صقر أبو فخر يتجنّى ويزوّر: هل أعاق أعيان الشام العلمانية؟

صقر أبو فخر يتجنّى ويزوّر: هل أعاق أعيان الشام العلمانية؟
كتاب "أعيان الشام وإعاقة العلمانية في سورية" لصقر أبو فخر، واحدٌ من الكتب الصادرة حديثاً، التي تحاول مقاربة الوضع السوري الراهن، مع تاريخ البلد الذي يعيش الآن واحدة من أهم منعرجات وجوده، وفي صفحات الكتاب الأولى، ينطلق الباحث من فرضية يحاول اثباتها، تقول: "أنّ أعيان مدينة دمشق، لأسباب تاريخيّة متراكمة، حالوا دون أن تتطوّر سورية 1946 إلى دولة ديمقراطيّة حديثة، وأنّ عدم تطوّرها على هذا النّحو، لم يكن خيارًا خالصًا للحكّام الذين تعاقبوا على السلطة السياسيّة" ص25.

ويوضح أبو فخر المقومات التي يبني عليها فرضيته بالحديث عن أسبابٍ "تاريخيّة واجتماعيّة واقتصاديّة ودينيّة كانت تعيق مثل هذا التحوّل"، فيعدد بعضها مثل "ضعف البنية التجاريّة للمدينة في عصر اندماج السوق السوريّة في السوق العالميّة في القرن التاسع عشر، وغلبة ملّاك الأرض على الحياة الاقتصاديّة للمدينة، ودور رجال الدّين (وبينهم كثير من ملاك الأرض والتجّار) في السعي الدائم لتلطيف الصراعات الاجتماعيّة كونهم وسطاء اجتماعيّين بين الفلّاحين والملاّك الذين كانوا مرتبطين -إلى حدٍّ بعيد- بعلاقات أبويّة متوارثة، والطابع المحافظ للصناعيّين والحرفيّين ورجال الأعمال. وهذه العناصر كلّها تشابكت معًا لتصبح سببًا رئيسًا، من بين أسبابٍ أُخرى، في عدم تبلور فئة اجتماعيّة (أو طبقة اجتماعيّة) تتبنّى -عضويًّا- مفاهيم الحرّية والتعدديّة، وتحمل مشروعًا سياسيًّا جدّيًّا لبناء نظام سياسيّ ديمقراطي معاصر." ص25.

إن أهمية الفرضية التي يقدمها الباحث هنا إنما تمكن في أنها تعيد رسم الخارطة الفكرية في سوريا، ضمن مرحلة محددة هي مرحلة نهاية القرن التاسع عشر وحتى نهاية القرن العشرين، أي مرحلة نشوء الدولة الوطنية بشكل أساسي، وهو يحاول تكريس كل الجهد الذي يبذله على تنقية الأسباب التي أدت إلى الواقع السوري الحالي، وإظهار أن الحدث الراهن إنما قد خلق جنينياً في الماضي.

والحقيقة أن هذه الفرضية تحتاج إلى بحث في التاريخ الاجتماعي والسياسي والاقتصادي، وإلى قراءة أدوار الأفراد في صناعة هذا التاريخ، وليس التعاطي مع الشرائح الاجتماعية بوصفها كتل صماء ذات فعاليات متراصة، وبما يسمح بإدانتها ككل متماسك كان له هدف واحد هو إعاقة العلمانية..! وهنا نعود بوصفنا قراء للتاريخ إلى بعض تفاصيله، ففي كتاب آخر حاول قراءة دور الأعيان في تاريخ سوريا، هو كتاب "أعيان المدن والقومية العربية" لفيليب خوري، ثمة حديث عن وجهاء علمانيين، كان في مقدمتهم آل العظم، وحديث عن عدة عائلات، خاضت الصراع مع شريحة الأعيان الدينيين طيلة فترة طويلة، وأن العامل الحاسم في تثبيت المنتصر ضمن هذا الصراع إنما كان يعود إلى تأثير مركز السلطة بوصفه صاحب القرار، مما يجعلنا حتماً في مواجهة فكرة تبنى على سؤال أخر هو لماذا نجحت العلمانية نسبياً في تركيا، بينما فشلت هنا في سوريا وبلاد الشام..؟ ولإيضاح ضرورة أن يتم قراءة دور الأفراد بشكل بعيد عن تشميل الجميع بلباس واحد، ربما يجب علينا أن نتذكر الأدوار التي قام بها مجموعة من الأفراد الذين كانوا علمانيين في مرحلة من مراحل تطور سوريا، رغم انتسابهم لعائلات الأعيان كأكرم الحوراني وخالد العظم وغيرهما.

