كتب أرخت للثورة- 5: "تدمير وطن" لنيكولاس فاندام: ديكتاتورية الأسد وفساده صنعا الانفجار الكبير!

كتب أرخت للثورة- 5: "تدمير وطن" لنيكولاس فاندام: ديكتاتورية الأسد وفساده صنعا الانفجار الكبير!

بقصّة عن كرم ولطف الشعب السوري يبدأ نيكولاس فان دام التوطئة لكتابه "تدمير وطن: الحرب الأهلية في سوريا" فيتحدّث عن أوّل زيارة له إلى سوريا في 1964، ويصف السوريين على مرّ زياراته المتكرّرة باللطفاء الودودين المتسامحين الذين يحملون إرثاً مشرّفاً عن حضارات غنيّة، ويتحدّث عن جمال سوريا الطبيعية وجمال مدنها وقلاعها وأسواقها، وحتّى عن وقع اللهجة السورية المتناغم. 
قدّم "نيكولاس فان دام" في كتابه هذا عملاً تأريخياً مهمّاً عن أهمّ الأحداث التي مرّت على سوريا منذ 1963 وحتّى 2018، فبدأ كتابه بتقديم عرض وافٍ عن تاريخ البعث قبل الثورة السورية، حتّى اندلاعها في 2011، وكان التساؤل المنطقي الذي لم يحاول الكثيرون مناقشته وأثاره "فان دام" في كتابه: هل كان يمكن تجنّب الحرب في سوريا؟.

تكدس سنوات القمع!

أتى الكتاب في خمسة فصول، حول تاريخ البعث والعسكر منذ انقلاب آذار 1963، وهل كان يمكن تفادي الصراع؟، وكيف اشتعلت الثورة السلمية ثمّ كيف اندلع الصراع المسلّح بين النظام والمعارضة، ثمّ يتحدّث الكتاب عن النهج الغربي المتناقض في التعامل مع الأزمة السورية، وعن المحادثات التي جرت بين أطرافها والتي لم تفضِ إلى أيّة حلول.

 
"نيكولاس فان دام" من مواليد 1945 مستشرق هولندي يتقن اللغة العربية، حاصل على دكتوراه في الآداب من جامعة "أمستردام" عن كتابه "الصراع على السلطة في سوريا، الطائفية والإقليمية والعشائرية في السياسة"، عمل "فان دام" في عدّة سفارات هولندية في البلدان العربية، في لبنان والأردن ومصر، وقائماً للأعمال في السفارة الهولندية في ليبيا، وسفيراً لبلاده في العراق، ولذلك فإنّه من أكثر الكتّاب والسياسيين الغربيين المطّلعين على الشؤون العربية والشرق أوسطية والذين زاروا سوريا كثيراً، ثمّ أصبح في 2016-2017 المبعوث الهولندي الخاصّ بسوريا، لذلك يأتي هذا الكتاب "تدمير وطن" في سياق معرفي واضح من الكاتب، بسبب هذه السيرة المهنية الحافلة على المستويين العربي والسوري. 


سوريا هذه لن تعود إلى ما قبل 2010، يقول الكاتب، ويرى أنّ سبب اندلاع الثورة أخيراً، هو تكدّس كلّ هذه السنوات من القمع والاستغلال والفساد والتخريب، حتّى حانت الفرصة للتغيير، ولقد أدّت الديكتاتورية غير المستعدّة للإصلاح إلى الانفجار أخيراً. 


حمّل "فان دام" النظام السوري مسؤولية ما حدث، حتّى إنّه كان ملمّاً بالأرقام شبه الرسمية التي تحدّثت عن خمسمئة ألف قتيل بحلول 2017، وعن ملايين من المهجّرين واللاجئين والمشرّدين داخل سوريا وخارجها، واعتبر أنّ الحرب التي اندلعت بعد المظاهرات السلمية التي دامت أكثر من المتوقّع كما يقول، كانت حرباً حتميةً سبّبها النظام وهو من أشعل أتونها، وبسبب هذه الرؤية الموضوعية والمعلومات التاريخية المطابقة لمعظم الحقائق إلى حدّ كبير، ولأنّه لم يهدف إلى سرد المعلومات والأحداث فحسب، بل هدف إلى تحليلها أيضاً، وإلى الإجابة عن أسئلة كثيرة وتقديم رؤية لآفاق النزاع، لذلك كان اختيار هذا الكتاب. 


