدم وجود مركزية في القرار مما جعل مصير الحراك المدني عرضة لتقلبات أمزجة ومصالح القوى المناطقية المتحكمة بالأرض.
مراجعة ما تشتمل عليه الأجندات العملياتية للمؤسسات المانحة للسوريين، تقدم لنا خططاً طموحةً على كافة المستويات، وهي لا تقتصر على الشق الإغاثي، أو الإعلامي، الذين تكرسا ظاهرياً على أنهما الأكثر استهلاكاً للطاقات والدعم، بل إنها تذهب نحو تفاصيل متعددة تلامس حياة السوريين في الكثير من النواحي، ولكن غياب الاستقرار على الأرض جعل من امكانية تنفيذ المشاريع أمراً صعباً في بعض الأمكنة، ومستحيلاً في الأمكنة الأخرى.
وهنا يتحدث الكثيرون ممن عملوا في بعض المشاريع المتوقفة عن إمكانية متابعة العمل فيها، في حال تم تجاوز عقدة توفير الأمن على الأرض لحماية المؤسسات البديلة وحماية العاملين فيها. وهنا يرى البعض أن على الحكومة المؤقتة أن تقوم بتكريس فعاليات وجهود كبيرة من أجل أن تجد حلاً للوضع القائم، وذلك في سبيل طمأنة الداعمين من جهة وطمأنة السوريين الذين يريدون أن يكرسوا جهودهم في العمل على أرضهم، وقد تكون صيغة (المجالس المحلية) واحدةً من أفضل الصيغ المتاحة لجعل الفعل ميسراً على الأرض، غير أن ربط بنية وطبيعة تشكل هذه المجالس بالوضع السياسي لهيئات المعارضة ذاتها، لن يجعلها قادرة على العمل دون أن تصاب بأمراض المعارضة، التي يحاول الفاعلون فيها الهيمنة سياسياً على مقدرات الفعل على الأرض. ولهذا ربما يكون من الواجب القول بأن عملية الإصلاح تبقى مرتبطة بعملية لا تقل أهمية هي إصلاح بنى المعارضة السورية ذاتها.
التعليقات (3)