إعادة توزيع أوراق اللعب الإقليمي على طاولة غزة

إعادة توزيع أوراق اللعب الإقليمي على طاولة غزة

لم تأت عملية غزة الأخيرة رداً على حصار وظلم وانتهاك إسرائيلي صارخ لحقوق الفلسطينيين في بناء دولتهم الوطنية ضمن رؤية "حل الدولتين" التي توافق عليها الفلسطينيون والإسرائيليون في أوسلو، والتي قامت إسرائيل بكل ما يمكنها فعله في سبيل التملص من هذا الحل سواء باستمرار سياسة الاستيطان وتقطيع أوصال الضفة الغربية أو باستمرار حصار غزة واستهدافها شبه الدائم وحرمانها من حق إنشاء ميناء ومطار يصلها بالعالم خارج نطاق الحصار الخانق والمهدد للحياة المفروض عليها. 

هذه العملية المفاجئة حد الصدمة جاءت لإعادة خلط الأوراق الإقليمية التي نحت منحى التطبيع العربي الكامل مع إسرائيل دون أن تكون حقوق الشعب الفلسطيني في إحدى كفتي ميزان السلام والتطبيع للمرة الأولى في تاريخ هذا الصراع.

وبالتالي لم تكن تلك العملية لمحض دوافع وطنية فلسطينية نؤمن جميعا بأحقيتها، بل جاءت ضمن سياق صراع إقليمي إسرائيلي – إيراني محموم على الأدوار ونطاق السيطرة وملء هذا الفراغ الهائل في المنطقة العربية مع غياب أي مشروع عربي يحفظ المصالح والحد الأدنى من الأمن القومي العربي المستباح وضعف وانهيار النظم التي كان من الممكن أن تشكل حوامل لهذا المشروع. 

صحيح أن إيران سيطرت على أربع عواصم عربية حتى الآن ضمن سياق توسيع مجالها الحيوي، لكنها تدرك أنها لم تتمكن من بسط سيطرتها على المجتمعات في تلك الدول، وماتزال في تلك المجتمعات قوى قادرة على رفض تلك السيطرة والعمل على تفكيك هياكلها المقتصرة على البنى السلطوية فيها، وما يزال مشروعها المغرق في تطرفه وتخلفه ودمويته خارج سياق المقبول لدى شعوب الإقليم فضلاً عن كونه خارج نطاق إمكانية التعايش والتساكن معه، وهذا ما يضعف إمكانية نجاحه الحاسم والنهائي ليس فقط لكونه يهدد سلامة المجتمعات في دول الإقليم فحسب وإنما أيضاً لكونه يمثل تهديداً وجودياً لنظم الإقليم ذاتها ولجغرافية دولها. 

وعلى الوجه الآخر ثمة مشروع صهيوني أكثر حذاقة تشتغل عليه إسرائيل وقطعت فيه شوطاً كبيراً لملء فراغ المنطقة بالسلام الاستراتيجي – من وجهة نظرها – الذي يمكّنها من فرض قوتها وسيطرتها الناعمة على الإقليم ودوله دون أن تسدّد أيّاً من الفواتير المستحقة الأداء للشعب الفلسطيني ثمناً لهذا السلام الاستراتيجي مع العرب، وقد خطت خطوات مهمة في هذا السياق مع البحرين والإمارات والمغرب وحتى السعودية التي كانت على بعد خطوة واحدة فقط من إبرام اتفاقيات التطبيع وتبادل السفراء!

لذلك تأتي هذه العملية في سياق المناكفة والصراع بين المشروعين الصهيوني والفارسي على تقاسم الحصص ومناطق النفوذ والاستحواذ على الكلمة العليا في هذا الفراغ الاستراتيجي - كانت فيها "حماس "مجرد أداة من أدوات هذا الصراع كمثيلاتها في لبنان والعراق واليمن – وليست عملية ضمن سياق الصراع لأجل حقوق الشعب الفلسطيني التي استمرأ الغرب قبل إسرائيل تجاهلها طوال عقود. 

