دراما السياسة خلف الكواليس الرمضانية

دراما السياسة خلف الكواليس الرمضانية

"السباق الرمضاني" مصطلح ليس بجديد على الإنتاج الفني سنوياً؛ ففي كل عام تطرح شركات الإنتاج على طول خريطة الوطن الكبير محصولها من المسلسلات التي تتعدد مواضيعها وتتعدد معها طرق معالجة هذه المواضيع؛ فمن المسلسلات الاجتماعية إلى الدينية والتاريخية وليس انتهاءاً بالكوميدية، ولعل الغايات كانت لا تتعدى المنفعة الربحية لشركات الإنتاج مع فروقات بسيطة بين شركة وأُخرى.

في الأعوام الأخيرة بدأ يظهر نوع جديد من المواضيع التي أصبحت أساسية في كل إنتاج سنوي، نوع أرادته السلطة وأدمنه الشارع، تمثَّل بنمطين اثنين: الأول اتجه نحو الأعمال البوليسية والجريمة، والثاني توجه نحو السياسة، وبعض الأعمال دمجت بين النمطين فكانت ضربة معلم لتلك الشركات التي سبقت غيرها إلى هذا الدمج.

كل تلك الأعمال خضعت لرقابة السلطة المطلقة، ونستطيع أن نقول بكل ثقة إنها بوابة الحكم للتغيير الناعم من خلال تمرير الرسائل التي تريد تمريرها إلى العامة؛ يعني أننا نستطيع تسمية هذه العملية بـ (القوة الناعمة)، ولعل رسالة الفن عموماً لا تتعدى إطار هذه التسمية، لأنها قوة تستطيع التأثير في المجتمع وإحداث التغيير المطلوب فيه دون الصدام الساخن الذي يلاقي غالباً مقاومة ولو كانت فكرية.

الرقابة على الأعمال الدرامية والفنية كانت في يد السلطة كما أسلفنا، وكانت الرقابة نفسها تخضع لرقابة أكثر صرامة، وكأنها عملية فلترة للفلترة؛ وهذا ما يفسر إيقاف بعض الأعمال الدرامية بعض عرض جزء منها وربما بعد عرض أغلب حلقاتها، وعقب كل فلترة لابد من مساءلة أمنية – ولا أقول قانونية – لصناع هذا العمل أو ذاك، تقصر أو تطول بحسب مساحة التجاوز التي مضى فيها صناع العمل.

في الدول التي تتمتع بهامش فعلي من الديمقراطية نجد أعمالاً متقابلة؛ بمعنى أننا نجد عملاً للسلطة يقابله عمل للمعارضة يتناول كل واحد منهما قضية ما من وجهة نظره الخاصة ويقدمها بطريقته الخاصة لإيصال رسائله السياسية التي يريدها إلى الشارع بنعومة، حتى لو كانت هذه الأعمال تاريخية تتناول مرحلة محددة من تاريخ بلد أو أمة أو حتى حزب سياسي أو حركة فكرية معينة، فيجد المشاهد نفسه أمام فسحة من العقلانية في محاكمته للأفكار التي تطرحها تلك الأعمال في سوق النقد الجماهيري.

 أما في واقعنا العربي أحادي الطرف، إذ لا وجود فعلياً لمعارضة حقيقية سوى ما خلقته السلطة نفسها وفق مفهوم (المعارضة المقبولة) لإيهام المجتمع بوجودها؛ فإننا نجد وجهة نظر واحدة تمجيداً للسلطة وتشويهاً لخصومها، ولأن بعض الخصوم أصبحوا مشتركين بين بعض الدول بدأنا نشهد أعمالاً درامية عربية مشتركة يتم التسويق لها على أنها شكل من أشكال الوحدة التي يحلم بها الشارع العربي ولو بشكل جزئي، وكأننا لا ننشد الوحدة إلى من خلال ممثلة لبنانية وآخر سوري، أو ممثلة سورية وآخر خليجي.