البناء على الفرضية البراقة، يوفر على الباحث هنا التمحيص في دور القوى الخارجية، وقبل ذلك يوفر عليه تشريح الفكر العلماني الذي حملته النخب السورية ومدى قدرته على مواجهة الوعي الديني في سوريا كما في المنطقة كلها، وهذا ما لم يتطرق له أبو فخر في دراسته، خالطاً بين أوراق الماضي والحاضر، وهو يحاول إلقاء تبعات الحراك السوري الراهن على تصادم الوعي الديني مع العلمانية، وفق ثنائية كلاسيكية، ورغم أنه يوجه أصابع الاتهام بخفر إلى النظام البعثي في الكثير من أسباب الخراب، إلا أنه يحيل الثورة كلها إلى حراك "سني" وجد الوقت مناسباً للقيام بالثأر التاريخي، من القوى التي نازعت واجهته السابقة (الأعيان والبرجوازية التقليدية) مصالحها وخلصتها إياها..!

تكرار أبو فخر ومنذ البداية لفكرة أن الرائحة الطائفية تنبعث من "الأحداث" في سوريا، تنطلق من قراءة متسرعة غير مستندة لوقائع واضحة، ولعله يذكرنا بكلام بثينة شعبان التي بشرتنا برائحة الطائفية بعد نهاية الأسبوعين الأولين للثورة..!

لا تتطابق طروحات أبو فخر مع طروحات مؤيدي النظام من الكتاب والمثقفين، ولكنها لا تنجو من الوقوع في مستنقع الغوغائية في إطلاق الأحكام، فرجالات المعارضة (وقد ذكر أسماء العديد منهم ص 80-81) ليسوا سوى عملاء للغرب و للمخابرات الدولية، وهؤلاء برأيه لن يستطيعوا انجاز المشروع الديموقراطي في سوريا..!

أصل الخلل في ما يذهب إليه صقر أبو فخر، إنما يكمن في اعتماده لآليات تحليل غير واضحة المنهج، فهو لم يقدم للقارئ وقائع دقيقة توضح طبيعة الحدث السوري، وطبيعة التحولات التي مضى فيها، بالإضافة لغياب قراءة المؤثرات الداخلية والخارجية في مساره، وربما لو أن الباحث فصَلَ بين الفرضية التي يحاول إثباتها وبين الحدث الراهن، لكان قد جنب القارئ هذه النقلات غير المتوازنة بين حدث الماضي (وقائع العداوة التاريخية بين التيارات الفكرية التقليدية وبين أفكار الحداثة التي تقع العلمانية في مقدمتها).

وبين حدث الحاضر الذي تختلط فيه الأوراق بحسب تحولات الثورة من العتبة السلمية المدنية إلى العتبة المسلحة. فالثورة - وهي الكلمة التي يتجنب أبو فخر استخدامها في توصيف الحدث السوري- ليست ثورة إسلامية سنية، بل هي ثورة كل السوريين، ولعل شعارات الثورة في سنتها الأولى تفصح عن هذا الأمر، وهي لم ترتبط بوقائع الماضي البعيد أو القريب، إلا بمقدار ما كان هذا الماضي متصلاً بالقمع المستمر منذ أكثر من نصف قرن، لكل قوى الشعب السوري السياسية والاقتصادية والمجتمعية بشكل عام.

