المدخل لمشكلة المكونات السورية

المدخل لمشكلة المكونات السورية
قبل بداية الثورة السورية، وعلى امتداد أكثر من أربعة عقود مديدة، ما كان من الممكن الحديث عن تنوع المجتمع السوري، ولا عن مكوناته الاثنية والدينية والمذهبية والعشائرية، ولا الخوض في نقاش عام، يتناول مسائل المواطنة والدستور والحريات وسواها، لأن السلطة الأسدية كانت تعتبره حديثاً محرماً، ويدخل في عداد خطوطها الحمراء، مع أن المشكلة في سوريا لا تختصر في إشكاليات المكونات الدينية والاثنية، وعلاقاتها البينية، ولا في مشكلة دستورية، على أهميتها، بل في إشكالية نظام سياسي بأكلمه، نهض على حالة من الاستثناء، يدعمها نهج تسلطي، يستند إلى مركبات توظف مختلف الانتماءات ما قبل المدنية، من طائفية واثنية ومناطقية وعشائرية وسواها.

وفي ظل سيادة حالة الاستثناء، التي ضربت حياة قطاعات واسعة من السوريين، ابتعدت الدولة السورية عن صورتها المدنية، حيث لم يعرف السوريون فيها، سوى سطوة قوانين الطوارئ والمحاكم العرفية، وتعطيل العمل بالدستور، والقفز فوق القانون من طرف الأجهزة، وغطرسة المتنفذين والمسؤولين وأولادهم، مع سعي قوى السلطة الدائم إلى الهيمنة على الفضاء العام للمجتمع وحراكه، فانتفى الرأي العام، وغابت أصوات قوى المجتمع الحيّة المتنوعة، مع اختفاء المؤسسات والمنظمات التي يمكنها الدفاع عن الصالح العام، وانتفاء مختلف أشكال الجسور والتوسطات ما بين الدولة وبين المجتمع.

ولعل مشكلة تنوع التكوينات الاثنية والدينية، هي من بين المشكلات التي ينبغي الاعتراف بوجودها، بغية البحث عن مخارج لحلها، ليس من منطلق النظر إليها بوصفها معطيات سياسية أو أنثربولوجية ثابتة، بل بوصفها مشكلة قائمة، متعددة الوجوه، عمل النظام الأسدي في سوريا، طوال عقود عديدة، على استغلالها وتجييرها لأهدافه السياسية، سواء من جهة ضرب هذه المكونات، أم بالاستناد إلى مكوّن بعينه، وجعله رهينة بين يديه، أو من جهة تخويف المكونات من بعضها البعض، وخاصة عند استغلاله المكونات الأقلية لضرب المكون الأكثري وتهميش غالبية ناسه. ونتج عن تلك الممارسات نزع صفة المواطنة عن جملة السوريين وتحويلهم إلى مجرد رعايا، ينتظرون عطاء الحاكم، وتحويلهم – كذلك - إلى أبناء أقليات، وإلى أقلّويين، والنظر إلى سوريا، بوصفها تجمع أقليات تابعة أو خاضعة، وأقليات يجب ترويضها وإخضاعها، بغية إدامة نظام آل الأسد.

وحين بدأت الثورة السورية حراكاً احتجاجياً سلمياً في الخامس عشر من شهر آذار /مارس 2011، لجأ النظام منذ البداية إلى شن حرب شاملة على المحتجين وعلى البيئة الحاضنة لهم، الأمر الذي أعلن عن تغيرات في مسار الثورة، وحاول النظام استغلال خوف الأقليات من التغيير القادم، وتسويق مقولات وادعاءات، تفترض أن وجوده في الحكم ضماناً لوجود الأقليات، خاصة المسيحيين والعلويين وسواهما.

ونشأت أزمة وطنية عامة، عمقتها طريقة تعاطي النظام مع الثورة وناسها. وهي أزمة تضرب جذورها في ممارسات عقود عديدة خلت، أفضت إلى تآكل قيم العيش المشترك والتعاقد الاجتماعي. وكان من إرهاصات هذه الأزمة ازدياد الحديث عن الأقليات في سوريا، وعن مخاوفها من التغيير، ومن حالة الفوضى المحتملة بعد سقوط النظام. وترافق ذلك بالتخوف من حدوث فراغ، وعمليات انتقام ضد الأقليات، وسوى ذلك من التخوفات والتخمينات بشأن التركيبة السورية، والتي أراد بعضهم من ورائها، تصوير النظام الأسدي، وكأنه حامي حمى الأقليات، والمدافع الوحيد عن وجودها.