تاريخ البعث 

أوفى الكتّاب السوريون والعرب والغربيون الذين بحثوا في شؤون السياسة والتاريخ السوري المعاصر الحديث عن ذلك (أي عن تاريخ البعث)، خاصّةً الذين بحثوا في تاريخ الحياة السياسية السورية منذ انقلاب آذار 1963، والسبب الأساس بالطبع توضيح كيف أدّت تراكمات الاستئثار بالسلطة والقمع والفساد عبر عقود ثمّ توريث هذه السلطة قسراً دون أيّ اعتبار للديمقراطية أو للنظام الجمهوري إلى اندلاع الثورة السورية، ولا يخرج "فان دام" في هذا الفصل من كتابه عن هذا السياق، وهو مهمّ أيضاً بل جدّاً لإفهام القارئ الغربي خصوصاً أو غير المطّلع عموماً ما هي الطبيعة السياسية التي حكمت سوريا خلال تلك العقود، وبالفعل فإنّ "فان دام" يقدّم لهذا الفصل من الكتاب قائلاً: يحاول هذا الفصل الإجابة عن التساؤل: حول كيفية انزلاق سوريا إلى حرب دموية بصبغة طائفية سنة 2011، بعد خمسين سنة من ديكتاتورية البعث. 


هنا لا يمكن المرور دون تعليق على استخدام مصطلح "حرب طائفية" عند الحديث عن الثورة السورية، إلّا إن كنّا نقول بوضوح ودون مواربة أنّها بالفعل كانت حرباً طائفية لكن من طرف واحد، طرف النظام بالطبع، فهو الذي جرّ جيشه وأجهزته الأمنية إلى التفكير بهذه الطريقة، وهو الذي استخدم الميليشيات الشيعية الطائفية لقتل السوريين "العرب السنّة" الذين شكّلوا بالفعل السواد الأعظم من السوريين الذين انتفضوا في وجهه، لكنّهم لم يكونوا الوحيدين، ولم تكن لهم أيّة مطالبات طائفية وحتّى الآن، إنّما النظام بمحتواه التسلّطي القمعي وفساده وبنيته الطائفية كانت هي أسباب اندلاع الثورة. 


يقسّم "فان دام" تاريخ سوريا المعاصر بعد الاستقلال إلى مراحل، من خلال نقاط تحوّل عاشها السوريون في 1946 سنة الاستقلال، ثمّ 1963 انقلاب العسكر البعثيين، 1970 انقلاب حافظ أسد، 1976-1982 الصراع مع الإخوان المسلمين، وحتّى 2011 عام اندلاع الثورة السورية، والملاحظ أنّه لم يعدّ سنة 2000 التي ورث فيها بشّار الحكم نقطة تحوّل في الحياة السورية، والحقيقة صحيح، فلقد استمرّ كلّ شيء تقريباً كما هو على صعيد السياسة والسلطة والفساد والقمع، ولم يتنفّس أحد من السوريين الصعداء حتّى قامت ثورتهم. 


يستعرض الكاتب في هذا الفصل تاريخ سوريا السياسي الداخلي منذ انقضاض البعثيين العسكريين على السلطة، ويشير بوضوح إلى سيطرة "العلويين" وفسادهم، ويتحدّث كيف تمّت تصفية الخصوم في الجيش ثمّ استبدال ضبّاطه من غير العلويين بضبّاط علويين لاستثمار القرابة وضمان الولاء، ثمّ كيف سيطر محمّد عمران وصلاح جديد وحافظ أسد على مقاليد السلطة، ثمّ يبدأ الحديث عن الفترة التالية حين انقضّ أعضاء اللجنة العسكرية على بعضهم في انقلاب 1966، حتّى تشكّل نظام جديد على غرار "ملوك الطوائف" في الأندلس، أصبح فيه كلّ قائد عسكري يضع يده على جزء من أجهزة الدولة، يتصرّف فيه كما يشاء، وكأنّه مشاع خاصّ. 


