فاغنريّو الوطنية وصبايحية الثورة

فاغنريّو الوطنية وصبايحية الثورة

انشغل العالم خلال الأيام الماضية بتمرد قائد قوات مرتزقة فاغنر الروسية يفغيني بريغوجين، والذي دعا للعصيان المسلح بسبب تعرض قواته على الجبهة الروسية الأوكرانية للقصف من الجانب الروسي، وقابله رد للرئيس الروسي فلاديمير بوتين اعتبر فيه هذه الدعوة بمثابة خيانة عظمى لروسيا.

فاغنر المتمردة شركة تضم مرتزقة استخدمتهم روسيا لتنفيذ أهدافها وتحقيق سيطرتها في مناطق مختلفة من العالم في أوكرانيا وسوريا ودول إفريقية، يتزعم قيادتها يفغيني بريغوجين أشهر طباخي بوتين، وكان يعمل كمورد عقود تموين وأغذية للجيش الروسي، ومع ازدياد طموح روسيا لتوسيع مجالها الحيوي والعسكري في مناطق عديدة في العالم، قام بوتين وعلى غرار النمط الأمريكي بتوكيل تأسيسها إلى بريغوجين، فأنشأ في 2014 شركة "فاغنر"، عبر ذهابه إلى كل السجون في روسيا، واختيار المحكومين ممن لديهم ماضٍ عسكري أو إجرامي مسلح، عرض عليهم الخروج وتوقيع عقود للخدمة العسكرية برواتب عالية، وأصبحت فاغنر ذراعاً عسكرياً للاستخبارات الروسية ونشطت في مناطق عدة لا ترغب روسيا في أن يتورط فيها الجيش علناً وبشكل مباشر.

لمفردة المرتزقة تاريخ طويل لازم تاريخ الحروب، وصار الارتزاق مهنة مأجورة، يشابه الدعارة عند النساء غير العفيفات، ووُصف الارتزاق بدعارة الرجال، فالمرأة التي تأكل من ثدييها داعرة، وكذلك الرجل الذي يبيع قدراته ومهاراته القتالية لأجل المال والمكتسبات والجاه. حتى أصبح الارتزاق مهنة تقوم عليها شركات كبرى في عصرنا الحاضر، تبيع إمكانياتها وقدرات رجالها لكل من يطلب تلك الخدمة.

في المغرب العربي، ظهرت كتائب الصبايحية في القرن السابع عشر، ولم تكن فيالق عسكرية حينها، بل كانت فرقاً من المشاة تعمل على حراسة المناطق المنتجة للحبوب والمعابر المؤدية إلى الحدود الجزائرية، وتحرس الباي وترافقه في تنقلاته داخل البلاد، وبعد الاحتلال الفرنسي للجزائر قامت فرنسا بإعادة تشكيلها وتأهيلها وتدريب عناصرها المنتدبين من بين السكان المحليين على عقيدة الولاء التام لفرنسا.

ويُطلق لفظ "الصبايحي" على الشخص العميل التي يتوسط بين الاحتلال الفرنسي والسكان المحليين في البلدان المستعمرة لاستهداف المقاومين، فيما كانت وظيفتهم الوساطة بين الدايات الذين يجمعون الضرائب والأهالي، ولكن تطورت بعد الاحتلال الفرنسي لتصبح خالصة الولاء له عبر تجنيد الشباب للانخراط في الجيش الفرنسي لمحاربة أعداء فرنسا.

فقد كان الصبايحية في تونس وباقي دول المغرب العربي نموذجاً للارتزاق والعمالة، حيث كان الشعب يمقتهم وينظر إليهم بوصفهم خونة. وبعد خروج فرنسا قام بورقيبة بإدماج الصبايحية في جهاز الحرس الوطني الناشئ حديثاً، حيث ظلوا يمارسون عملهم الأمني بذات العقلية المريضة المعادية للشعب.

في الوضع السياسي السوري، في الواقع وفي العالم الافتراضي، الذي يتنفس من خلاله الشعب السوري بالتذمر والشكوى والشتم أحياناً، ولكن من جانب آخر نرى أن وضع المسؤولين والقيادات مستمر ولا يشعرون بخطر حقيقي يهدد البلاد والعباد..!

