تحطيم القيم الأخلاقية عبر الثورات المضادة والعنف

تحطيم القيم الأخلاقية عبر الثورات المضادة والعنف

غالباً ما تفقد القيم الأخلاقية في الثورات؛ نتيجة لجملة من الأسباب كالثورة المضادة، والعنف المُصاحب لها وغيرها من الأسباب، لكن أبرز المقاربات التي تُحيل لفقدان تلك المعايير، هي أن العنف يتحول لجزء من الحياة الاجتماعية وبشكل اعتيادي؛ نتيجة لتكرار مظاهر القتل والدماء والاختفاء القسري وشبكات الفساد والنهب المنظم، واغتصاب الجماعات المنفلتة، سلطات الأمر الواقع، الحق في إصدار القرارات والفتاوى المزاجية، والتي تؤثر مباشرة على حيوات ومستقبل المجتمعات المحلية. 

هذه المقاربة تعود إلى عقودٍ قديمة، إلى حيث الثورات والحروب والاضطرابات التي سادت في فترات سابقة وشملت دولاً ومناطق مختلفة، وهو ما دفع المفكرين والفلاسفة للبحث حول علاقة العنف بالطبيعة البشرية، كمفهوم مؤثر في صياغة نظرية السلوك الإنساني خاصة أثناء الأزمات، للأفراد و الجماعات. ووجدوا أن المكانة المركزية في هذا الإطار هي للعنف؛ لأنها تبرز أكثر أثناء الثورات والحروب، والتي تكبر دائرة العنف لتتحول الممارسة الفردية إلى فعل جماعي ضد جماعة أخرى؛ لأن الفرد وكما يرى "جون لوك" يميل لأهوائه ورغباته أكثر من كونه يسعى لقانون الطبيعة، وفي ظل غياب القانون والسلطة التي تنظم الحياة والنزاعات بين الأفراد أثناء الثورات- بسبب التدخلات وتأثير الثورات المضادة- فإن أهم ما تفتقده الطبيعة بحسب "لوك" هي الحكم المنظم الساعي إلى فض النزاعات، فتؤول في نهايتها إلى صراعات ودمار وقتل… وهو ما يعني انعدام أي قيمة أخلاقية، لدرجة أن العنف يتحول إلى حالة طبيعية، تشبه حالة استمرار الصيد، وجعل الصراع البشري وكأنه ناموس لصراع كلي. ليتحول القتل وفقدان القيم الأخلاقية قانوناً لضمان البقاء والاستمرار، وهو ما يعني شرعنة العنف والقتل وتمجيده بشكل سافر. 

ففي عام 1914 كتبت جريدة التايمز اللندنية في مقالها الافتتاحي: ليست هناك أمة متحضرة، على وجه الكرة الأرضية، ترضى بأن تقصف المدن المفتوحة بالقنابل من الجو ولم تمضِ عقود قليلة من الزمن حتى كانت العواصم التاريخية الكبرى لأوروبا، باريس وموسكو ولندن، تترنح تحت قصف القنابل، ثم لم تمض بضع عقود من الزمن حتى قضت قنابل ذرية تسقط من الطائرات على الحياة في هيروشيما وناكازاكي، ولم تمض عقود قليلة حتى قصفت حلبجة بالكيماوي، ثم قصف السوريين بكل أنواع القذائف والصواريخ، وقصف أهالي الغوطة وخان العسل في حلب بالكيماوي. لتكون الوصمة الأكثر وحشية على جبين الإنسانية، أن يحرق الإنسان بالكيماوي ويدفن مئات الآلاف أحياء تحت الأنقاض أو الاختناق بالغاز. وكأن التاريخ يعيد نفسه، دون أن تتغير توجهات مآسي هذا العالم. ترى هل قتل الآخر وتعذيبه خصلة متأصلة في الإنسان إلى الحد الذي لا يمكن استئصاله؟ هل هي صفة غريزية ثابتة فيه؟ وكل تلك الأحداث والجينوسايد، يُشكل أحد منابت العنف ضد مراكز "القتل العمد"، والذاكرة المُثقلة بالأوجاع.