أصبح التمييز ضدّ "السنّة" ممنهجاً واضحاً، من خلال عدم قبول أكثر المتقدّمين إلى الكلّيات العسكرية ومراكز التأهيل العسكري الأخرى في سوريا، بل أصبحت بعض القطع كاللواء 70 بقيادة محمّد عمران يتكوّن من جماعة طائفية بعينها أي من العلويين، كما أصبح من بقي من الضبّاط القادة السنّة لا يتمتّعون حتّى بهامش قرار. 


يشير الكاتب كيف اتّهم جديد وأسد عمران بالطائفية لطرده من اللجنة العسكرية، مع أن الجميع كانوا يتسابقون للاتّكال على أبناء طائفتهم في الجيش وفي حزب البعث، لكنّ عمران صرّح بطائفيته وقال: يجب أن تأخذ الفاطمية دورها (يقصد العلويين والدروز والإسماعيليين)، في مواجهة الخصوم (يقصد أمين الحافظ)، فكان استخدام عمران للطائفية كسلاح تكتيكي مُعلن، هو ما أودى به. 


بعد انقلاب 1966 وإزاحة الحافظ وعمران بدأ حافظ أسد وصلاح جديد بإبعاد الضبّاط غير الموثوقين وأغلبهم من السنّة، وتمّ توزيع المناصب على شركاء الانقلاب أو الموالين، ثمّ جرت محاولة سليم حاطوم الانقلابية الفاشلة، حاطوم الذي برّر حركته هذه بأنّ الأوضاع في سوريا ذاهبة إلى حرب أهلية نتيجة تنمية الروح الطائفية والعشائرية في البعث والجيش، بفعل صلاح جديد وحافظ أسد. 


ينتقل هذا الفصل من الكتاب للحديث عن صراع هذين الأخيرين على السلطة بعد تصفية خصومهما، وكيف انتهى الأمر أخيراً إلى حافظ أسد، الذي منذ استيلائه على السلطة تماماً لم يقبل بأي شكل أن يفكّر أحد مجرّد تفكير بانفتاح نظامه وخروجه من ديكتاتورية الحزب الواحد إلى تعدّد الآراء والتنظيمات السياسية المستقلّة والصحافة الحرّة، كما نصحه "صلاح الدين البيطار" سنة 1978، الشيء نفسه الذي رفضه الابن الوريث منذ تولّيه السلطة وحتّى اندلاع الثورة، ففضّل الحلّ القمعي على تقديم أيّة إصلاحات أو تنفيذ مطالب السوريين في الحرّية والديمقراطية. 


يسهب هذا الفصل في الحديث عن عهد أسد الأب منذ تولّيه رئاسة الجمهورية العربية السورية سنة 1971، الولاءات الطائفية، الفساد، التنكيل بالمعارضة السياسية، قمع الحرّيات، كما ويتحدّث عن بعض الاحتجاجات المتفرّقة التي قامت في بدايات عهده، ثمّ عن حركة الإخوان المسلمين منذ 1976، وكيف استفاد من "طائفية" الإخوان المسلمين لقمع حركتهم بكلّ شراسة وإن كان على حساب عشرات آلاف السوريين الأبرياء، خاصّةً في حلب وحماة وجسر الشغور، ويشير "فان دام" إلى هذا قائلاً: إذا كانت مجازر حماة هي المؤشّر السابق، فهذا يعني أنّ ما فعله بعد 2011 كان متوقّعاً!. 


ثمّ يتحدّث عن محاولة أخيه رفعت الانقلابية، وعن موت ابنه باسل، وحتّى وصول بشّار أسد إلى السلطة بالتوريث سنة 2000، ويخلص أخيراً إلى أنّ الطائفية والإقليمية والعشائرية كانت عوامل رئيسية في الصراع على السلطة في سوريا، لكنّ العوامل الاقتصادية والاجتماعية والعقائدية كانت مهمّةً أيضاً، ويقول في نهاية هذا الفصل أنّ مشاعر "الانتقام" في أوساط الناس الذين تعرّضوا لقمع النظام الشديد الذي سيطر عليه العلويون طوال عقود، قد انفجرت إلى العلن بعد ثلاثين سنة من مجازر حماة، في آذار 2011، ولنا تعليق هنا على استعمال كلمة "انتقام"، فالأمر لم يكن كذلك، إلّا إذا كان المقصود بالترجمة "قصاص"، فإنّ السوريين من حقّهم المطالبة بالقصاص من كلّ مجرم قتلهم ونكّل بهم وهذه "عدالة" وليس انتقاماً. 