ويشير واقع الحال، أنه لم تكن في سوريا مشكلة أقليات وأكثرية، لولا تواتر حالات التمييز الطائفي والاثني من قبل السلطة، التي وظفت الطائفية في أبشع صورها، بالتزامن مع تسويق خطاب رسمي، ناكر للطوائف والاثنيات، ومتجاوز لها، وذلك لضمان ولاء الطائفة العلوية، والأقليات الأخرى، على حساب الرابطة الوطنية والسياسية، ومعايير الكفاءة والنزاهة، واستجرار وتشجيع ردّات فعل مختلف الولاءات ما قبل المدنية. مع العلم أن هنالك مراحل من تاريخ سوريا الحديث، لعب خلالها سوريون كثر، من مختلف المكونات القومية والدينية، دورا متكاملاً في بناء دولتهم وتاريخها الحديث.

وقد مارست السلطة الحاكمة في سوريا نهجاً، ينهض على الاستبعاد في شتى درجاته، حيال الأفراد والتكوينات الاجتماعية، ودفعت بهم إلى خارج المنظومة السياسية والاقتصادية والاجتماعية للدولة، مقابل الدفع بتكوينات اجتماعية أخرى إلى مراكز متقدمة من التحكم بمقدرات الدولة والمجتمع. وارتبط كل ذلك بجملة من العوامل المذهبية الدينية والاقتصادية والسياسية والاجتماعية، على خليفة إثارة الصراع بين مختلف مكونات التنوع في سوريا، وخلق علاقات قوة جديدة، أبعدت فيها المكونات المدينية، مقابل استقدام المكونات الريفية، وإعادة توطين أفكار الصراع على مصادر القوة بين الأقلية والمجتمع، ودفع المستبعدين إلى الاحتماء بمختلف التكوينات ما قبل المدنية.

ولا شك في إن أحد أهم التحديات المطروحة على سوريا، هي إدارة التنوع والاختلاف، بما يفضي إلى بناء "دولة وطنية" سورية، قائمة على عقد اجتماعي جديد، ينهض على المواطنة والتعددية والديمقراطية، ويفتح صيرورة لاندماج اجتماعي، ولصيرورة خلق شعب سوري، يحمل هوية وطنية سورية جامعة.

والمدخل الصحيح لمعالجة إشكاليات التنوع والاختلاف هو الاستماع إلى أصوات الناس، ومعرفة همومهم وتخوفاتهم وتطلعاتهم، وجعلهم يعبرون عن دواخلهم، وكيف ينظرون إلى سوريا المستقبل، وذلك من أجل تلمس سلامة المعالجة ودقتها، التي تتوقف على معالجة إشكاليات مختلف التكوينات الاجتماعية، للوصول إلى عقد اجتماعي جديد، ينهض على المواطنة المتساوية، ويستند إلى الخصوصية السورية في غلبة مسار التعايش الوطني، ومواجهة نزعات التفرقة والتمييز، وبالتالي من المهم الاستناد إليها وتقويتها في مواجهة البنى العصبوية التقليدية، وعدم إتاحة إمكانية تبلورها في مشروع سياسي خاص.

التعليقات (2)

    abo abdo

    ·منذ 9 سنوات 4 أشهر
    المدخل لمشكلة افكاركم العنصرية و التربية البعثية هي ان تتركوا التدخل في كيفية الحكم في البلد لانك لا تستحقون الحكم والسيطرة لانكم نفس نظام البعث اما عروبيين او اسلاميين او او و في كل الاحوال انتم في قمة العنصرية. بعدين كل واحد بدو يجي يسوي على كيفو حكم و كأنه مخول بالتحكم بشعوب سوريا! يجب تسنين قانون دستورية عصري لا مكان للدين او للقومية فيه وتكون فيها قيمة الانسان فوق كل شيء و خاصة النساء والاطفال. غير هيك كلكم كذابين.

    ابوعبدالله

    ·منذ 9 سنوات 4 أشهر
    رد على aboabdo كيف لا مكان للدين فيه، انت مفكر لشو قامت الناس، بدك يرجع واحد نصيري يحكمنا مية سنة كمان باسم اللادينية،... لن تقوم لنا قائمة إلا بالإسلام، ومادمنا بعيدين عن الاسلام ستبقى الدول الأخرى تستعبدنا و تهيننا شعبا و أفراد و حكومات، اليوم حتى الدول الأفريقية لا تستقبل السوري
2

الأكثر قراءة

💡 أهم المواضيع

✨ أهم التصنيفات