مستقبل العلاقات الروسية التركية مع تزايد الضغوط الغربية على أنقرة وضيق هامش المناورة

مستقبل العلاقات الروسية التركية مع تزايد الضغوط الغربية على أنقرة وضيق هامش المناورة


قصفت الطائرات الروسية مناطق في محافظة إدلب الخاضعة للتفاهمات الروسية التركية، وداهمت القوات الروسية سفينة شحن مملوكة لشركة تركية في المياه الدولية في البحر الأسود، وقبلها قصفت شركة تصنيع المحركات الأوكرانية التي تزود شركة الطائرات المسيرات التركية "بيرقدار"، إلى جانب تأجيل الزيارة المرتقبة للرئيس الروسي فلاديمير بوتين إلى تركيا، وإعلان انسحاب بلاده من صفقة تصدير الحبوب الأوكرانية عبر البحر الأسود التي توسطت فيها تركيا والأمم المتحدة، ما يدعو للتساؤل عن مستقبل العلاقات الروسية التركية في ظل تجذر سياسة الاستقطاب الدولي الناجمة عن الحرب الروسية في أوكرانيا.

وكانت العلاقات الروسية التركية قد شهدت مزيداً من التباينات بعد السحب الوردية التي ظللت فترة ما قبل الانتخابات العامة في تركيا، حيث أقدمت أنقرة على خطوات عدة نأت خلالها بنفسها عن موسكو، كان منها إطلاق سراح قادة كتيبة آزوف الأوكرانية المفترض بقاؤهم بتركيا حتى نهاية الحرب، وموافقة أنقرة على انضمام فنلندا إلى حلف الناتو وإعطاء الضوء الأخضر لانضمام السويد إلى الحلف، والدعم التركي الكامل لعضوية أوكرانيا في الحلف.

وبحسب الباحث في العلاقات الدولية والخبير في الشأن التركي، محمود علوش، على الرغم من أن هناك تباينات تظهر في العلاقات الروسية التركية، وهذه التباينات الطبيعية، ما يميز العلاقات الروسية التركية هو قدرة البلدين على إدارة الخلافات بينهما والتعامل معها بما لا يخرجها عن السيطرة في جانب، وبما لا يؤثر بشكل جوهري على الشراكة التركية الروسية التي كانت سائدة خلال النصف الثاني من العقد الماضي.

تاريخ دموي وحاضر مضطرب

بقي حلم استعادة أمجاد الماضي البيزنطي يراود روسيا التي ترى نفسها "روما الثالثة"، ما أوقد لديها عداءها للعثمانيين الذين استحوذوا على القسطنطينية (روما الثانية) عاصمة الإمبراطورية البيزنطية الأرثوذكسية عام 1453، وعليه، لم تخض روسيا القيصرية حروباً ضد دولة مثلما خاضتها ضد الإمبراطورية العثمانية، حاولت خلالها الجيوش الروسية استرداد إسطنبول مرتين، الأولى عام 1829، والثانية عام 1877 -1878، وخلال 13 حرباً ضد الأتراك العثمانيين، قضم خلالها الروس بعض الأراضي العثمانية، وعيونهم شاخصة باتجاه السيطرة على المضايق التي تقع تحت سلطة العثمانيين، ولعلها لامست هذا الحلم بموجب اتفاقية القسطنطينية "السرية"، والتي وافقت خلالها كل من بريطانيا وفرنسا على منح روسيا السيطرة على مضيقي الدردنيل والبوسفور مع مدينة إسطنبول، في حال انتصار الحلفاء الثلاثة في الحرب العالمية الأولى، إلا أن اندلاع الثورة الروسية والقضاء على حكم القياصرة عام 1917 أنهى الاتفاقية.

ومع نهاية الحرب العالمية الأولى شهدت العلاقات التركية الروسية بعض الاستقرار والدعم البلشفي لحركة التحرر الوطني التركي بزعامة مصطفى كمال أتاتورك، عادت العلاقات بعدها للتوتر قبل وخلال الحرب العالمية الثانية، لا سيما التوتر الحاد خلال المفاوضات التي أدت إلى توقيع اتفاقية مونترو عام 1936، التي أعادت المضائق إلى السيطرة التركية، وتعمَق التباعد بين الطرفين مع انضمام تركيا إلى حلف شمال الأطلسي (الناتو) عام 1952، والذي جاء محصلة لمبدأ "ترومان"، القاضي بمساعدة وتأمين سيادة تركيا وإيران واليونان، وذلك بعد مطالبة رئيس الوزراء السوفيتي، جوزيف ستالين، خلال مؤتمر "بوتسدام" عام 1945 لمراجعة اتفاقية مونترو، وحينها عارضت تركيا الطلب السوفيتي للمشاركة في الدفاع عن المضايق مدعمة من الغرب.