الحرب والتوجه الإنساني


في الثورات والحروب الأهلية تتفجر عدوانية الإنسان وعنفه، نتيجة للتراكمات التاريخية والأدوار التي تلعبها الثورة المضادة، وتكون النتيجة زهق آلاف الأرواح البريئة بسبب كلمة مسطورة على هويته الشخصية تُحدد هويّته الفرعية، رُبما كان اسمه أو مكان ولادته، فتغدوا كفيلة بإنهاء حياته. ويظهر في السلوك العنصري أقسى وأقصى درجات إبادة الإنسان، وما العنصرية سوى خطاب أولاً وممارسة ثانياً، أو وحدة الخطاب العنفي مع الممارسة التدميرية. وليس نفي الآخر وقفاً على قتله جسدياً، إن القتل أعلى شكل من أشكال النفي الكثيرة، فلنتأمل بعض أشكال هذا النفي المنتشرة والمستمرة عبر التاريخ، سحق القوميات، منع التعبير، محاربة التعددية اللغوية والثقافية، تحجيم دور الحركات الدينية المعتدلة، تجهيل  وإفقار المجتمعات، خنق الحريات العامة والحياة السياسية، الاعتقال على الآراء المختلفة، هي مشابهة للقتل وإن بصور أخرى. فنفي الآخر هو في المحصلة عدوانية وانعدام للأخلاق ليس أقل درجة من القتل المباشر. وحين تنحرف الثورة عن مضمونها لن تنجح كل الجهود في لجم نزوع الإنسان لنفي الإنسان.


لذا تشتغل الأنظمة على إضعاف وسحق القيم الأخلاقية في الثورات، خاصة مع اعتماد أحد طرفي النزاع على القتل والتعذيب والتمثيل بالجثث، لدرجة أن كتب التاريخ تضم بين دفتيها حروباً لبني الإنسان وما خلفته من مآسٍ هي للخيال أقرب، وإذا علمنا أن ابن الثورة المعارضة لنظام الحكم أو المؤيد للنظام هم نتاجات ذلك التاريخ ونتاجات المناهج المدرسية التي تشرح وبإسهاب القتل والسرقة والاغتصاب والتعدي على الآخر ونفيه…..الخ حينها لماذا الاستغراب من انهيار منظومة القيم في الثورات؟ إن كانت ثورة الميديا هي إحدى وسائل تنمية المجتمعات الغربية، هي لدينا وسيلة اطلاع على تاريخ وارث التنكيل والقتل، لدرجة أن الشاشة الصغيرة في عصر ثورة الاتصالات تضعنا كل يوم أمام مشاهد ألفنا رؤيتها دون أن تثير فينا إحساساً بالضحية، وبخاصة إذا كانت المشاهد لا تعنينا مباشرة، لكنها تغرس في داخلنا نمطية القتل على أنها حالة طبيعية، وتالياً نحن صنيعة لسياسات مُمنهجة مسخت عقولنا، وصنعت في ذواتنا الاستعداد لأول فرصة سانحة لإخراج نتائج تلك السياسات، وهو ما يعني أن الشعوب الثائرة، كان يُمهد و"يُطبخ" لها العنف على نارٍ هادئة دون أن تعي ذلك.


أثر الموروث الديني في صناعة قيم الثورات


للفكر الديني أثر بالغ الأهمية في نشر أخلاقيات إيجابية أو سيئة في حالات الأزمات والثورة والاضطرابات، خاصة من جهة الرغبة في السيطرة وبسط النفوذ على حيثيات الحدث. وهو ناتج عن وعي النخبة الدينية بفقدان هيبتهم وماضيهم، وضرورة استعادة السيطرة وإعادة الأمجاد بغض النظر عن مشروعية رغبات السيطرة على الثورة ورغبتهم عدم فصل الدين عن الدولة وربط السلطة بالدين.


