كتب أرّخت للثورة-3 (ساعة الذئب) لعيسى الصيادي: الثورة في يوميات جندي منشق

كتب أرّخت للثورة-3 (ساعة الذئب) لعيسى الصيادي: الثورة في يوميات جندي منشق

تتابع أورينت نت البحث عن صورة الثورة السورية في المكتبة العربية، من خلال سلسلتها الاحتفالية (كتب أرّخت للثورة) فلا ثورة بلا كتاب يوثق للتاريخ وللأجيال القادمة العوامل والمقدمات والوقائع والمآلات، وأي درب سلكه السوريون من أجل ثورتهم. في الحلقة الثالثة من هذه السلسلة قراءة في كتاب (ساعة الذئب) لعيسى الصيادي. (أورينت نت).


"أدوِّن عبارات مقتضبة، ربما للشبح الذي سأكونه فيما بعد وأربط العبارات بالصور الشيئية أمامي"، بهذه العبارة يبدأ عيسى الصيادي مسكوكاته قبل أن يتعاظم الخراب من حوله وفي ذاته معاً، هذه الشهادة لعسكري قرر أن يكون شاهداً حيّاً وهو يخدم في صفوف الجيش إذ سيق للخدمة قبيل اندلاع الثورة بأشهر؛ ليتحول هذا السَوق الإجباري إلى جحيم، صهر كل معاني الآدمية في ذات الكاتب...
توثيق ليوميات وأحداث جرت حينذاك، بلغة شعرية كثيفة توحي بأن كاتبها يرزح في سجن ويود فقط الصراخ في وجه سجّانه، أو كما قالها الكاتب:
“ما يرغمني على الكتابة، كما يتهيأ لي؛ هو الخوف من أن يفسد العقل، عليّ تجميده وأن أبقيه بارداً في أشد الأوقات العصيبة حرارة، كي لا يفسد بعيد اقتلاعه من جذوره!”
تدوين يومياته خفف من هذا الانكسار الذي صار يعيشه في كل لحظة؛ لكن افتضاح أمر هذه اليوميات كان يمكن أن يسوقه إلى الموت؛ ما جعله يكتب عن تجربته حرصاً على إبقائها خفيّةً وبعيدةً عن الأعين المخبرين.  وعند الاطلاع عليها نجد أنه قام بالكتابة من دون وعيٍ كافٍ لها، لا على مستوى الشكل والقالب، ولا الجنس الأدبي، ولا حتى الغاية من تدوينها، لا وجود للآخر فيها، ولم يكن يفكر في إطارات لتسييرها إلى دور النشر، ولا حتى التفكير في أن أحداً ما سيقرؤها، كان الكاتب يتنفس الحرية من خلالها فقط.


ما يميز يوميات ساعة الذئب هما أمران:


الأول: هو أدبية اللغة المكتوبة بها، فنحن لسنا أمام لغة تقريرية تسجيلية كما تعودنا في اليوميات التي وصلتنا سابقاً، بل توقيعات صاخبة باللغة الشعرية والتأملية، جمع فيها الكاتب بين الواقع الدامي وتشظياته مع حفر في عمق اللغة لنكون أمام مشاهد بكر في تصوير الألم والانهيار، نلاحق تدفق الأهوال والخراب من خلال هذه اللغة، السرد الروائي فيها كان بسيطاً على حساب تكوين التشكيلات التأملية التي صارت توحي لنا بعظم الفاجعة التي يعيشيها الكاتب؛ ابتداءً بسحبه موجوداً إلى الخدمة، مروراً باعتقاله في سجن "البالوني"، ومن ثم خدمته في نظام الدفاع الجوي أوسا، انتهاءً باجتياح الجيش لمدينته وموت العديد من أقاربه وأصدقائه جراء هذا الاجتياح المتكرر، في ساعة الذئب نمرّ على هذه الأحداث دون أن يشعرنا الكاتب بسرديتها؛ بل من خلال تكوينات اللغة التصويرية المتدفقة وهذا ما يحسب للكتاب.  