ولكن ما سر هذا الاستمرار الرهيب لنظام التفاهة هذا..؟

السر، هو أن الفساد الذي أشاع نمط الارتزاق، وقد أسس قاعدة لتتفيه النضال الثوري والسياسي الملتزم وإسقاط نبل الغاية، والهدف خلق طبقة من ذوي الامتيازات الخاصة التي همها الارتزاق من خلال دكاكين المشاريع المغلفة بلبوس الثورة! مما خلق حالة غضب واستياء عند الشعب، الذي يعاني من البطالة والفقر وشظف العيش، كما إن تقاسم ثروات المجتمع والتعيينات والمناصب بين أطراف سلطات المحاصصة قد ساعد على انتشار روح المداهنة والتملق والانتماء الانتهازي إلى المؤسسات التي ترعاها السلطة، بعد أن أغلقت الأبواب بوجه شعب كانت غاية مناه الحصول على حقوقه في دولة تحترم المواطنة.

ومن الملاحظ للواقع الراهن أنه في حالة من التوهان بين العديد من القوى المختلفة التي تصدرت قيادة الثورة السورية وفقدان تلك القوى التنسيق حول إستراتيجية وطنية تلبي مصالح البلاد والعباد، فكل القوى أصبح لها لغة خاصة تعبر عن رؤيتها للمشهد الداخلي والخارجي، ويتعايش المواطنون مع عدة مجالس وحكومات متضاربة ضلت الطريق وأصبح لا يوجد من يستطيع الإجابة على سؤال بأي اتجاه نحن سائرون..؟

فيما يتفق الشعب برمّته على مبدأ أساسي وهو أن مسيرة تلك القوى التي تدّعي تمثيل ثورته في الجوانب السياسية والتنموية والاقتصادية والاجتماعية لم تحقق أي هدف ملموس على أرض الواقع.

أي إن الشعب وبمختلف الجوانب يعيش في واقع فضفاض يفتقد الهدف والوسائل المؤدية إليه، كما يغلب عليه قيم المصالح والمكتسبات الخاصة، وأصحاب الأجندات الخاصة الداخلية والخارجية من أجل الارتزاق الوطني والاستثمار في دكاكين الغسيل السياسي والمدني، كما هو الحال في مفهوم غسل الأموال وكما هو لدى المرتزقة، وذلك لإعطاء الصفة الثورية عند تدوير عمل دكاكينهم بغض النظر عن تلبية المصلحة الوطنية، المهم أنها تحقق مصالح المرتزقة ومكتسباتهم لتصبح تلك المواقف بمثابة الاستثمار ولتصبح أعمال نظيفة تأخذ صبغة الوطنية والثورية.

والمرتزقة يجيدون تسلق القضايا وتربع المنصات والساحات، ويغسلوا تاريخهم المتقلب بلبوس الوطنية والثورية، كتجارة رابحة يحققون من خلالها المكاسب ومن أجل تسويق مشاريع جديدة تسحر بأدواتها جموع المواطنين والمغفلين.

طبقات الارتزاق الوطني، أنتجتها ممارسات المعارضة السياسية والقوى العسكرية، التي زادت من تعميق التشوهات في البُنى السياسية والاجتماعية، وهي طبقة مُصنعة، لم تنتج من الداخل وفق آليات التدرج الطبيعي والانتخاب الديمقراطي الحر. بل أنتجتها آليات التقريب ومعادلة الولاء والتابعية، من أجل كسب ولاءات الشعب المتضرر وثنيه عن المطالبة بأي حقوق فقدتها، وإيهامها بالمشاركة بالحكم والسلطة والثروة.

ويمكن توصيف الحالة بعملية اختطاف لقيادة الثورة والمجتمع، تكون أداتها الأساسية القوة والقهر، والاستعانة بأدوات رخيصة تُغْري البعض بالامتيازات والمناصب، ومن ثم تتم شرعنة هذا النمط من التعامل ليشمل كل القوى التي تحاول أن تتحصل على بعض حقوقها، لتسود حالة من الارتزاق الذي يتوسّع ليغطي مساحات واسعة من القطاعات المختلفة.