هل كان من الممكن تجنّب الحرب السورية؟

السؤال الذي يطرحه "نيكولاس فان دام" هنا هو: هل كان بالإمكان تجنّب الحرب السورية فعلاً؟، فيعتبر أنّ الجواب هو لا، لم يكن يمكن تجنّبها أو تفاديها، لكن كان بالإمكان توقّعها!، الحرب التي يعتبرها حرباً أهليةً بالوكالة، إذ لم يكن متوقّعاً أبداً أن يتخلّى النظام الغاشم عن سلطته بسبب خروج المظاهرات السلمية، ولا أن يتخلّى عنها نتيجة الحرب التي شجّع أطرافها في مواجهته دول إقليمية كتركيا وقطر والسعودية، أو غربية كالولايات المتّحدة وبريطانيا وفرنسا، ويضيف "فان دام" مفسّراً: إنّ الذين لم يتوقّعوا هذا السفك الرهيب للدماء إمّا لا يعرفون ما يكفي عن التاريخ السوري، أو أنّهم يعانون من جرعة مفرطة من التمنّي، أو الاثنين معاً!، فما كان متوقّعاً بالضبط هو أن يستخدم النظام كلّ الوسائل الممكنة مهما كانت بشعة للبقاء في السلطة، وأنّ أسد بتخلّيه عن السلطة بعد كلّ الجرائم والفظاعات التي ارتكبت سيوقّع بنفسه على قرار إعدامه، وأنّ الحلول السياسية التي طرحتها الدول الغربية والتي تهدف إلى تغيير النظام مستحيلة التنفيذ بلا أدوات ووسائل عسكرية كافية أو تدخّل عسكري مباشر لا أحد مستعدّ للقيام به، والدول التي شجّعت المعارضة فدعمتها عسكرياً بشكل غير كافٍ، هي في الحقيقة قد قادتها إلى فخّ قاتل. 


أيضاً لو نفّذ بشّار أسد الإصلاحات التي جرت المطالبة بها في بداية الثورة أو منذ تولّيه السلطة، هل كانت ستقوم الثورة؟، الجواب نعم ستقوم، فبالنظر إلى مساوئ النظام وسلوكه طوال نصف قرن بالنظر إلى المراحل السابقة لم يكن تجنّب قيامها واندلاع الحرب، وحتّى عند الحديث عن فرضية العودة للوراء بالسؤال المطروق: هل سيعود السوريون إلى الثورة لو عادوا إلى ما قبل 2011 فإنّ جواب "فان دام" هو نعم سيعودون، فلا خيار أمامهم حين يجدون نظاماً يقول للجميع: سأبقى في السلطة إلى الأبد، ما يعني حرباً دائمةً على المستقبل!. 


يعتبر "فان دام" النظام مسؤولاً عن العمليات العسكرية الوحشية التي أدّت إلى تدمير سوريا، ويذكر مقولةً لأحد الفنّانين الهولنديين الذي كان يرسم سوريا قبل الحرب وبعدها: تحصّن الثوّار في حلب طلباً للحماية من المدفعية الثقيلة للجيش السوري، فمن هو إذاً المذنب المسؤول عن تدميرها؟. 


ومع ذلك يعود الكاتب إلى وصف الحرب السورية بأنّها حرب عبثية لا طائل منها ويقول إنّها لم تكن خيار كلّ السوريين، وهنا تساؤل: إذا لم يمكن تفادي الثورة فقد قامت لأسباب وجيهة، وبقيت سلميةً لمدّة طويلة، والنظام هو من قام بإشعال أتون الحرب وارتكاب الفظائع والويلات، ولا حلّ عسكرياً ممكناً، والنظام لا يقبل الحلول السياسية، والمجتمع الدولي لا يتدخّل، والدول العربية غير معنية، فكيف يمكن إيقاف هذه الحرب العبثية؟، لم يبق إلّا جواب واحد، ولا أعتقد أنّه الجواب المقصود!.