بعد سقوط الاتحاد السوفيتي، تم وضع أول لبنات العلاقة السياسية بين البلدين، من خلال "معاهدة المبادئ الأساسية للعلاقات بين الجمهورية التركية والاتحاد الروسي" عام 1992، أُقرّت بموجبها الصداقة بين الدولتين، والإرادة لبناء علاقات تحكمها مبادئ التعاون والثقة المتبادلة وقواعد حسن الجوار، لتأتي أول المكاسب السياسية وأكبرها لتركيا، بالدعم الروسي لها في قضية قبرص، خلال زيارة رئيس الوزراء التركي آنذاك، رجب طيب أردوغان لموسكو، وحينها أضاف الرئيس الروسي فلاديمير بوتين: "إن العزلة المفروضة على قبرص الشمالية ليست عادلة".

ولعل الإشارة ضرورية هنا، أن الانفتاح التركي على روسيا لم يبدأ مع قدوم حكومة حزب العدالة والتنمية إلى الحكم في تركيا عام 2002، إذ كانت أنقرة قد أقدمت سابقاً على فتح قنوات تفاهم مع موسكو منذ سبعينيات القرن الماضي، بعد الرسالة التهديدية لها من قبل الرئيس الأمريكي، ليندون جونسون، بخصوص قبرص، ما دفعها بالتالي لمراجعة إستراتيجية سياستها الخارجية، منتهية إلى ضرورة إعادة الحياة إلى العلاقات مع الاتحاد السوفيتي مع تحسين لعلاقاتها مع الدول العربية والإسلامية.

وخلال العقدين الماضيين، طور الجانبان علاقاتهما الاقتصادية والتجارية والسياحية، إلا أن التحول اللافت في العلاقة التركية الروسية جاءت به صفقة شراء أنقرة لمنظومة "إس-400" الدفاعية من روسيا، والتي وسّعت من شرخ العلاقة التركية الأمريكية، ومؤخراً تتعاون الدولتان في مشاريع ذات بعد إستراتيجي، مثل مشروع السيل التركي للغاز الطبيعي ومحطة أكويو للطاقة النووية ومقترح نقل الغاز الروسي إلى أوروبا عبر تركيا، وهو المقترح الذي أطلقه الرئيس الروسي فلاديمير بوتين بنفسه.

سوريا نقطة الاحتكاك والتفاهم

بعد التدخل الروسي في سوريا عام 2015 طورت أنقرة وموسكو عملية مساومة مُمنهجة تتيح لكليهما مجال المناورة لتحقيق المكاسب، والحد من احتمالات المواجهة المباشرة في آن واحد، يعمد الطرفان خلالها للاعتراف بشرعية ادعاءات الطرف الآخر، ويحافظان على اتصال منتظم، ضمن مساعيهما للتوصل إلى حلول سياسية مقبولة لكليهما، وبالمحصلة، مثّل الحدث السوري ساحة الاختبار الأهم لمستقبل العلاقة الروسية-التركية المعقدة، تم خلالها إقامة تعاون أمني وعسكري عبر مسار دبلوماسية بديل عن المسار الأممية لحل القضية السورية، نتيجة لشعور أنقرة بأن واشنطن لم تقدم الدعم الكافي خلال أزمة إسقاطها للطائرة الروسية عام 2015، مع إصرار واشنطن على دعم قوات سوريا الديمقراطية، الجناح السوري لحزب العمال الكردستاني، ما حدا بأنقرة لتأمين مصالحها في سوريا بالتواصل والتنسيق والتوافق مع موسكو.

وفيما كانت الدولتان تعملان على إزالة الآثار المتبقية لإسقاط الطائرة الروسية جاء اغتيال السفير الروسي في أنقرة أندريه كارلوف، "حدثٌ يستهدف إفساد العلاقة الروسية التركية" وفقاً لتصريح الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، متابعاً "ينبغي الحديث بوضوح، إني أنظر بريبة إلى أن عملية إسقاط طائرتنا تمت بدون أمر من القيادة التركية، إنها تمت من قبل أشخاص يريدون الإضرار بالعلاقة الروسية التركية. لكني بدأت في تغيير رؤيتي بعد قيام شرطي بالهجوم على سفيرنا... فكل شيء ممكن بالنسبة لي، من الممكن أن تكون العناصر الهدامة ذات نفوذ عميق في أجهزة الدولة التركية، بما فيها تشكيلات الشرطة، والمخابرات، والجيش. لكن لا أجد لنفسي الحق في إلقاء التهمة على أحد" خاتماً بالقول: "إن اغتيال كارلوف لن يضر بالعلاقات الروسية التركية".

