يقول فردريك إنجلز: إن الناس الذين افتخروا يوماً بأنهم صنعوا الثورة، كانوا يقتنعون دوماً في اليوم التالي بأنهم لم يعرفوا ما صنعوه، وأن الثورة التي قامت لا تُشبه أبداً تلك التي أرادوا صنعَها، وهذا ما دعاه هيغل بسخرية التاريخ، وهذا ما يفسر لنا أحد جوانب اهتمام السوريين بثورة السويداء؛ إنها تشبه جداً تلك الثورة التي أرادوا صنعها، ولأنها كذلك لاحظ جميع المراقبين حالة الارتباك والتخبط التي اعترت نظام العصابة في دمشق، والذي أوعز لأبواقه أن املؤوا فراغ الصمت الناتج عنا إلى أن نتمكن من الكلام، ولأن التخبط الذي يصيب الرأس لا بد أن يجد صداه في الأطراف، كان إنتاج كل تلك الأبواق ناتئاً ونشازاً، فلماذا أرعبتهم ثورة السويداء؟
مهما كان الواقع مختلفاً، يسعى البشر دائماً نحو الغطاء الأخلاقي لتبرير أفعالهم، ولعل الجميع يتذكر أن تهمة الإرهاب كانت جاهزة لكي تُلصق بالحراك الثوري منذ انطلاقته الأولى في درعا عام 2011، ويعتقد الكثير من المراقبين الذين لا يؤمنون بنظرية المؤامرة أن نظام أسد استأجر العديد من شركات الدعاية والعلاقات العامة الغربية، ودفع لها الملايين كي تدافع عنه، وتلمّع صورته في الأوساط السياسية والإعلامية الغربية في مقابل تشويه صورة الثورة والثوار ووصمهم بالإرهاب، كما يعتقد هؤلاء أن بعض الجهات ارتكبت أخطاء فظيعة جعلت مهمة وصم الثورة بالإرهاب تبدو غير شاقة أو مضنية.
في لقاء مع موقع "حكاية ما انحكت" قال عالم الآثار والباحث الإيطالي "ألبيرتو سافيولي": "هناك مشكلة أخرى رئيسية تواجهنا كمثقفين وباحثين، وهي تراجع الاهتمام يوماً بعد يوم بالشأن السوري، وقد واجهت شخصياً الكثير من المتاعب بسبب ذلك خصوصاً على وسائل التواصل الاجتماعي حيث تم شتمي في بعض الأحيان واتهامي بأنني صديق للقاعدة، وهذا يحصل مع آخرين أيضاً، ويجب أن أعترف أنه من الصعب على الجميع مواجهة ذلك أو تحمله بشكل مستمر".
إذاً، فثورة السويداء لو استمرت على هذا المنوال المتصاعد زخماً ورُقيّاً؛ تكون قد أعادت الثورة السورية إلى الواجهة من جديد وبوجه حضاري بكل تفاصيله، سواء من حيث سلميتها أو من حيث شعاراتها الوطنية أو من حيث شخوصها؛ إذ شكّل المثقفون ذكوراً وإناثاً عمودها الفقري، وبالمعية تكون قد نسفت الجهود والأموال التي بذلت من أجل وصم الثورة السورية بالإرهاب.
وإلى جانب إسقاط ثوار السويداء لدعوى محاربة الإرهاب وجعلها دعوى متهافتة عاجزة عن استقطاب المؤيدين؛ أسقطوا ادعاءً آخر أو معزوفة أخرى كان نظام أسد يعزفها في المحافل الدولية بادّعائه بأنه حامي الأقليات، وهو ادعاء حاول نظام أسد أن يعطيه المصداقية الشكلية من خلال تحييده للأقليات عن طريق التخويف تارة والاستجداء والاسترضاء تارة أخرى.
مع بداية الحراك الثوري دأب نظام أسد لإسكات الناس بشتى الطرق، وكان من بعض الأساليب التي لجأ لها إرسال وفود من المسؤولين لسماع مطالب الناس في الأرياف، أحد الوفود كان يستمع لمطالب سكان قرية وكانت ساذجة وبسيطة كما هو متوقع، إلا أن أحد الحضور قال: ليس لنا مطالب خاصة؛ مطالبنا هي مطالب كل السوريين، كانت هذه الكلمات بمثابة الصاعقة التي صعقت رؤوس الوفد ودفعته للمغادرة والغضب بادٍ على وجوه أفراده، والذي تُرجم باغتيال صاحب تلك الكلمات في اليوم التالي.
تكمن المعضلة في أن الخطاب الذي يصدره ثوار السويداء هو في مجمله من هذا النوع؛ خطاب يعبّر عن مطالب كل السوريين، إذاً هو الوعي، أي هو العدو الأول لكل طاغية مستبد، وهو ليس وعي شخص أو شخصين أو ثلاثة يمكن التخلّص منهم بالاغتيال؛ إنما هو وعي شارع كامل تغلغل إلى عقول الآلاف نساءً ورجالاً، شباناً وشيباً، ولعل أخطر ما فيه أنه وعي جذاب ومعدٍ في آن معاً.
ويعلم نظام أسد جيداً أن ثورة السويداء بالإضافة لتفكيكها لأهم مرتكزات خطابه الدعائي المتمثلة بادعائه محاربة الإرهاب وحماية الأقليات، هي تفكك أيضاً أهم مرتكزات بقائه المتمثلة بإرهاب السوريين من خلال بطشه وتنكيله بالمعارضين، فها هم يصيبون هيبته وجبروته في مقتل، لذلك هو التجأ إلى مراقبة باقي المناطق وترهيب ساكنيها.
من جهة أخرى، جاءت ثورة السويداء في توقيت حساس جداً، فبينما كانت مقولة: "إن نظام أسد انتصر" أخذت تستقر في الأوساط الدولية جاء الحراك في السويداء خصوصاً وفي الجنوب عموماً ليقول لأصحاب هذه المقولة: عليكم بمراجعة مقولتكم، وبالفعل التفت الكثير من المحللين والمراقبين لمراجعة هذه المقولة، علاوة على ذلك جاءت ثورة السويداء في توقيت يهيمن فيها السخط العام على سكان المناطق الواقعة تحت نفوذ نظام أسد.
إذن، من أجل توقيتها الحساس، ولأنها حطّمت مرتكزات خطابه الدعائي وجعلت جبروته موضع شك، ولأنها واعية سلمية جذابة ومعدية وقادرة على تحشيد الأنصار، من أجل هذا كله؛ ثورة السويداء ترعبهم.
التعليقات (37)