يجري "فان دام" في هذا الفصل تحليلاً شاملاً لما جرى في سوريا منذ بداية الثورة، ويبدو أنّه ملمّ جدّاً بالتفاصيل، بل بالتفاصيل الدقيقة والحوادث المدعومة والمؤرّخة، كما يجيب على أسئلة أخرى حول التدخّل العسكري المباشر أو الدعم العسكري لفصائل الثورة ويعتبره سبباً في تشجيع المعارضة على عدم التراجع، كما يتحدّث هذا الفصل عن المفاوضات سواء ما جرى بين المعارضة السورية والنظام في جنيف وسوتشي وأستانا وغيرها، أو ما جرى بينها وبين إيران بواسطة قطر حول اتّفاقية المدن الأربعة.

 
كيف اندلع النزاع المسلّح بين النظام والمعارضة؟ 


كان استمرار الاستعمال غير المتكافئ لقوّة البطش والعنف الدموي دافعاً لتصبح عمليات الاحتجاج أكثر عدائية، وفي الحقيقة هذا لم يحدث سوى بعد ستّة شهور من اندلاع الثورة باعتراف "فان دام" نفسه، ولقد كان من حقّ السوريين الدفاع عن أنفسهم، فبدأت بعد شهور قليلة حركة انشقاق الضبّاط والعسكريين في الجيش والشرطة وغيرها من الأجهزة. 


أصدر أسد بعد أسبوعين فقط من اندلاع الثورة عفواً رئاسياً أطلق بموجبه سراح 260 سجيناً من سجن صيدنايا، وكان تكتيكاً من النظام للتلاعب على معارضيه، عبر إطلاق سراح سجناء يمكن توصيفهم بثقة بأنّهم جهاديون أو متطرّفون، ليلتحقوا بصفوف المعارضة، فلقد أراد اللعب بورقة الإرهاب والعصابات المسلّحة منذ البداية، وتخويف المجتمع الدولي والتشويش على الثورة السورية، وبالفعل.. فمنذ نيسان 2011 شرع النظام يصف الانتفاضة بأنّها إسلامية متطرّفة، وقالت وزارته للداخلية: إنّ بعض هذه الجماعات دعت إلى تمرّد مسلّح تحت شعار الجهاد لبناء دولة سلفية، وما فعلوه جريمة شنعاء يعاقب عليها القانون، وهدفهم هو نشر الإرهاب في سوريا. 


يؤكّد "فان دام" على دور الإعلام في تأجيج السخط العام، بعدما بدأ السوريون والعالم يشاهدون مشاهد القتل والتعذيب والقصف والتنكيل، ما أدّى إلى تأجيج عنف مضادّ أشعل أخيراً الحرب الكارثية في سوريا، وأنّه قد وُجد مندسّون من النظام ومن بعض الإسلاميين لإشعال فتيل العنف في بعض المظاهرات السلمية. 


بعد ذلك بدأ الدعم العسكري السعودي والقطري والدعم التركي للمعارضة، بسبب فشل هذه الدول في جهود المصالحة المبذولة، وكان أثر ذلك على تحفيز القتال في سوريا الأثر الأكبر لتحوّل كلّ شيء إلى حرب حقيقية رغم عدم تكافؤ الطرفين، اللذين أصبحا أطرافاً خلال أشهر قليلة، بعد دخول إيران وحزب الله وميليشيات شيعية أخرى الحرب، وتشكّل الجيش الحرّ بفصائله المختلفة المتفرّقة، ثمّ "داعش" و"جبهة النصرة" وغيرها من التنظيمات الإسلامية المتطرّفة. 


يكمل "فان دام" حديثه عن جميع التشكيلات العسكرية والظروف التي أوجدتها، وعن الدعم السعودي الذي كان جيّداً في البداية، وعن الدعم الأمريكي الذي كان مشروطاً، وعن دور تركيا اللوجيستي الكبير بسبب حدودها الطويلة مع الشمال السوري الذي خرج بسرعة عن سيطرة النظام وما زال معظمه كذلك حتّى الآن، ويعتبر أنّ نقص الدعم الغربي للمعارضة المسلّحة المعتدلة كان أهمّ أسباب سيطرة الفصائل الإسلامية المتشدّدة على ما بقي من المناطق الخارجة عن سيطرة النظام. 


وبالنتيجة يخلص إلى أنّ أهمّ سبب لاندلاع الحرب في سوريا كان عنف النظام الدموي، ثمّ استعانة الطرفين بقوى خارجية تدخّلت بشكل مباشر أو غير مباشر، ما أجّج الحرب وأخرجها تماماً عن السيطرة. 


