رواية "البنات" نظرة استشرافية لمستقبل سوريا

رواية "البنات" نظرة استشرافية لمستقبل سوريا

بحكم أن القضية السورية لا تزال عصيّة على التنبؤ بمجرياتها أو نهايتها لأسباب عدة لسنا بوارد ذكرها الآن، وبحكم أن معظم الأقلام الأدبية السورية تُجاري الواقع والتاريخ القريب للحرب فقط؛ وإن تنبأت بالمستقبل، فهي تقدّمه بصورة خجولة غير قابلة للنقد والتعمّق. إذ لم يجرؤ إلا قلة قليلة من الأدباء السوريين على طرح مادة أدبية تحمل نظرة استشرافية صريحة للسنوات التالية، نظرة تأخذ الواقعية أساساً للتحليل، وتتقدم لتنال ما تناله من نقد وتصويب ومساندة.

ومن المؤكد أن الوقت قد حان للخروج قليلاً عن الحاضر لتقديم هكذا أعمال. ومن هنا صدرت مؤخراً رواية "البنات" للكاتب والروائي السوري "محمد جلال" حيث يقدم صورة عن المجتمع السوري التُقطت في سنوات قادمة. وفي حين أن الصورة قائمة على رأي شخصي للكاتب في أن الوضع الحالي سيستمر كما هو وباختلافات طفيفة، إلا أن هذه الرؤية مبنيّة على تحليل للواقع، وقابلة للخطأ والصواب والنقد المختلف.

تبدأ أحداث الرواية في عام 2030 على لسان بطلها (حسن الخياط) خريج الأدب الإنكليزي، والمسجون في سجن حلب المركزي. ومن خلال هذه البداية وما بعدها أيضاً نلاحظ السوداوية والتشاؤم المسيطر على جو الرواية بشكل عام وأغلب الظن أنها متماثلة مع رؤية الكاتب التي تحدثنا عنها سالفاً. ولتأكيد إحكام البناء السردي للنص يعود الكاتب إلى الحاضر والماضي باستعادات تشرح خلفيات كل شخصية وحدث على حدة، ليجمع أخيراً هذه الخيوط التي تشير إلى اللا جدوى من كل ما حصل، هذه اللا جدوى التي تملكت الكاتب من خلال معايشاته وامتزاجه مع الآني من الأحداث، فهو ابن المناطق المحررة مكاناً وزماناً، والذي خَبِر الأحداث منذ قيام الثورة إلى الآن.

كما تتميز الرواية بالتحيز الإنساني، حيث تخلى الكاتب عن الإيديولوجيات والتصق بهموم ومشاعر المواطن السوري، على الرغم من وضوح رؤى كل شخصية بلا استثناء، فكأن الكاتب نقل مشاهدات حياتية من دون التدخل في سَيْر حياة هذه الشخصيات، وهذا ما يؤكد لنا نظرية خلق الشخوص وعدم تمكن صانعها من التدخل في مجريات حياتها، حيث تكتب كل شخصية نفسها بنفسها.

ومع كل ذلك يعرّج الكاتب على حياة شخوصه، فيسرد حب بطل روايته لفتاة في الجامعة تدعى (هند)، لكنه أنهى علاقته بها لأنه متمسك بالعادات والتقاليد والدين، ولأنه لن يخرج عن طوع أهله، وهند ليست زوجة على المقاس، لكنه بقي متعلقاً بحبها على الرغم من ذلك، ثم يكمل سارداً الأحداث، بأن يتزوج حسن زواجاً تقليدياً مثالياً، ويعمل كمدرّس للغة الإنكليزية في مدرسة ابتدائية.

وعندما تندلع الثورة، تشارك فيها زوجته (أسماء)، ولكنه لا يجرؤ على المشاركة بسبب الخوف من الاعتقالات وحفاظاً على وظيفته الحكومية ومورد رزقه. من ثم يُرزقان بطفلة... وعندما تنتقل المعارك إلى أحياء حلب، يضطر حسن إلى مغادرة منزله مكرهاً، ففي ذلك الحين تصله ورقة استدعاء للخدمة الاحتياطية في جيش الأسد، وهنا يتطرق الكاتب إلى وصف الفظائع التي قامت بها ميليشيات نظام أسد تحت ذريعة ملاحقة الفئات المسلحة؛ فقامت بلا وازع من ضمير بقصف الأحياء السكنية، حتى حدائقها تحولت إلى جبهات، ومدارسها إلى ثكنات عسكرية، فملأ الدخان والبارود رئات سكان المدينة، وتراكمت البشاعة في الشوارع، وصمّ الآذان صوت قذائف المدفعية، واختفت الفسحة التي رسمتها أيام الحراك الأولى، فقد أزالت السلطة مساحيق التجميل عن وجهها، ما دفع الأهالي إلى الانتقال من حيّ إلى حيّ، بحثاً عن أمان أكبر، كما إنهم لجؤوا إلى قرى نائية في الريف، أو قبو من دون نوافذ، ورغم ذلك لم يفارقهم الرعب والشك من أن جدران البيوت ستحميهم من القصف العشوائي والمستمر.

