عندما يسعى بوتين لتبييض صفحته في القارة السمراء

عندما يسعى بوتين لتبييض صفحته في القارة السمراء

استضاف الرئيس الروسي فلاديمير بوتين أواخر الأسبوع الماضي قمة روسية إفريقية في مدينة سان بطرسبرغ، حاول من خلالها إضفاء أجواء تاريخية برّاقة وخادعة لتعويم نظامه وتبييض صفحته عبر القارة السمراء، ولكن دون نجاح كبير، مع عزوف قادة أفارقة كبار عن المشاركة، كما تزامنت القمة مع وقوع انقلاب عسكري في النيجر ووجود شواهد ودلائل على تورط مرتزقة فاغنر سيئة الصيت بالانقلاب، وبالحضور الروسي بإفريقيا بشكل عام مع ظهور زعيمها يفغيني بريغوجين في سان بطرس برغ ولقائه قادة وزعماء أفارقة على هامش القمة.

بداية، كانت هذه القمة الروسية الإفريقية الثانية بعد الأولى التي عقدت بمدينة سوتشي بالعام 2019، أي قبل أربع سنوات تقريباً، ومن حيث الشكل وحتى بالمضمون حضر 17 زعيماً ومسؤولاً إفريقياً فقط هذه المرة مقابل 43 بالقمة الأولى، في دلالة واضحة على رغبتهم في النأي والابتعاد بأنفسهم ودولهم عن روسيا وبوتين، مع الانتباه إلى عجز هذا الأخير عن المشاركة بقمة مجموعة بريكس التي عُقدت في جنوب إفريقيا نهاية الشهر الماضي أيضاً، بعد رفع قادة سياسيين ونواب وناشطين حقوقيين عريضة إلى المحكمة ببريتوريا للقبض عليه وتسليمه إلى الجنائية الدولية في حالة حضوره تنفيذاً لمذكرة جلب واعتقال صادرة بحقه عن الهيئة القضائية الأرفع بالعالم بسبب ارتكابه جرائم حرب في أوكرانيا.

يمكن الحديث عن عدة أسباب تقف خلف هذا الابتعاد أو الحذر الإفريقي تجاه روسيا وبوتين، أولها حربه المجنونة ضد أوكرانيا التي تركت آثاراً سلبية على صورة البلاد، وارتفاع نسب التضخم وأسعار الطاقة والمستلزمات الغذائية، و تضرر ومفاقمة أزمات الدول الإفريقية، وهي أصلاً تعيش على الكفاف وعلى حافة الفقر.

بالسياق نفسه جاءت قمة سان بطرسبرغ على بعد أيام من انسحاب بوتين من الاتفاق الأممي لتصدير الحبوب  والمواد الغذائية الروسية والأوكرانية - 80 بالمئة تقريباً من حجم التجارة الدولية - عبر موانىء البحر الأسود ومضيق البوسفور إلى العالم، والذي تم التوصل إليه بوساطة تركيا والأمم المتحدة التي يقول أمينها العام أنطونيو غوتيريتش دائماً أنه أي الاتفاق أنقذ العالم من مجاعة يبدو شبحها وكأنه يعود مرة أخرى بعد القرار الكارثي الأخير لبوتين.

خلال القمة اتبع بوتين أيضاً نفس الخطاب الدعائي السوفييتي عن الغرب واستعماره القديم والجديد لإفريقيا، لكن مع تجاهل النسخة الاستعمارية لفاغنر في القارة لصالح الدولة الروسية، وأعلن بالمقابل عن استعداده لتقديم مساعدات غذائية متواضعة وليس لمدى طويل ومنتظم لدول إفريقيّة فقيرة، فيما بدت كمكافأة أيضاً لتصويتها إلى جانب روسيا في الأمم المتحدة ضد إرادة ومزاج الغالبية العظمى من المجتمع الدولي وضد مواثيق وشرائع الأمم المتحدة نفسها.

 في خطابه الدعائي اتهم بوتين الغرب -الاستعمار القديم والجديد في إفريقيا- باستغلال اتفاق تصدير الحبوب العالمي لصالحه، رغم استفادة إفريقيا والعالم الثالث بثلث صادرات الاتفاق حسب اعتراف بوتين نفسه، وكان بالإمكان العمل على استمراره مع ضمانات تتعلق بتصدير الأسمدة والزيوت الروسية، علماً أن أمين عام الأمم المتحدة قام ىإرسال خطاب رسمي بذلك إلى موسكو.

في الحقيقة نحن أمام عمل دعائي ووهمي، والانسحاب من اتفاق الحبوب، كان بالحقيقة ردّاً على الهجوم الأوكراني المضاد، والغرق الروسي بالمستنقع هناك، واهتمام بوتين بتعويم نفسه كقائد وصاحب سلطة وقرار، خاصة بعد تمرد مرتزقة فاغنر المهين، وابتزاز العالم والمجتمع الدولي بشبح المجاعة، وتحديداً الوسيط التركي احتجاجاً على بعض السياسات والخطوات الأخيرة لأنقرة تجاه القضية الأوكرانية وحلف الناتو والغرب بشكل عام، والتي لم تنل من جوهر  الوساطة بالأزمة الأوكرانية والعلاقة والانفتاح تجاه موسكو استناداً على القوانين والمواثيق الدولية والمصالح المشتركة بين الدولتين الجارتين.