التناقض الغربي في التعامل مع الثورة السورية 

في البداية، يقول "نيكولاس فان دام": لقد تعامل القادة الغربيون مع القضية السورية بمنطق الأخلاق والديمقراطية، واعتبروا زوال أسد هو الحلّ الطبيعي للحلّ، واستخفّوا بقوّة النظام وكان تفاؤلهم بسقوطه في غير محلّه، فيعتبر أنّ "التفكير البراغماتي" كان مناسباً لتقديم حلول فيما يتعلّق بمستقبل "الأزمة السورية"، والسبب أنّ الكثير منهم اعتبروا غير ذلك مخاطرةً ستؤدّي إلى بقاء أسد فترةً أطول، وسيتَّهمون بتأييده أو على الأقلّ بالسماح ببقائه، ما يعارض القيم الديمقراطية التي ينادون بتطبيقها أمام شعوبهم، ومن جانب آخر لم يكونوا يريدون (أي هؤلاء القادة الغربيون) كما يتابع "فان دام" في مصافّ من ينتقد الثورات السلمية التي تُنادي بالحرّية والديمقراطية أمام الشعوب التي قامت بهذه الثورات الشجاعة. 


بالمقابل لم تكن لدى الدول الغربية عموماً أيّة تصوّرات واضحة ودقيقة لما بعد أسد، وربّما أرادوا إقامة نظام ديمقراطي في سوريا، لكنّهم اعتقدوا أنّ الإطاحة بالنظام القائم على نحو عنيف، لن يؤدّي إلى إقامة نظام ديمقراطي سلمي، وبالمجمل.. إنّ معظم القرارات التي اتّخذها العرب بشأن القضية السورية كانت متأخّرة متردّدة ومحدودة جدّاً، ولم يواكب صانعوها الأحداث الجارية في الداخل السوري التي باتت مختلفةً تماماً عن "الشعارات الصحيحة" سياسياً، خاصّةً بعد وصول "النصرة" وأشباهها إلى التمدّد والسيطرة.  


أيضاً فإنّ إغلاق دول الغرب لسفاراتها في دمشق كرسالة إدانة للنظام، أدّى إلى عزله دبلوماسياً وسياسياً ما جعل عملية التواصل من أجل إيجاد قنوات حلول سياسية صعبةً للغاية، وكان من الممكن -كما يرى الكاتب- أن تحلّ الكثير من القضايا قبل أن يتفاقم النزاع في ذلك الوقت بالذات، لكنّ هذه الدول أيضاً وجدت في التجربة السعودية والتركية ومحاولات الجامعة العربية لإيجاد حلول، تجربة عقيمة باءت بالفشل الذريع، بسبب تعنّت النظام وإصراره على البقاء، وبالنتيجة وفي ظلّ اجتماع عاملين: عدم تلقّي المعارضة للدعم العسكري الكافي ولو بالحدّ الأدنى، وعدم قبول القيام بتدخّل عسكري مباشر، حُكِم على الثورة السورية بالفشل، خاصّةً مع حصول النظام على كلّ أشكال الدعم العسكري من إيران ثمّ روسيا وتدخّلهم المباشر لصالحه من أجل قمع الثورة، ومع أنّه قد يبدو منطقياً كلام "فان دام" في هذه النقطة، لأنّه مع دعم عسكري شبه معدوم ووسائل محدودة وعزيمة واهية -كما يقول- فلن يمكن تحقيق سوى أهداف محدودة، ويُشير أيضاً كيف أسهم سياسيون عرب وغربيون في استمرار هذه الحرب الضروس في سوريا من خلال الحفاظ على وجهات نظر حول العدالة مناسبة أخلاقياً وسياسياً، لكنّهم لم يقدّموا في سبيل ذلك أيّ مقدّرات لازمة لتحقيقها. وهنا ينبغي الردّ على "فان دام" حول توصيفه للثورة بالفشل، بالقول: إنّها لم تنتهِ بعد، فلا الأسباب التي قامت بفعلها انتهت، ولا النظام انتهى، ولا أهلها انقرضوا، والثورات محكومة بانتهاء إحدى هذه المكوّنات على الأقلّ، كي تندحر تماماً أو لا تشتعل من جديد. 