 الثاني: الذي يميز هذا الكتاب فهو أهميته كشهادة، إذ إننا نجد لأول مرة شهادة قادمة من الضفة الثانية؛ ومن قلب الحدث؛ لتكمل شهادة الضحية؛ ونتعرف على الجزء المنقصوص من السردية؛ فعيسى على الرغم أنه لم يشارك بعمليات جيش أسد القتالية لكنه كان يراقب ما يحصل حوله؛ فيكتبه ويضعه في هذا المسكوك الذي كان يخفيه داخل ماسورة المياه الصدئة، الكاتب يصف هذه اللحظات بالكتابة تحت الضغط العالي، وهنا ندخل معه لعبة التورط في معرفة ما سيحدث دون الاهتمام بمعرفة مصير الكاتب نفسه.
من هنا نلاحظ أن الكتابة في هذه الظروف لم تعد هدفاً للتوثيق بالنسبة للكاتب بل من أجل الكتابة بحد ذاتها؛ ما يجعل فعل الكتابة ينفلت من يدي الكاتب ويتم التداخل الأجناسي في هذا الكتاب، واللغة الشعرية والوصف السّردي والحكمة المتجذّرة.


على ما يبدو فعل التفجع والانهيار الخارجي انعكس على ذات الكاتب فوفر له شرط التأمل، والمراجعة المتكررة لما يُستحضر، في المسكوكات وهذا ما يبدو جلياً في أول مسكوك، يقول "في زاوية مرحاض السجن القذرة، عند طرف بابه الأيسر لوحةٌ تشكيليّةٌ من الصدأ، كأنّها أمّ ترخي أطفالها الثلاثة من جبّتها، وتنظر لزاوية المشبك الحديديّ لكوّة السجن العالية، ينسدل شالها خلفها تدفعه الريح، مع بعضٍ من أوراق وأحذية صغيرة، تطوف حولها.." لم يمنحنا الكاتب متعة التلصص إلى تفاصيل سردياته بقدر ما جعلنا نعيش أوجاعها؛ هل المكان الذي ولدت فيه هذه المسكوكات قولبت هذه الشخصية؛ وجعلتها مرتابة قلقة تتقوقع على نفسها إلى هذا الحد من التفجع؛ يقول " تحمل أدوات تثقلُ كاهلك، كأنها الجمر المشتعل، تتناقلها الأكفُّ كيما تحتر،! لا سكون ولا استكانة، كل شيء يستحثّك على الصراخ والانبطاح، "تنكَّبْ... سلاحك... حياتك... " "هيِّئ مماتك" وأنت ترتقي لتصعد سيبة المجد التليد... والبوط العسكري في خلوته، يمثّل نموذجاً فرديّاً حيّاً في اتّباع سبيل الخلاص".


إن كتابة المسكوكات بأسلوب المخاطب أعطت للكاتب مساحة كبيرة للتعبير وطاقة انفعالية لم تُعنَ بتسلسل الأحداث بقدر ما عنيت بنقل الحالة وهوامش التشظي الذي تسلل إلى النفس فيقول "أنت تغبط كل ما تراه، لديك رغبة في قذفها بعيدًا خارج حدود المكان، ثيابي المتسخة بهموم الشرف العسكري، والذّباب الصغير الذي يقرصك بكل وقاحة بطبيعته البدائية، أحمل ما تراءى لي من عين خروف"


هذا التوتر والتصعيد يقوده في كثير من الأحيان إلى السرد البسيط كما ذكرنا، لكي يبقى لنا رابط التوثيق اليومي ويجمع بين التوثيق واللغة الوعرية البكر يقول "نتدرّب على رفع الجاهزيّة؛ يقف قائد مركز العمليات يصدح عبر الميكرفون: "جرذان..." نقوم بالانتشار على المساتر الترابية وبين الحفر القمعية، أعاين العناصر بالخوذ وهي تسقط في الحفر القمعية، نحن مسامير العرش المنغرسة بين مفاصله..." الصيادي هنا يقوم بإنشاء فضائه الخاص، من خلال قوة اللغة، وبنيانها الصلب، فيتحول بذاته إلى سلطة قادرة على نهش القارئ غير المعني به كما أوحى لنا منذ بداية المسكوكات.


في قرابة 300 صفحة نعيش مع الصيادي هواجس وتغرباً في أدبٍ صافٍ غير خاضع لشروط الكتابة؛ فيهبك الكاتب به إحساس المتوحش البرّي. في قالب المسكوك الذي أخذ يعري بها منظومة القهر والفساد في سوريا على مدار عقود. قد يكون كتاب (ساعة الذئب) أول تجربة تغطي لنا حقيقة ما كان يجري في الحرب من داخل الجيش؛ وتعكس هذه الحقيقة بتوجسٍ واعٍ وانكشافٍ كامل بلا أقنعة؛ من لسان عسكري يعيش حالة الانفصام لكن ما أتوقعه لن تكون الأخيرة.

التعليقات (0)

    0

    الأكثر قراءة

    💡 أهم المواضيع

    ✨ أهم التصنيفات