الكتاب الذي احتوى الدراسة الأساسية المنشورة سابقاً على صفحة موقع (المركز العربيّ للأبحاث ودراسة السّياسات)، في الدوحة، منذ منتصف شهر آب العام 2012، أضاف الكاتب إليه عدداً من المقالات الأخرى التي ظهرت بعيدةً عن محاولته إثبات فرضيته الأولى، مما جعله أشبه بتجميع مقالات وخاصة في الجزء الثاني منه، مما يجعلنا نسأل عن مدى الجدية في فرد كل هذه الصفحات تحت عنوان لا يلمها كلها في بوتقته..! كما أن غياب الإشارات المرجعية في أغلب متن البحث، لم يكن في صالح إثبات الفرضية منهجياً، فالكثير من الأفكار التي أورها أبو فخر يجب أن تبحث في سياقها، وليس عبر اقتطاعها، وإعادة تدويرها في متنٍ مختلف، وحتى تلك المعلومات التاريخية الواردة في البحث كان يجب أن يتم تأصيلها مرجعياً بدلاً من إعادة كتابتها دون إحالتها إلى مصدرها، كما في الصفحة 35 حيث يورد الباحث معلومات عن طبيعة عمل (آغوات) الميدان في مدينة دمشق، وهي معلومات مأخوذة بالكامل من كتاب فيليب خوري، الذي أحالها إلى مراجعها، بشكل طبيعي، كما في كل الدراسات العلمية والمنهجية.

فرضية أبو فخر عن إعاقة "الأعيان" للعلمانية ورغم أهمية طرحها في هذا الوقت أو في غيره، تحتاج إلى مطالعات مرجعية ودراسة معمقة، كي يتم إثباتها، ورغم أننا نوافق الكاتب في الكثير مما ذهب إليه من أمنيات لمستقبل سوريا، إلا أننا نجد أنفسنا منحازين للبحث المنهجي المتعمق الذي غاب عن الكثير من مفاصل الدراسة الأساسية في الكتاب.

- أعيان الشام وإعاقة العلمانية في سورية.

- صقر أبو فخر

- المؤسسة العربية للدراسات والنشر.

- بيروت، 2013، 175صفحة، قطع متوسط.

التعليقات (5)

    معا ضد العلمانية

    ·منذ 10 سنوات 6 أشهر
    العلمانية هي الوجه القبيح للملاحدة المنكرين لحق الله في حكم العباد في الصغير من أمورهم قبل كبيرها. وعبثا يحاولون الباسها لباس الحداثة الذي لا يناسبها قط . بل الحداثة هي ان يستسلم الكل لخالقهم في كل ما يأمر وينهى . السلفيون شعارهم دائما حداثي وفي قمة التطور قال الله قال الرسول قال الصحابة . أما شعار العلمانيين قال فلان قال علان . العلمانيون سبب مصائب الأمة ونكباتها. يقولون دعوا ما لله لله وما لقيصر لقيصر. وهل قيصر ومالقيصر الا ملك لله يحكم فيه بما يشاء.

    علمانيه الدوله

    ·منذ 10 سنوات 6 أشهر
    هل من الممكن بناء دوله اي دوله دونان يكون العلمانيه منهجا لها ابعدوا الدين عن المصالح فالدين خالصا لله فقط و من يحاول خلط الامور و تطبيق الدين في منهجيه الدوله فيكون عمل غلطه كبيرة و هاهي الممالك الاسلاميه خير مثال و تحولت البيعه الى وراثه واصبحت الامور ظاهرها دينيا و باطنها مصلحيا فهاهم الخوارج و الشيعه و الاموبون خير مثال

    محمد زياد

    ·منذ 10 سنوات 6 أشهر
    عش رجبآ ترى عجبآ كما قال العرب الأولون ، أبعد هذا الخراب والدمار والإجرام على أيد الشعوبيين الجدد يريدون أن يتكلموا عن أعيان الشام ، ومازال هؤلاء لا يستطيعون أن يفهموا أسباب الثورة ، إن من يقرأ التاريخ بدون أحكام مسبقة يعلم أن أعيان بلاد الشام كانوا من أفضل من حكم سوريا ونعيب عليهم تساهلهم وحسن ظنهم بأحزاب الفئوية والطائفية والإقصاء ، الذين حكموا الشام فيما بعد وألنتيجة مانراه الآن .

    ياسر

    ·منذ 10 سنوات 6 أشهر
    كيف يفسر الكاتب اذا عدم وصول العلمانية الى بقية الدول العربية؟

    إيمان الحسين

    ·منذ 10 سنوات 6 أشهر
    حمى الله أهل الشام وأقر عينهم بنصر وتحرير بلاد الشام جمعاء..
5

الأكثر قراءة

💡 أهم المواضيع

✨ أهم التصنيفات