في ضوء ذلك التصور لا يمكن الجزم أن تلك الحرب ستكون محدودة زمانيا لأنها لا تتعلق بعملية عسكرية محدودة كرد حازم على مثل هذا الاختراق الخطير لمبدأ سلامة الدولة الصهيونية وأمنها وديمومتها، كما لا يمكن الجزم أيضا أنها ستكون عملية محدودة مكانياً تقتصر مفاعيلها وآثارها على غزة وأهلها بل ربما تكون أوسع وأشمل لتطال مختلف البنى العسكرية الميليشيوية الملحقة بإيران وأجنداتها في المنطقة سواء في لبنان (حزب الله) وفي سوريا (حزب الله وملحقاته من الميليشيات الشيعية الأخرى) بل ربما تطال مراكز القوة والسيطرة لنظام "أسد" نفسه باعتباره مسؤولا عن دعم واحتواء تلك الميليشيات ، ولن تعفيه حالة الوهن واستلاب القرار من المسؤولية في هذا السياق.. وربما تتوسع رقعة الصراع أكثر إن اتخذت إيران القرار الخاطئ وانخرطت بالمواجهة المباشرة – وأجزم أنها لن تفعل – فحينها ستفقد أهم عناصر قوتها التفاوضية وهي مراكز التخصيب النووي ومراكز الصناعات الصاروخية وربما سيؤدي ذلك لتصدع النظام الإيراني بالنظر لأوضاعه الاقتصادية المأزومة.  

صحيح أن الولايات المتحدة الأمريكية لا ترغب في مثل هذا السيناريو المرعب، وتحاول جاهدة وبشتى الطرق إبراء ذمة طهران من عملية (طوفان الأقصى) لكنها ستكون مضطرة للانخراط فيه إذا ما اتخذت طهران القرار الخاطئ. 

صراع المشاريع هذا ورغم أنه يتم تنفيذه على أراض عربية، وتسفح فيه دماء عربية، لكن الغائب الوحيد عنه هم العرب (!) لأنهم أصلاً بلا مشروع، ولأنهم أصلاً صانعو هذا الفراغ الاستراتيجي في منطقة لا تقبل الفراغ أبداً، ولا يمكن أن تعيش فيه بعد أن أصرّ حكامها على إبقاء شعوبهم ودولهم على رصيف الحياة والتاريخ مجرد متفرجين لما يجري حولهم ومصفقين لأولئك الذين يسجلون الأهداف (!!!). 

لقد أرعب المشروع الفارسي وهلاله الشيعي التدميري هؤلاء الحكام، وبدلاً من التنادي لصياغة مشروع يحصن الأمن القومي العربي، تنادوا زرافات ووحداناً للالتحاق بالمشروع الصهيوني كدجاجة تلوذ بالثعلب التماساً للأمان من فكّي الذئب (!).

وفي الوقت الذي يتعيّن فيه علينا جميعا، فلسطينيين وعرباً العمل على تحصين حقوق الشعب الفلسطيني ودعمها ورفض المساومة عليها أو المتاجرة بها لكونها حقوقا وطنية مشروعة، تأتي عملية "طوفان الأقصى" مع الأسف لتحول غزة وشعبها إلى ساحة نزال ومكاسرة بين مشروعين وإرادتين، ومن يمتلك منهما أوراق اللعب القوية والفاعلة في هذا النزال سيحقق فوزه الاستراتيجي، بينما تسحق المدن والحواضر العربية وتهرق دماء شعوبها بلا طائل طالما أنهم أدخلوا أنفسهم في الغيبوبة التاريخية فيما بقيت ألسنتهم تتلمظ أفواههم وهم غارقون في أحلامهم الجنسية!.  
     

التعليقات (2)

    هناك دول تدعم

    ·منذ 6 أشهر أسبوع
    الشعب الفلسطيني بالمال والسلاح

    ساخط سوري

    ·منذ 6 أشهر أسبوع
    لك رووح ابللع إيران سننتصر
2

الأكثر قراءة

💡 أهم المواضيع

✨ أهم التصنيفات