أبعد من القمة وفي السياق العام، ورغم الدعاية البوتينية السوفييتية، إلا أنه لا حضور اقتصادياً روسياً جدياً بالقارة السمراء مع تبادل تجاري سنوي يراوح حول 18 مليار دولار فقط، وهو مبلغ ضئيل علماً أن الجانب الأكبر منه يتعلق بدول شمال إفريقيا العربية، تحديداً مصر والجزائر، أما خارجهما وبعمق القارة فيبلغ حجم التبادل التجاري مع دول جنوب الصحراء 1 إلى 2 مليار دولار سنوياً فقط، وهو رقم جدّ متواضع وصغير قياساً لدولة تزعم أو تدّعي أنها عظمى أممياً وقاريّاً.

في السياق الروسي المتعلق بالقمة أيضاً ثمة سعي لاستعادة الحضور السوفييتي السابق بالقارة السمراء، ليس عبر دعم الثوار وحركات الاستقلال والدول الفقيرة وإنما عبر مرتزقة مجموعة فاغنر سيئة الصيت – متهمة بارتكاب جرائم حرب وأخرى ضد الإنسانية – والتي كانت قد دعمت انقلابات عسكرية وأنظمة استبدادية فاسدة وفاشلة بعدة دول إفريقية وعملت على نهب ثرواتها وخيراتها واقتسامها مع الانقلابيين المستبدّين الفاسدين والفاشلين، علماً أن احتياطي الذهب بإفريقيا الوسطى مثلاً يبلغ مليار دولار تقريباً وهو أيضاً مبلغ متواضع جداً بالنسبة لدولة تقول أو تدعي وتزعم أنها عظمى.

في إفريقيا ثمة استعمار غربي قديم وجديد ولكن هناك حضور مختلف للصين ولو عبر القروض ومشاريع البنى التحتية الضخمة، ولتركيا عبر قوتها الناعمة ومشاريعها الخيرية الإنسانية وبضائعها والمنح الدراسية للطلاب الأفارقة في الجامعات والمعاهد التركية، ورفع مستوى وحجم التبادل التجاري وفق قاعدة رابح رابح مع السمعة الطيبة للبلد ومنتجاته المتنوعة، وعدم امتلاك ماضٍ استعماري كما هو الحال مع الغرب – تحديداً فرنسا - بنسختيه القديمة والجديدة. بينما تحضر روسيا بوتين عبر المرتزقة والانقلابات والحروب الأهلية ونهب ثروات البلاد كما فعلت وتفعل الشركات الغربية التي ينتقدها بوتين ويدّعي مواجهتها.

 وعليه لا يمكن الحديث عن نجاح كبير للقمة رغم الأجواء المدينة التاريخية وصخب الحشد الشعبي الإعلامي الروسي والإيراني الناطق بالعربية واللغات الأخرى، ومرّ الحدث الهامشي ولم يلتفت إليه أحد كون مشاكل وأزمات بوتين أعقد بكثير، وهو غير قادر على حلها وإخفاء عورات نظامه مع استنزافه وغرقه في المستنقع الأوكراني، وفشل الغزو والعجز عن تحقيق الانتصار رغم الفارق الهائل في موازين القوى والعدة والعتاد، بينما أظهر تمرد مرتزقة  فاغنر؛ الدولة الروسية على حقيقتها دون تزوير أو تجميل.

وإضافة إلى ما سبق كله لا يملك بوتين ما يقدمه لإفريقيا وحتى السلاح الروسي اتضح أنه بدائي ومتخلّف وظهر عاجزاً ومكشوفاً أمام التكنولوجيا الغربية في أوكرانيا وقبل ذلك التركية، كما رأينا في سوريا وليبيا وأذربيجان وسعي بوتين نفسه وراء السلاح المتخلّف من إيران وحتى من كوريا الشمالية، بينما نأت الصين بنفسها عنه المعزول والمحاصر والضعيف والعبء.

 وبالعموم ليست القمة ومعها الخطاب الدعائي الروسي-السوفييتي الجديد القديم سوى هروب موصوف إلى الأمام نحو القارة السمراء التي تمتلك ثورات هائلة، لكن تعاني من أزمات وتحديات عديدة يفاقمها بوتين نفسه عبر استنساخ مرتزقة أفارقة ونسخ محلية من فاغنر كما هو الحال مع عسكر مالي وإفريقيا الوسطى وبوركينا فاسو، وأخيراً النيجر وقبل ذلك خليفة حفتر ومحمد حمدان حميدتي في ليبيا والسودان.


•    باحث وإعلامي

 

التعليقات (2)

    مخلوق غبي

    ·منذ 8 أشهر 3 أسابيع
    ان دعمه المجرمين في سوريا وايران جعله محتقرا من كل الشعوب . لانه غبي يضع الهبل معه وهذا يرينا مستواه العقلي

    الزنجي اوباما

    ·منذ 8 أشهر 3 أسابيع
    اوباما مجرم الحرب الحاءز على نويل السويد ، ضحك على بوتين الضعيف عقليا وجعله حاميا لمجرم الحرب السوري وعصاباته بدل اوباما واعطاه القرن للزج به في حرب اوكرانيا التي هي بلد اجرام مثله. وهذا كلما رأيته أتذكر القاصر بثار البعرزي، وحده شوه نفسه بغباء وبدفع من الزنجي مجرم الحرب .
2

الأكثر قراءة

💡 أهم المواضيع

✨ أهم التصنيفات