يعتبر "فان دام" في هذا الفصل من كتابه أنّ موقفاً غربياً براغماتياً في التعامل مع أسد، كان ربّما سيفضي إلى إيجاد حلّ ما، وفي هذا تناقض غير مفهوم، فكيف ستُجدي المواقف البراغماتية مع نظام دوغماتي عنيف ودموي لا يجد حلّاً سوى ببقائه، مع أنّ الثورة محقّة وضرورية ولا يمكن الاستغناء عنها من أجل تغيير النظام؟. 


ينتهي هذا الفصل بالحديث عن المواقف الغربية التي تقوّضت تماماً بعد استخدام النظام للأسلحة الكيماوية في الغوطة وفي خان شيخون على نطاق واسع، وعن المواقف المريبة التي اتّخذت بشأن تسليح المعارضة السورية، وعن التردّد الخطير في معرفة الجهات التي ينبغي تزويدها بالسلاح، وكيف وفي كلّ الأحوال لم تحظى المعارضة المعتدلة السياسية منها والعسكرية سوى بالوعود والمؤتمرات، وبمزيد من التسويف والفرجة والاقتراحات، دون أيّة إجراءات عملية. 


محادثات سورية، لكن.. لا مفاوضات

يُنهي "نيكولاس فان دام" كتابه "تدمير سوريا بالحديث عن المسار التفاوضي العقيم الذي جرى بين المعارضة والنظام في جنيف وسوتشي وأستانا وكذلك فيينا والرياض والقاهرة، وعن قرارات مجلس الجامعة العربية ومجلس الأمن الدولي ومجموعة الدعم من أجل سوريا، ويفنّد كلّاً منها تفنيداً، فيشرح ظروفها وأسبابها ويحدّد أطرافها وتمثيلهم والدول الداعمة والمنظّمات الدولية الراعية، وما آلت إليه من مقترحات ومقرّرات ونتائج في كلّ مرّة، وما أفرزته من نصوص وتصريحات وبيانات. 


يرى المؤلّف أنّ التفاوض هو الخيار الأفضل أمام المعارضة والنظام، لكنّه يدرك تماماً أنّ أسد سيبقى غير جادّ فيها طالما ستفضي إلى مشاركته بالسلطة، وأنّ رفع شعار "الأسد أو نحرق البلد" قد جرى تنفيذه بالفعل، ولم يعد بالإمكان بعد ذلك إيجاد تسوية للقضية السورية، وصار الصراع بالنسبة للنظام والمجموعات المعارضة على اختلافها مسألة موت أو حياة، والنظام بالتأكيد ليس مستعدّاً للمساومة على رحيله أو سقوطه أو نهايته، لذلك لا يمكن كسر هذه الإرادة سوى بهزيمته عسكرياً، وفي المقابل يرى أنّ تسليح المعارضة لن يأتي بالنتيجة المطلوبة، ويرى أخيراً أنّ الخيارات المستقبلية للقضية السورية تنحصر في: 
- استمرار الحرب طويلاً، واستمرار القتل والتدمير. 
- انتصار النظام واستمرار القمع. 
- انتصار المعارضة مع احتمال تأسيس ديكتاتورية إسلامية. 
- التقسيم بشكل مؤقّت أو دائم إلى مناطق تحكمها مجموعات استبدادية متفاوتة. 
- التسوية السياسية، وهي الأفضل في جميع الأحوال. 
يؤكّد "فان دام" في نهاية كتابه أيضاً على ضرورة تحقيق "العدالة الانتقالية"، وعدم الإطاحة بالمؤسّسات، وإعادة هيكلة الأجهزة والقوى الأمنية، ويختم بالقول: لا بدّ من المضيّ قُدُماً بالجهود الساعية إلى الحلّ السياسي، فلا تطرق العجائب إلّا أبواب المؤمنين بها!



صدر الكتاب "تدمير وطن، الحرب الأهلية في سوريا" عن دار جنى تامر للدراسات والنشر" في بيروت- لبنان، سنة 2018)، وقد اعترف فاندام بتلقيه الكثير من الانتقادات لوصف الثورة السورية في عنوان الكتاب بالحرب الأهلية.

التعليقات (0)

    0

    الأكثر قراءة

    💡 أهم المواضيع

    ✨ أهم التصنيفات