ووفقاً لعلوش، العلاقات التركية الروسية ترتكز على عنصرين أساسيين، أولهما المصالح المتداخلة بين الجانبين في كثير من المجالات الحيوية من المجالات الجيولوجية إلى مجالات التعاون في تجارة الطاقة وغيرها، وثانيهما، الواقعية الجيوسياسية التي تتبناها تركيا على وجه الخصوص في مقاربة علاقاتها مع روسيا. معتقداً، إن هذين العنصرين لا يزالان قائمين، ويدفعان للاعتقاد بأن العلاقات الروسية التركية ستبقى مستقرة على المدى البعيد. 

تطورت العلاقة بين الجانبين بعد قيام أنقرة بعملية درع الفرات شمال سوريا صيف 2016، والتي لم تكن لتبدأ لولا التفاهم مع روسيا، وهو ما أظهره القصف الروسي لتنظيم داعش جنوب مدينة الباب على مقربة من القوات تركية هناك، ما يوحي بتجاوز الطرفين للتنسيق المباشر على مستوى العمليات بين الطرفين إلى مستوى تقديم الدعم، حيث تجهد موسكو في مساعيها لإبعاد تركيا عن المعسكر الغربي، والذي يمثل في حد ذاته مكسب إستراتيجي لروسيا، ولهذا السبب قدمت العديد من الدعم لفك أو منع عزلة أنقرة إقليمياً ودولياً.

ويضيف علوش في حديثه لموقع أورينت، تقف موسكو وأنقرة على طرفي نقيض في كثير من القضايا، رغم تداخل مصالحهما في هذه القضايا، مثل سوريا وجنوب القوقاز وشمال أفريقيا والملف الأوكراني مع البحر الأسود، لكنها تبقى هذه القضايا محل تنافس جيوسياسي بينهما، إلا أن المميز في علاقة البلدين تركيزها على سياسة إدارة المصالح في المناطق المتداخلة على قاعدة التعاون والتنافس، ما منحهما ميزة مهمة لإدارة الخلافات والتعامل معها والتركيز على القواسم المشتركة، مع محاولة الحد من تأثير الخلافات في بعض القضايا في على القضايا الأخرى، بالإضافة لوجود تناغم كامل بين البلدين حول موضوع تجارة الطاقة، وهي مسألة حيوية لدى الجانبين.

كما إن هناك لقاء مصالح بين تركيا وروسيا في مسألة الحد من التأثير الأمريكي والغربي عموماً في القضايا التي تتداخل فيها المصالح الروسية والتركية، كالساحة السورية، والساحة الليبية التي عمل فيها الطرفان سابقاً على الحد من النفوذ الغربي فيها، حسب علوش، مضيفاً لهما ساحة البحر الأسود الذي شهد توافق تركي روسي على منع توسيع رقعة الصراع أو المنافسة الجيوسياسية إليه قبل الحرب الروسية الأوكرانية، والتي فعّلت تركيا بعدها معاهدة "مونترو"، مقيدة قدرة روسيا على استخدام أسطولها البحري الحربي في البحر الأسود، وهي خطوة تتعارض مع مصلحة روسيا في جانب وتفيدها في جانب آخر، من خلال تقييد قدرة حلف الناتو على الدخول أو توسيع رقعة نشاطه المسلح في منطقة البحر الأسود.

تزايد التقارب التركي الروسي مع فشل المحاولة الانقلابية في تركيا عام 2016، لا سيما مع مقارنة أنقرة بين الموقف الغربي والموقف الروسي تجاه المحاولة الانقلابية، إذ جاء الموقف الروسي متقدماً على الموقف الأوروبي في مساندتها لحكومة أنقرة، معلناً تفهمه لمخاوفها، وداعماً لموقفها في مواجهة المحاولة الانقلابية، وفي المقابل، تشتبه أنقرة بوقوف واشنطن خلف المحاولة الانقلابية، أو علمها بها على الأقل، بالإضافة لرفض واشنطن المطالب التركية بتسليم فتح الله غولن، المتهم بتخطيط عملية الانقلاب الفاشل.

الحرب الأوكرانية وضيق الخيارات التركية

زادت الضغوط الغربية على أنقرة بخصوص علاقاتها مع موسكو بعد الحرب الروسية في أوكرانيا، نتيجة لمحافظة أنقرة على موقف متمايز إلى حد كبير عن موقف الدول الغربية/الأطلسية، فرغم إدانة أنقرة لهذه الحرب، امتنعت عن الانخراط في العقوبات الغربية على موسكو، مع ضبطها لتصريحاتها ومواقفها تجاه روسيا، ومستمرة في علاقاتها المتوازنة مع موسكو، مع مساعيها لإنجاز بعض الاختراقات في علاقة الدولتين المتحاربتين، من خلال جمع وزيري خارجية روسيا وأوكرانيا واتفاقي تصدير الحبوب وتبادل الأسرى.