وكثيراً ما ارتبط مفهوم العنف في الثورات بالبعد الديني، لدرجة اعتبار العنف خاصية أساسية من خصائص الإسلام السياسي، واستدلوا على ذلك بمسلك جماعات الإسلام السياسي في مصر وسوريا في السبعينيات، وفي إيران حتى بعد الوصول للسلطة، ثم في الجزائر وأفغانستان في التسعينيات، وفي لبنان حتّى راهن الحال، لدرجة تحول مفهوم الجهاد وممارساتها من الخارج إلى الداخل، والواقع أن السلوك العنيف المرادف للثورات، ضد أنظمة استبدادية إنما يبنى على أساس تفسير معين أو خاص ونفعي لآيات أو توجهات دينية، خاصة وأن الجهاد المتحول باتجاه الداخل أصبح هو نفسه جزءاً مهم من الصراع الطبقي وحرب الشعب الطويلة الأمد. ورافقه انتفاء حالة التفكير خلال ممارسة أقصى درجات العنف ضد الأنظمة الاستبدادية المغذية أصلاً لهذا السلوك، وهو ما حصل في معظم بلدان الربيع العربي.

التأثير في الجيل اللاحق

يُشكل انتشار قيمة ومفهوم السادية في الثورات كواحدة من أهم ركائز انهيار تلك الثورات. إن "ساد" الذي اشتقت من اسمه اللذة في تعذيب الآخر، قد بين في قصصه جانباً من المتعة التي يشعر بها المُعذِب. وأشار "فرويد" إلى وجود غريزة للتدمير عند بني البشر إلى جانب غريزة الحب. وقيل قديماً إن الظلم من شيم النفوس. لذا فانتشار ظواهر القتل والتعذيب والإذلال والانتقام والجرائم الفردية. و تراجع القيم الأخلاقية عن الثورات، بسبب الثورات المضادة وآلة الضخ الإعلامي لتشويه المتظاهرين والثورات، كل ذلك غذى الممارسات التي تضر وتفتك بالمجتمعات. كما إن الموروث القائم على التفسيرات والتحليلات الخاطئة وطبيعة الحياة البشرية والاجتماعية والأسرية في الفترات التي تسبق الحِراك الشعبي، ونقل طبيعة تلك الحياة إلى الأجيال اللاحقة عبر المناهج المدرسية أو الأعلام أو الأفلام، خلقت وزرعت أيديولوجيا مخفية داخل كل فرد تابع هذه المناهج والسياسات التلقينية، هي أيديولوجيا القتل أي التبرير الأيديولوجي لفعل القتل – قتل الآخر.


علماً أن "الأيديولوجيا الثورية" تقسم القيم إلى قسمين ظاهر وخفي، الظاهر هو الأهداف المعلنة، والخفي هو الأهداف الحقيقية. وبالتالي نحن أمام أيديولوجيتين معاً، واحدة تضفي على محاولات السيطرة على الثورات دلالات أخلاقية وعقلانية وحقانية وهي الأيديولوجية العلنية، والأخرى هي  "أيديولوجية الحرب" في الثورات وهي الشكل الفاقع لأيديولوجيا القتل. 

وتالياً، لا غرابة في استمرار تعرضنا للموت واعتيادية مشاهدة صور الجثث ومنظر الأشلاء، وبل أن حيواتنا أصبحت مُتخمة بحوادث العنف والحرب والخراب، وأبرز عناوين التداول اليومي هي أخبار القتل والقسوة والخطف والعنف والقمع، وروايات الإرهاب والانتحاريين، وتعي جيداً غالبية الأنظمة في البلاد العربية أن العنف قضية فريدة تشغل العالم كله، وأن السياسات الراهنة تتقاطع بشكل رهيب مع تلك السياسات التي أفضت لكل هذا العنف، وهي المستفيدة بالمحصلة من كل ذلك العنف.

التعليقات (0)

    0

    الأكثر قراءة

    💡 أهم المواضيع

    ✨ أهم التصنيفات