في استعصاء الصراع السوري

في استعصاء الصراع السوري
أدى طغيان التدخلات والمداخلات الدولية والإقليمية في الصراع السوري، إلى ضمور أو إلى تآكل طابعه المحلي، بفاعلياته ومحركاته واستهدافاته الداخلية، ,ولا سيما مع ضعف المعارضة، وارتهانها للأطراف الخارجية، مع علمنا أن تلك المداخلات أضعفت قدرة السوريين على توليد معارضة حية وفاعلة وتحظى بالإجماع، بدليل الفجوة بين السوريين والمعارضة الرسمية، وغياب كيان سياسي وطني جامع يمثلهم ويعبّر عنهم ويدير كفاحهم.

ما تقدّم يفسّر حال الاستعصاء في الصراع السوري، الذي أضحى مختزلاً في ثلاثة جوانب، الأول، يتعلق باعتباره قضية إنسانية، أي قضية لاجئين، وقضية إعادة إعمار، بعد أن تمت إزاحة أو شطب المعنى السياسي لمرحلة سياسية انتقالية. والثاني، يتعلق بكيفية إعادة تعويم نظام الأسد، إن باعتباره سلطة أمر واقع، أو باعتباره صاحب "الشرعية". والثالث، يتعلق بالتسليم بواقع النفوذ الخارجي، السياسي والعسكري والاقتصادي فيه.

لا شكّ أن هذا المسار مؤلم ومحبط، وينم عن تنكّر لقضية السوريين، التي جوهرها التخلص من نظام الاستبداد والفساد، واستعادة حقوقهم، كمواطنين أحرار متساوين، ولا سيما بعد كل تلك التضحيات والمعاناة والأهوال التي عاشها الشعب السوري في الأعوام العشرة الماضية، كما إنه ينمّ عن تسليم المجتمع الدولي بغياب سوريا كدولة ذات سيادة، وتحولها إلى منطقة تتقسم جغرافيتها بين عديد من الأطراف الدولية والإقليمية (الولايات المتحدة وروسيا وإيران وتركيا وإسرائيل). 

هنا ينبغي الحديث بصراحة وأمانة ومسؤولية عن مسؤولية المعارضة الرسمية السائدة (المدنية والعسكرية) عن هذا المآل، إذ بعد عشرة أعوام على اندلاع الثورة، أو الانتفاضة، ما زال الشعب السوري يفتقد لطبقة سياسية متماسكة، تحظى بإجماعه وباحترامه. هذا أولاً. ثانياً، لقد نجح النظام بإخراج غالبية السوريين من معادلات الصراع، بفرض الحصار على بعضهم وتشريد بعضهم الآخر، وإشغال قسم كبير منهم بتدبُّر عيشه في ظل فقدان مصادر الدخل والبيت والأمن، وهو الأمر الذي لم تُولِه المعارضة الاهتمام المناسب، لأنها على ما يبدو لم تدرك مخاطره منذ السنوات الأولى. ثالثاً، لم تعد المسألة تتعلق فقط بثورة في مواجهة نظام، إذ باتت تتعلق أكثر بالصراعات الدولية والإقليمية والعربية على سوريا، الأمر الذي لم يتمّ الانتباه إليه، وإدراك مفاعيله، للتقليل من مضارّه أو لتغيير مساره. رابعاً، لم تعد القضية السورية بيد السوريين، إذ باتت بيد الفاعلين الخارجيين، الدوليين والإقليميين والعرب، بحيث باتت المسألة تتطلب إيجاد حد أدنى من تماسك السوريين لفرض ذاتهم في هذه المعادلة الصعبة والمعقدة.

وفي الواقع فإن مشكلة السوريين تكمن في افتقادهم لطبقة سياسية قادرة على إدراك مغزى وتبعات التحولات الحاصلة في الثورة والمجتمع السوريين، وطريقة عمل النظام، وأغراض القوى الخارجية الفاعلة في المشهد السوري، للحد من تأثيراتها، أو لتفويت استهدافاتها، ولتفحص تبعات النقلات غير الطبيعية للثورة السورية، ودرجة استعداد شعبها لها، ومدى ملاءمتها مع الإمكانات، وجدواها.