مع ذلك، فقد ضيقت الحرب الروسية في أوكرانيا هامش المناورة أمام تركيا، لا سيما فيما يتعلق بطلبات الانضمام الجديدة إلى حلف الناتو، وإن لم تكن موافقة أنقرة على انضمام فنلندا إلى الناتو قد أحدثت أزمة بين أنقرة وموسكو، فإنّ الموافقة المبدئية التركية على ملف عضوية السويد في الحلف أظهرت ردة فعل روسية تجاه تركيا، من خلال إعلان موسكو عن عدم رغبتها في تجديد اتفاقية تصدير الحبوب عبر البحر الأسود، التي توسطت فيها تركيا والأمم المتحدة، والتي كان بالإمكان تفسيرها على أنها احتجاج روسي على السياسات الغربية فقط لولا الإعلان عن تأجيل زيارة الرئيس الروسي المقررة إلى تركيا، بالإضافة لمداهمة القوات الروسية سفينة الشحن المملوكة لشركة تركية في البحر الأسود، وقصفها لشركة تصنيع المحركات الأوكرانية التي تزود شركة الطائرات المسيرات التركية "بيرقدار"، والتي وصفها دبلوماسي تركي كبير الهجوم بأنه "تحذير روسي رمزي... على عدد قليل من المبادرات التركية".

وحسب علوش، هناك ارتباط في ديناميكية العلاقات التركية الروسية مع الديناميكية العلاقات التركية الغربية، وهو ما يفسر تطور العلاقات التركية الروسية منذ محاولة الانقلاب العسكري الفاشلة في تركيا، في الوقت الذي شهدت فيه العلاقات التركية الغربية تراجعاً ملحوظاً، إلا أن هذا الترابط لا يعكس بشكل كامل الترابط الحتمي في الديناميكيات، فالعلاقات التركية الروسية حتى لو كانت جيدة لا يمكن أن تؤدي لتخلي تركيا عن علاقتها مع الغرب، فتركيا تدير علاقتها بين روسيا والغرب من منظور الواقعية الجيوسياسية، أي إن هناك مصالح لتركيا مع روسيا وهناك مصالح لتركيا مع الدول الغربية، وبموجبه تحاول تركيا أن تلعب في النقطة التي يمكن أن نسميها بنهج التوازن بين روسيا والغرب.

 لكن رغم تلاقي تركيا وروسيا في المصالح، إلا أن هذا التلاقي لا يعني تخلي تركيا عن هويتها الجيوسياسية، فتركيا في نهاية المطاف جزء من حلف الناتو، مع ملاحظة تركيز أنقرة، لا سيما بعد عام 2016، على إدارة علاقتها مع موسكو بمعزل عن هويتها الأطلسية مع هامش لاستقلالية سياستها الخارجية عن الغرب فيما يخص العلاقة مع روسيا تحديداً، نتيجة المصالح المتبادلة بينهما، والتي فرضت عليهما الإدارة التنافسية للمصالح المتداخلة.

وختاماً يمكن القول، إن العلاقات الروسية التركية سائرة على ما سارت عليه في العقدين الماضيين، توافق في بعض القضايا وتداخل وتناقض في قضايا أخرى، دون أن يؤدي ذلك إلى تدهور العلاقة بين الجانبين وإعادتها لمربعها الأول، رغم الألغام التي ستزرعها الحرب الروسية الأوكرانية في مسار هذه العلاقة.

التعليقات (3)

    بوتين مجرم سفاح

    ·منذ 8 أشهر 3 أيام
    لايمكن العمل مع مجرم سفاح وبالاخص بوتين في الأمس القريب كان بوتين وزعيم فاغنر اعز صديقين وقام زعيم فاغنر بالقتال الضاري وخسر الاف من جنوده لصالح بوتين ومع ذلك بوتين غدر به وقام بتصفيته ... بوتين وبشار هم بدون اخلاق او ضمير همهم الوحيد مصالحهم وعندما تنتنهي المصلحة تنتهي العلاقة وغدا سوف نشاهد كيف بوتين سوف يتخلص من الخائن بشار الجحش زعيم الكبتاغون وقاتل الاطفال والنساء في سوريا بعد ان ينتهي دوره في تسليم كل سوريا ل بوتين ... لان الخائن مصيره القتل

    Miserable nations

    ·منذ 8 أشهر يومين
    Russian and truck that same miserable society .

    ياسر

    ·منذ 8 أشهر يومين
    الله يحفظك عم
3

الأكثر قراءة

💡 أهم المواضيع

✨ أهم التصنيفات