برحيل الفنان السوري ذياب مشهور، تفقد الأغنية الشعبية السورية واحداً من أعلامها المميّزين، الذين ملؤوا الساحة الغنائية السورية بأغانيهم الشعبية التي راجت وانتشرت في سبعينات القرن العشرين، وخصوصاً بعد مشاركة ذياب مشهور في المسلسل الكوميدي الشهير (صح النوم) الذي أُنتج في جزأين عامي (1972-1973) ثم أتبعه صُنّاعه بسهرة تمثيلية من جزأين بعنوان (ملح وسكّر) التي صُوّرت في استوديوهات عمّان في خريف عام 1973.
مطرب السجون والمعتقلات
في مسلسل (صح النوم) الذي كتبه نهاد قلعي، وأخرجه خلدون المالح، ولعب بطولته نخبة من الفنانين الذين كرسهم هذا المسلسل نجوماً للكوميديا السورية، غنّى ذياب مشهور أغانيه ذات اللون التراثي الفراتي ووصفه نهاد قلعي في تقديمه له بأنه (مطرب السجون والمعتقلات.. وعندليب القواويش والمنفردات) نظراً لأنه كان أحد نزلاء "القاووش" الذي طالما جمعه مع أبطال العمل: دريد لحام وناجي جبر، ثم مع نهاد قلعي في (ملح وسكر).
في إحدى حواراته الإذاعية الأخيرة وصف ذياب مشهور أغانيه بالقول: "أغنيتي التي غنيتها، أغنية شعبية فراتية بسيطة، واضحة الكلام وواضحة الملامح.. فالطفل الصغير الذي غنّى (يا بورديّن) و(عالمايا) هذا هو النجاح وهذه القمة التي أريدها، واستمر الأطفال وحتى كبروا وإلى الآن يغنّونها.. أين تجد مثل هذا النجاح؟".
طفولة الفقر والجوع
وُلد ذياب مشهور في بلدة (الموحسن) في محافظة دير الزور عام 1946 وعاش طفولة فقيرة معذّبة وصفها بالقول: “طفولتي كانت مُرة.. مُرة.. حفيان عريان.. وجِعت.. ونمت بالحدائق العامة. والدي كان إنساناً بسيطاً ومتديناً وهو من أفقر الناس”.
كان والد ذياب مشهور هو معلمه الأول، فقد كان ذا صوت عذب جميل، وكان يغني مع أصدقائه على الربابة.. وعندما كان يطلب منه ذياب أن يعلمه بعض أبيات العتابا التي حفظها كان يقول له: "هذه العتابة تجيب الفقر لا تغنّيها. اسألني أنا".
بدأ ذياب مشهور في الأعراس في بلدة الموحسن، وفي النوادي الفنية التي كانت في محافظته، ولأنه كان أمياً لا يقرأ ولا يكتب (تعلم القراءة في دمشق لاحقاً) فقد اعتمد على قدرته السمعية في الحفظ، وتلقّى أصول تعليمه الموسيقي على يد الموسيقي الكفيف (يوسف جاسم) الذي أُعجب بصوته وإحساسه عندما عثر عليه في منطقته وعلّمه المقامات الشرقية وفنون الأداء؛ وفي عام 1969 قصد دمشق ليقدّم فنه الغنائي فيها، لكنه لم يوفق في ذلك.. وعاش ثلاث سنوات من الفقر المدقع الذي قال عنه:
"بقيت ثلاث سنوات في دمشق آكل (خبز حاف)، وأروح ع المطاعم وأقول لهم اعطيني خبز حاف للخروف، وكان هذا الخروف أنا".
“صح النوم”.. والانطلاق نحو عالم الشهرة
جاءت فرصته الأهم في مسلسل (صح النوم) و(ملح وسكر) وقد أعاد الملحن المتميز عبد الفتاح سكر الذي كان أستاذ الأغنية الشعبية الدارجة ومطوّر ألحانها، توزيع اللحن التراثي (يابو رديّن) و(عالمايا) فأعطاه هذا التوزيع الرشيق الملهم مساحة للإبداع، وتدفق أداء ذياب مشهور الشعبي بصوت العذب الحنون، المسكون ببحة حزن وشجن وبهجة.. فكانت رافعة النجاح التي انطلقت بذياب مشهور، نجماً في برامج المنوعات التلفزيونية والحفلات الجماهيرية في سبعينات وثمانينات القرن العشرين.. قبل أن يلحّن له ملحنون آخرون كزكي محمد وسهيل عرفة وأمين الخياط.. وقد اعتُمد كمطرب في إذاعة دمشق في سبعينات القرن العشرين، لكن تعثُّر الإنتاج الغنائي لهذه الإذاعة العريقة في زمن حكم البعث والأسد، ودخول الواسطات الأمنية بقوة في عالم الفن والإعلام، حرمه من أن يأخذ فرصته الأفضل... وفي عام 1990 أصدرت شركة النظائر في الكويت، ألبوماً يضم أشهر أغانيه الغنائية.
نمنم خانم قلبي نار
رحل ذياب مشهور قبل أن يُتوفّى في الرابع والعشرين من أيلول/ سبتمبر الجاري.. رحل عن عالم الفن قبل ذلك بعقود، حين انهارت تقاليد الأغنية السورية في عهد البعث، ودخلت الأصوات النشاز، والمطربون المدعمون من ضباط المخابرات، وحين تم تسويق ألوان غنائية تراثية على حساب أخرى.. ولم يكن تكريم وزارة ثقافة نظام أسد له عام 2019 مع مجموعة من الشخصيات، سوى إعلان تأبين وقح لزمن لم يعد فيه مكان للمايا ولبورديّن.. ولا لنمنم خانم قلبنا التي غنى لها في أغنيته الشهيرة: (ميلي عليّ ميلي.. يا ام الزنار النيلي.. يا نمنم خانم قلبي نار)!
التعليقات (4)