الملفت في هذا السلاح السلطوي القديم المتجدد المتمثل بالدراما هو ظهور نمط جديد من الطرح السياسي الدرامي، نمط لا نستطيع وصفه سوى بـ (الوقح) يتمثل في تقديم وعرض الفساد السلطوي من خلال بعض نماذج الفساد المتنفذّة في كل منظومة حكم بحجة أن هذا الفساد فردي ويوجد ما يقابله من النماذج الشريفة داخل كل سلطة، لكن هذه النماذج لا تستطيع إصلاح الفساد لكثرته أو لضعفها ومحدودية صلاحياتها داخل منظومة الحكم، وكأن الرسالة المقصودة من مثل هذا التعاطي مفادها أن السلطة تعترف بفسادها لكنه فساد أفراد وليس فساد مؤسسة الحكم، دون وجود أدنى دور لهذه المؤسسة في مكافحة هذا الفساد والقضاء عليه، وكأنها غير مسؤولة بشكل مباشر عن تعيين هذا الفاسد الفرد في مكانه من منظومة السلطة والحكم؛ هذه الوقاحة قبلها الشارع بمثابة العقار المسكن للألم أو المخدر الذي يحتاجه ليقبل بالواقع المرير الذي لا يملك خياراً إزاءه إلا القبول به، ثم أدمنه وبدأ ينتظره في كل عمل حتى لو كان تاريخياً أو كوميدياً أو اجتماعياً؛ بدأ ينتظر إبرة التخدير في كل عمل درامي ليُقنع نفسه بواقعه المفروض ويقبل به. 

المشكلة الحقيقية في هذه القوة الناعمة ليس التخدير الممارس على الشارع، بل التشويه المقصود والممنهج الذي بدأ الجميع ينتهجه، تشويه تاريخي وديني وفكري، وتجاوزات أخلاقية من خلال تعويم نماذج لم تكن مقبولة في مجتمعاتنا وتقديمها بصورة البطولة رغم عدم إنكار ما تقوم به من أعمال منافية للمجتمع، مثل جعل المهرب وتاجر السلاح بطلاً اجتماعياً دون نفي صفة التهريب عنه، وتقديم الخيانة الزوجية على أنها ردة فعل طبيعية على سوء المعاملة أو الإهمال مثلاً، وتقديم العلاقة بين المرأة والرجل دون زواج على أنها حالة حضارية وحرية شخصية، وغيرها من الأمثلة الكثيرة؛ ليس هذا فحسب، بل إن أعمالاً درامية حديثة ذهبت إلى أبعد من ذلك لتتحدث بكذب تاريخي صريح عن وجود دول لم تكن موجودة لأعراق لم يكتب التاريخ على عمقه عن وجودهم كدولة مستقلة في يوم من الأيام، ويتم تحديد جغرافيا تلك الدولة – بحسب رأي صناع العمل - لتطابق الحدود التي يطالب بها هذا العرق الآن على أنها حقه التاريخي، والبعض الآخر قام بتحريف تاريخ مرحلة كاملة بسبب عداوة سياسية بين بلدين.

في ظل كل ما سبق تهرب وربما لأول مرة، وتحديداً في الإنتاج الدرامي الرمضاني للسنة (2023 م)، تهرب ابتسامة لم ترق لمنظومات حكم كثيرة؛ ابتسامة كسرت كل حدود الرقابة، وتخطّت فلاترها، لتفضح إسقاطاتُها بشكل مباشر ما كانت تلك المنظومات تحاول إخفاءه أو اتهام أفراد به؛ تلك الإسقاطات لم تنطبق على منظومة حكم واحدة، بل شملت كامل منظومة التوريث السياسي سواء في حكم الدولة – وإن تحدثت عنه بشكل مباشر – أو في حكم الحزب، أو حتى في حكم ما دون ذلك، ربما تكون هذه الابتسامة الجنرالية بداية صريحة وصارخة لمرحلة جديدة من الإنتاج الدارمي الذي يفتح النور على إنتاج الظل التابع لمنظومات الحكم والذي سيطر لعقود على جميع الأعمال الدرامية؛ أقول ربما ولكن بشرطين اثنين: أن يستمر عرض العمل حتى نهايته، وأن يسلم الممثلون الذين قاموا بتجسيد الشخصيات من المساءلات الأمنية أو القتل. 

التعليقات (5)

    سوسن جو

    ·منذ سنة 4 أسابيع
    تحليل جميل وعقلاني لم نعتد عليه في مقالات اورينت

    جابر

    ·منذ سنة 4 أسابيع
    بتلبقلك ابتساة الجنرال هههه

    ابتسم يا خرى

    ·منذ سنة 4 أسابيع
    العمى طلعتو يا اورينت عملاء لتلفزيون سوريا

    شہٰہٰادوو الہٰحہٰمصہٰيٰ

    ·منذ سنة 4 أسابيع
    بصراحه كلام رائع التمثيل يمثل لصيغه تحاك لرسائل مشفرة لزرع فكر في ادمغت لبعض المقال جميل جدا

    روح الساروت

    ·منذ سنة 3 أسابيع
    ابتسامة كسرت كل حدود الرقابة هههههههه ولكن لم تكسر صناديق البويا في رؤسكم مهرولون لحضن الوطن الحار
5

الأكثر قراءة

💡 أهم المواضيع

✨ أهم التصنيفات