فيما تشتري القوى التي تسيدت الثورة الوقت والمماطلة والتسويف بالبيانات والخطب، مرتهنة لوظيفتها عند المجتمع الدولي، وكذلك أسيرة التصورات المسبقة عنها لدى الشعب، مطعونة بأمراض الارتزاق والوصولية والانتهازية، والتنافس بين أعضائها على أمل الحصول على المناصب أو أي امتيازات يمكن أن يمنحها السيد لعبيده. مما شكل واقعاً قائماً على تزييف الوعي، وتزييف التمثيل، والإدارة بأسلوب التنفيع والمخادعة وشراء الوقت، وانتظار ضربة حظ للحل السياسي قد تأتي من المجتمع الدولي، رغم أن الشعب الثائر والمهجر أصبح ظهره مستنداً إلى الحائط الأخير، والذي لم يعد يمنحه فرصة للاتكاء عليه.

في الماضي القريب والبعيد انتجت قضايا الشعوب والحروب أمراء حرب، قاسية قلوبهم من المعارك، ومملؤة جيوبهم من المال، ويتملّكهم شعور القوة والسلطة والحق في قطف ثمار انضمامهم لصفوف الشعب الذي ثار على النظام المستبد، سواء كان وجودهم بتلك القوى شكلياً أو حقيقياً، ويسعون لتبوّء مراكز القيادة، وقد يقررون في اللحظات الحرجة الانسحاب من المعركة حفاظاً على مكتسباتهم الشخصية ومنافعهم المالية، وعندما يعجزون عن قيادة بلادهم نحو الحرية والتحرر، ويفقدون قدرتهم على تدبير شؤونها، فإنهم يلجؤون إلى قمع الحريات والهروب إلى الأمام من أي حوار ونقد هادف، ويسقطون في شراك الارتزاق وفقدان المبادئ والقيم في أداء المهام الملقاة على عاتقهم كقيادات، لأن الارتزاق يُسقط صاحبه ليتحول إلى عميل لأي جهة تمنحه قليلاً من الدعم المالي كرشوة مقابل تنفيذ ما تمليه عليه تلك الجهة.

ذلك هو شأن فاغنريّو الوطنية الذي يعيشون بين الحكم والتحكم والنرجسية والاستبداد، وبين الرغبة في امتلاك القوة والحصول على السلطة ومنافعها. ولكسب تأييد الشعب لهم، وإيهامهم أن الوطن حضن للجميع، والكل معني بالدفاع عنه، يجب عدم إضعاف الشعور الوطني وعدم نقد الفاغنريين الوطنيين من أجل سلامة الوطن الذي حولوه لدكانة لبيع الثروات البلدية وأشياء أخرى.

فالبلاد التي تحكمها سلطات الغنيمة والخَراج، يخرب عمرانها ويفقر عبادها، لأنها تؤدي إلى السلطة الحقيقية، ولا تنحصر السلطة في رأس الحكم بل في التشكيلات والهيئات على اختلاف مسمياتها، التي تسعى إلى امتلاك كل شيء في هذه البلاد وتجريف حاضرها ومستقبلها وبيع تاريخها.

إن منطق سلطة الغنيمة إذا ما استحكم في جماعة من الجماعات يفقدها القدرة على التفكير في الآخر المختلف معها، كما إن سلطة الغنيمة تسعى بكل طاقتها إلى امتلاك القوة والمال حتى يصبح من الصعب على عقلية هذه السلطة التصور بأن تكون يوماً ما خاضعة لسلطة شرعية. وكل فترة تحدث منافسات شرسة على الغنيمة بين زعامات تلك السلطة. والثورة التي في أحد مراحلها يقودها اللصوص وتجار الأزمات والحروب لا تُسقط الأنظمة بل تُسقط الشعوب!.

التعليقات (0)

    0

    الأكثر قراءة

    💡 أهم المواضيع

    ✨ أهم التصنيفات