محكمة العدل الدولية وأدوارها المحتملة في سياق مسار العدالة السوري

محكمة العدل الدولية وأدوارها المحتملة في سياق مسار العدالة السوري

في 12 من حزيران عام 2023 أعلنت محكمة العدل الدولية أن كلاً من هولندا وكندا تقدمتا بدعوى ضد نظام الأسد، بخصوص التعذيب والمعاملة اللاإنسانية في السجون، الأمر الذي قوبل بترحيب كبير من المنظمات الحقوقية ومؤسسات وقوى الثورة والمعارضة، وتبع ذلك إعلان المحكمة عن موعد الجلسة الأولى للاستماع، وتأجيلها لوقت لاحق.

في ظل هذه التطورات تبدو مجموعة من الأسئلة الرئيسية جديرة بالنقاش وخاصة على صعيد عموم الشعب السوري، حول المحكمة والمحاكمة ومآلاتها؟ وهو ما يرتبط بجانبين رئيسين: الأول الإحاطة الجيدة بالمحكمة واختصاصاتها وولايتها القانونية، والثاني هو الدور المحتمل لها في دعم مسار العدالة في السياق السوري ومساءلة نظام الأسد حول انتهاكاتها.

بالانطلاق من المحكمة ذاتها وإطارها القانوني، نجد أن محكمة العدل الدولية تأسست عام 1945 كهيئة قضائية دولية واتخذت من لاهاي في هولندا مقراً لها، وتُعدّ المحكمة جزءاً من منظومة الأمم المتحدة، وترتكز في أساسها القانوني على ميثاق الأمم المتحدة، الذي ينص على إنشاء المحكمة ويحدد سلطاتها واختصاصها، وتعتمد أيضاً على المبادئ العامة للقانون الدولي، والاتفاقات والمعاهدات الدولية والأحكام القضائية.

وتهدف المحكمة بشكل رئيسي إلى حل المنازعات القانونية بين أشخاص القانون الدولي، وتقديم آراء استشارية بشأن المسائل القانونية التي قد تحيلها إليها أجهزة الأمم المتحدة ووكالاتها المتخصصة، وتختص بموجب الميثاق الأممي في النظر بالنزاعات القانونية بين الدول الأعضاء، وإصدار الأحكام والتوصيات المتعلقة بالنزاعات المعروضة أمامها، والتي تتم إحالتها إليها في حالتين اثنتين: الأولى إحالة النزاعات إلى المحكمة بموجب اتفاقية بين الدول المعنية، أما الثانية فعبر طلب من مجلس الأمن الدولي.

وعن طبيعة الولاية الخاصة بالمحكمة، فهي ولاية اختيارية من حيث المبدأ؛ بمعنى أنها تقوم على أساس رضا جميع أطراف النزاع بولاية المحكمة، فإذا فُقد هذا التراضي استحال عرض النزاع على المحكمة، وفقاً لما نصت عليه المادة 36 من نظامها الأساسي، ويُثبت هذا الرضا بطرائق عديدة، أبرزها الاتفاق الخاص قبل نشوء النزاع، أو بمناسبة نشوئه أو من خلال مواقف الأطراف وقبولهم للترافع أمام المحكمة وعدم نكران ولايتها، في المقابل فإن الاستثناء يكمن في طبيعة الولايات الجبرية للمحكمة، والتي تقوم على أساس قبول مسبق من الدول بالولاية الجبرية، (أعلنت 66 دولة قبول الولاية الجبرية) وتقتصر على المنازعات المرتبطة في تفسير معاهدة من المعاهدات، أو في أي مسألة من مسائل القانون الدولي، أو التحقق من واقعة من الوقائع التي ترتبط بخرق التزام دولي، أو في التعويض عن هذا الخرق ومداه.

وبعد أن يتم قبول الدعوى والشروع بالمحاكمة وفقاً للإجراءات المحددة وبعد أن تنتهي مرافعات أطراف النزاع كتابياً وشفهياً أمامها، تعلن المحكمة ختام المرافعات ورفع القضية للمداولة بين القضاة، وصولاً إلى إصدار الحكم النهائي غير القابل للاستئناف، إلا أن هذا الحكم الذي تصدره المحكمة ليس له قوة الالزام إلا بالنسبة إلى أطراف النزاع وبخصوص النزاع نفسه، ويعدّ حكماً واجب النفاذ والاحترام، وفي حال عدم تنفيذ الدولة لموجبات الحكم، يحق للأطراف أن ترفع الأمر لمجلس الأمن الذي يقرر التدابير الواجب اتخاذها لإنفاذ الحكم.