ولم ينسَ "جلال" ذكر مذبحة الكيماوي التي ارتكبها النظام عام 2013 في غوطة دمشق، حيث قتل المئات في لحظة واحدة بغاز السارين، وما خلّفته من حزن حفر عميقاً في القلوب، وذعر كبير من تكرار المجزرة في مدن سوريةٍ أخرى، فما الذي سيمنع مجرماً من معاودة ارتكاب جريمته إن لم يجد من يردعه؟

زمانياً تتذبذب الأحداث بين أزمنة عديدة، أما مكانياً فتراوح الرواية بين مكانين هما البيئة السورية ككل، وأوربا كمساحة لجوء، وهناك يبحر في حياة أخرى بما فيها من صعوبة على التأقلم مع مجتمع منفتح، والصراع للمحافظة على العادات والتقاليد والقيم التي تربى عليها، بالإضافة إلى التمسك بالدين. تجلى ذلك في نوعية الأصدقاء والمحيط، فجاراهما شاب وشابة يعيشان معاً من دون زواج، ثم تتخذ زوجته (أسماء) من امرأة مثلية الجنس صديقة لها، لتفاجئه لاحقاً بقرار خلع الحجاب.

لاحقاً، يُضطر بطل الرواية إلى الهروب من ألمانيا برفقة ابنتيه الصغيرتين (سارة) و(جيهان) وقطة جارتهم الألمانية والتي أطلقوا عليها اسم (سمر) وأصبحت فرداً من العائلة، ويعود إلى سوريا، فتكون رحلة العودة شاقة وطويلة ولا تختلف عن رحلة الخروج في شيء، ثم يستقر في الرقة تحت حكم تنظيم داعش. وبعد مرور فترة من الزمن، يتم اعتقاله بتهمة الانضمام إلى مجموعة معارضة للتنظيم الإرهابي، وينفصل عن ابنتيه، وبعد إطلاق سراحه يحاول إيجادهما من دون جدوى، فيعاني من هواجس وكوابيس، ويحاول عبثاً دفن الذكريات المؤلمة، كما تنتابه مخاوف عديدة تجاه مصيره ومصير أهله ومصير طفلتيه. وهنا يعود محمد جلال إلى العام 2030 من حيث بدأ في سجن حلب المركزي.

بالنسبة للغة فقد ابتعد "جلال" عن التقريرية التي كانت حاضرة بوضوح في أعماله السابقة، والتصق بالفن الذي جاء من خلال متانة الحبكة وجودة الحوارات.

ومن خلال ما سبق يتبين لنا أن الكاتب جمع أكثر من حكاية سورية ودمجها في أحداث متتالية، فقد تنقل من السجن، إلى الثورة، ثم الحرب فاللجوء، إلخ. بالإضافة إلى تقديمه الفلسفة اليومية البسيطة بصورة جميلة. وتوحي لنا خلاصة الرواية أن الحياة لا تمنحنا ما نريد حتى لو سعينا بكل طاقتنا ومهما قدمنا من تضحيات.

من أجواء الرواية:

"لن أقول بأنك مخطئ، لكن لننظر إلى الأمر من زاوية أخرى، نحن لم نبدأه، لقد بدأه النظام منذ اليوم الأول لوصوله، والثورة ضده أمرٌ حتميّ، إن لم تأتِ اليوم فستأتي غداً. عندما بدأت الثورة كان الخيار بأن نشارك، أو لا نشارك، طبعاً اخترنا المشاركة، وما وصلنا إليه اليوم هو بسبب هؤلاء الذين لم ينخرطوا معنا، وتركونا بانتظار أن ننتصر عليه كي يشاركونا المغانم، من دون أن يحملوا معنا المغارم. لكن لو كنا نعرف أنه سيقصف المدن على الهواء مباشرة، من دون أن يتدخل أحد لإيقافه، لاختلف الأمر، اعتبرنا أن ما جرى في ليبيا دليلاً سوف نسير عليه، وبأنهم لن يسمحوا لأي طائرة بالإقلاع للقصف."

عن الكاتب والكتاب:

"محمد جلال": كاتب سوري يكتب باسم مستعار، ويتميز بكتابة المشاهدات في الداخل السوري... وقد صدر له كتاب "هذه ثورتي".

"البنات" رواية صادرة عن دار موزاييك للدراسات والنشر، جاءت في 323 صفحة من القطع المتوسط.

التعليقات (6)

    6

    الأكثر قراءة

    💡 أهم المواضيع

    ✨ أهم التصنيفات