رأس الكنيسة الكاثوليكية في العالم قال : "لقد بكيت عندما رأيت في وسائل الإعلام خبر صلب المسيحيين في بلد غير مسيحي، لا يزال هناك في يومنا هذا أناس تقتل وتضطهد باسم الله، ونرى العديد كالرسل يسرّون لأنهم وُجدوا أهلاً لأن يُهانوا من أجل اسم يسوع" .
ما يدل أن البابا قصد سورية هو أن الحديث عن الصلب ورد مرتين قبل هذا الخطاب البكائي وفي كلتا المرتين كان الأمر يتعلق بسورية. الأولى حين قتلت داعش رجالاً في مدينة الرقة السورية قبل أيام ووضعت اثنين منهم على الصليب بعد قتلهم . أما المرة الثانية التي ذكر فيها الصلب مؤخراً فكانت حين صرحت راهبة سورية تدعى راغدة لاذاعة الفاتيكان بأن "المسيحيين السوريين إذا رفضوا أن يسلموا أو يدفعوا الجزية فإنهم يصلبون ثم تقطع رؤوسهم ويلعب بها المسلمون كرة القدم، فيما يصلب المواليد المسيحيون على الأشجار بتعليقهم من الحبل السري" .
وسواء كان البابا يقصد حادثة داعش في الرقة أو كلام الراهبة راغدة فهو سقط في فخ كبير، لأنه ثبت بأن من قتلوا في الرقة ووضع اثنان منهم على صليب، ليسوا من المسيحيين، وإنما من المقاتلين المسلمين من أبناء الرقة . أما إذا كان البابا يقصد كلام الراهبة راغدة فالسقطة أعظم .
الراهبة التي لم يكشف عن كنيتها، قدمت على أنها كانت مديرة لمدرسة تابعة لبطريركية الروم الكاثوليك في دمشق، وعلمت أورينت أنها كانت مديرة لدار رعاية تابعة للبطريركية في المليحة بريف دمشق وفصلت من عملها لأسباب مجهولة، وانتقلت للعيش في فرنسا عام ٢٠٠٩ ، هذه الراهبة لم تكتف بالحديث عن الصلب وتحديد مكانين على سبيل المثال لا الحصر لعمليات الصلب هما معلولا وعدرا، وإنما أدانت الثورة السورية بقولها أنها "تسببت بهرب ثلثي المسيحيين السوريين من سورية فيما الثلث الباقي ينتظر الفيزا ليهاجر" ومجدت الراهبة راغدة عصر حافظ وبشار الأسد بقولها أنه في ذلك العصر الذي سبق الثورة "كانت سورية المكان الوحيد في الشرق الذي يعيش فيه المسيحيون بأمان" .
والحقيقة أنه لم يصلب مسيحي واحد في سورية، ويشهد بذلك راهبات معلولا نفسها وأعداد كبيرة من المسيحيين السوريين، ويؤكده عدم وجود صورة واحدة أو شهادات موثقة على حالة واحدة من صلب المسيحيين. أما هجرة ثلثي المسيحيين بسبب الثورة فهي كذبة أخرى حيث تؤكد الأرقام والإحصاءات أن أكبر هجرة للمسيحيين من سورية كانت في عصر حافظ وبشار الأسد، وأما بشأن استهداف المسيحيين دون غيرهم أوأكثر من غيرهم فتقول الإحصاءات أن عدد المسيحيين بين شهداء الثورة لايزيد عن واحد بالالف. أي أن نسبة الشهداء بين المسيحيين تقل بما يقرب من مئة مرة عن نسبتهم بين المسلمين .
وتدل العبارة التي تلفظت بها راغدة حين قالت بأن "سورية كانت البلد الوحيد الذي يعيش فيه المسيحيون بأمان في الشرق" على لا محدودية تعسف وتجني هذه الراهبة، فمسيحيو أكثر من دولة مشرقية لم يتعرضوا لأي شكل من المضايقات في نصف القرن الماضي، من بينهم على سبيل المثال مسيحيو الأردن .
وقد يكون ساهم في خداع قداسة البابا نقل وكالة أنباء عالمية كبرى هي وكالة الصحافة الفرنسية لكلام الراهبة راغدة بطريقة توحي أنه حق وصدق ولا شك فيه. ووصلت الأمور بالوكالة إلى حد إضافة جملة لا تقل تعسفاً وتجنياً عن كلام الراهبة، قالت الوكالة : "وفي وقت ترتكب كل الاطراف المجازر في سورية فإن المسيحيين السوريين يفضلون نظام بشار الأسد العلماني" . والحقيقة أن هذه العبارة تتستر على المجرم في سورية، وتقدمة خدمة جليلة للنظام السوري . فبحسب إحصاء ضحايا السنوات الثلاث الأولى للثورة الذي قامت به الشبكة السورية لحقوق الإنسان، فإنه "قتل في سورية ١٠٦ آلاف مدني ، قتل النظام أكثر من ١٠٥ آلاف منهم، بينما قتلت جميع الأطراف الأخرى، بما فيها جماعات يشتبه بعلاقتها مع النظام، أقل من ألف مدني . هذه الاحصائية تظهر إلى أي درجة كانت وكالة الانباء الفرنسية مضللة، ومزورة للحقيقة .
أورينت توجهت إلى المقر الرئيسي لوكالة الصحافة الفرنسية في باريس للاستفسار عن هذا الانحياز الأعمى والترويج لكذب صريح. لكن مسؤولي الوكالة رفضوا اجراء مقابلة حول الموضوع واكتفوا عبر الهاتف باعتراف ضمني بارتكاب هفوة غير مقصودة .
وبتبنيه من قبل وكالة أنباء عالمية رئيسية إنتشر خبر صلب المسيحيين السوريين مع العبارة التي أضافتها وكالة الصحافة الفرنسية، لتنقله عشرات بل مئات وسائل الاعلام حول العالم، دون أن يعترض عليه أحد، أو يكذبه أحد، سوى مجموعة صغيرة من المسيحيين السوريين تدعى "سوريون مسيحيون من أجل السلام" ، لكن صوتها الخافت لم يصل إلى أسماع قداسة البابا وهو يبكي على صلب المسيحيين في سورية .
كما لم يوضح أحد لقداسة البابا على مايبدو أن عبارة "بلد غير مسيحي" لا تليق تماماً بسورية، وهي بلد يشكل المسيحيون جزءاً هاماً من نسيجها الاجتماعي، وهي مهد المسيحية التي فيها بنيت أول كنيسة في العالم، ومنها جاء الرسول بطرس والعديد من باباوات روما .. أسلاف البابا فرانسيس الذين جلسوا لعشرات السنين على الكرسي الذي يجلس عليه هو الآن .
التعليقات (15)