وبالانتقال من التأصيل القانوني للمحكمة وقواعدها الناظمة، إلى سياق الدعوى المنظورة أمامها، في ظل الشكوى المزدوجة (الهولندية -الكندية)، تبدأ أولى الأسئلة: حول طبيعة ولاية المحكمة على الدعوى المرفوعة إن كانت تندرج في إطار الولاية الاختيارية؟ بمعنى أنها مرهونة بموافقة نظام الأسد على اختصاص المحكمة؟ أم إن النزاع يرتبط بالولاية الجبرية للمحكمة؟

من الناحية القانونية فإن الإجابة محسومة، بأن ولاية المحكمة جبرية في هذه الحالة، بوصفها ترتبط بالوفاء بالالتزامات حول اتفاقية دولية، (اتفاقية مناهضة التعذيب وغيره من ضروب المعاملة، أو العقوبة القاسية، أو اللاإنسانية، أو المهينة لعام 1984)، حيث تنص المادة 36 في النظام الأساسي لمحكمة العدل الدولية، على أن ولاية المحكمة تنظر في جميع القضايا التي ترفعها دولة على أخرى، نتيجة لعدم التزامها بميثاق الأمم المتحدة أو المعاهدات أو الاتفاقيات.

ومن جهة أخرى فإن نصوص الاتفاقية ذاتها والتي ارتضتها الدول المصدقة عليها، (وقعت سوريا على اتفاقية مناهضة التعذيب عام 2004 بموجب المرسوم التشريعي 39)، تقر باختصاص المحكمة بموجب المادة 30 الفقرة 1، والتي تنص على أن "أي نزاع ينشأ بين دولتين أو أكثر من الدول فيما يتعلق بتفسير هذه الاتفاقية أو تنفيذها ولا يمكن تسويته عن طريق التفاوض، يطرح للتحكيم بناءً على طلب إحدى هذه الدول فإذا لم تتمكن الأطراف في غضون ستة أشهر من تاريخ طلب التحكيم، من الموافقة على تنظيم التحكيم، يجوز لأي من تلك الأطراف أن يحيل النزاع إلى محكمة العدل الدوليةـ بتقديم طلب وفقاً للنظام الأساسي لهذه المحكمة".

بالانتقال من حسم نقطة الولاية وعدم إمكانية منازعة نظام الأسد في اختصاص المحكمة، تبدو القضايا الأخرى ذات الأهمية مرتبطة بسقف التوقعات من الحكم النهائي الصادر وعن دوره في تحقيق العدالة والمساءلة وهنا تكمن الإشكالية الأكبر.

من حيث المبدأ يمكن القول إن مجرد فتح الملف وأمام أبرز محكمة ذات اختصاص دولي وولاية عالمية، يعدّ مكسباً كبيراً لمسار العدالة السوري؛ وعاملاً مساهماً في دعم جهود العدالة وترسيخ الحقائق وتقديراً معنوياً في الحد الأدنى لمئات الآلاف من الضحايا السوريين، الذين سيشاهدون ملفاً مطوياً يحظى بمساحة للتحقيق في منصة عالمية.

يضاف إلى ذلك أن طبيعة الأحكام الصادرة عن المحكمة الدولية إلزامية الطابع، وتستمد قوتها من التعهد الجماعي بموجب ميثاق الأمم المتحدة بواجب الإنفاذ من الدول، بما يجعل من قوة الضغط الناتجة عن القرار جديرة بالاعتبار، على الرغم من الكثير من الأحكام التي لم تُنفذ على أرض الواقع لأسباب سياسية.

كل هذه المكاسب الحاصلة والمحتملة تقابل بمجموعة من السلبيات، التي تجعل من دور المحكمة غير كافٍ للقول بأن العدالة ستُحقق ولو نسبياً، في مقدمة هذه الأسباب يأتي العامل الزمني، حيث تستغرق الدعاوى المنظورة عادة أمام المحكمة سنوات طويلة وهو ما يعني أن حصد ثمار الحكم النهائي لن تكون عملية قريبة.

من جانب آخر فإن المحكمة تختص كما سبق ذكره بأشخاص القانون الدولي وليس بالأفراد، بمعنى آخر فالمحكمة تنظر في التزامات "الحكومة السورية" وليس في مساءلة الأفراد جنائياً والذي تنظر فيه عادةً المحاكم الدولية الخاصة أو المحكمة الجنائية الدولية الدائمة.

وآخرها يرتبط بالعودة الى مجلس الأمن في نهاية المطاف لاتخاذ تدابير مُلزمة للنظام السوري، بتطبيق أحكام محكمة العدل الدولية، وهنا تعود الدائرة إلى الفيتو الروسي الصيني.

ختاماً يمكن القول، وعلى الرغم من الدور المحدود الذي يمكن أن تسهم به محكمة العدل الدولية في سياق مسار العدالة السوري، إلا أن الدعوى المقدّمة بلا شك تمثل خطوة استثنائية الأهمية، وخاصة من الجانب المعنوي وتزيد من الخناق على نظام الأسد، بالنظر إليها كسلسلة مع سلسلة الخطوات الأخرى، ويمكن لها أن تمهّد لمسار جنائي لاحقاً حال تغيُّر المعطيات السياسية.

التعليقات (0)

    0

    الأكثر قراءة

    💡 أهم المواضيع

    ✨ أهم التصنيفات