ومثلاً، فمنذ إدخال النظام للجيش، بعد الشبيحة، لوأد الحراك الشعبي، تحت شعار: «الأسد أو نحرق البلد»، لم تتفحّص المعارضة كنه هذا الشعار، وتبعاته على مجتمع السوريين. بل استخدمته فقط في إطار فضح النظام، من دون تمثّل كيفية الحؤول دون تمكينه من تدمير البلد، وتمزيق المجتمع، وتخريب البيئات الشعبية الحاضنة، وتشريد سكانها، وتالياً تحويل الثورة إلى كارثة أو خراب عميم. في ذلك الحين كان الأمر يتطلب استراتيجية عمل مختلفة، وأشكال مختلفة من الصراع، تتجنب إقحام الجيش، أو القصف المدفعي والصاروخي والبراميل المتفجرة، والخروج من فكرة الثورة الناجزة، أو بالضربة القاضية، التي ثبت أن الوضع ليس مهيأً لها. ومعلوم أنه في تلك اللحظة، أو النقلة الثورية كان السوريون انتقلوا إلى حالة جديدة، فقد كُسر حاجز الخوف، وكُسرت فكرة «سوريا الأسد إلى الأبد»، وفقد النظام هيبته.

المغزى أن الأمر هنا لا ينحصر بالسؤال عن جدوى العمل المسلح، وإنما عن جدوى التحول نحوه من دون نضج بُنى الثورة، أو تطور مساراتها، ومن دون توافر إمكاناته، ما أدى إلى الوقوع في شراك الاعتماد على هذه الدولة أو تلك، وجعل الحراك السوري مرتهناً لأجندة مختلفة، وأخضع العمل العسكري، بمستوياته وجغرافيته، لسياسات الدول الداعمة، أكثر من خضوعه لمصالح السوريين. 

هذا يشمل السؤال عن جدوى التسرّع في التركيز على نهج معين من العمل العسكري، يتمثل في السيطرة على مدن أو مناطق، من دون توافر الأدوات التنظيمية، ومن دون حيازة وسائل الدفاع عنها، أو تأمين مستلزمات سكانها، الأمر الذي أفاد النظام بالتخلص من الاحتكاك مع البيئات الشعبية المعادية له، وفرض الحصار عليها، وتحويلها إلى حقل رماية لمدفعيته وبراميله المتفجرة. علماً أن المناطق «المحررة» تلك باتت تخضع لإدارات عسكرية، تفرض سلطتها وتصوراتها على الناس بالقوة، بل إنها لم تتحمل النشطاء الذين حملوا الثورة في البدايات، بحيث أنها لم تبدُ كمناطق محرّرة حقاً، وتالياً فهي لم تستطع أن تقدم ذاتها كنموذج أفضل في مواجهة النظام، وهذه كارثة أو خيبة أمل أخرى للسوريين.

أيضا، فإن المعارضة لم تنتبه إلى أن التحول نحو الخطاب الديني يأخذ البلد نحو الطائفية، وتمزيق مجتمع السوريين، ويؤدي الى ضرب صدقية الثورة، ويضر بشرعيتها، كثورة ضد الاستبداد، ويضعف قدرتها على توحيد السوريين، فضلاً عن أنه يخدم النظام، الذي حرص منذ البداية على الترويج إلى إنها ليست ثورة سياسية وإنما حرب أهلية طائفية ودينية.

المشكلة أن المعارضة السورية ما زالت قاصرة عن إدراك مغزى وتبعات تلك التحولات، ومتخلفة عن مواكبتها، ورافضة لإجراء أي مراجعة لمسيرتها، وهي مشغولة في لوم العالم أكثر مما هي مشغولة في بناء إطاراتها، ومشغولة بخلافاتها الداخلية أكثر مما هي مشغولة في مراكمة قوى شعبها، واستثمار طاقته في مواجهة النظام. وفي الغضون لعل الأجدى للمعارضة أن تدرك أن الصراعات السياسية لا تشتغل فقط وفقاً للحقيقة والعدالة، ولا بالتضحيات فقط، وإنما تشتغل وفق إدراكات مناسبة لمعطيات الصراع الدائر وأدواته وكيفية إدارته، والتمكن من استثماره، في مواءمة بين التضحيات والإنجازات. 

باختصار، ما زالت قضية الشعب السوري قضية عادلة ومشروعة، وما زال ثمة ضرورة مُلحّة لبناء كيان وطني جامع للسوريين، يستقطب معظم تياراتهم وفعالياتهم، وفق رؤية سياسية موحدة تنبني على الانتهاء من نظام الاستبداد، واستعادة سوريا موحدة كوطن لكل السوريين، كمواطنين أحرار ومتساوين ومستقلين، ومن دون أي تمييز، في إطار دستور يؤكد قيم الحرية والعدالة والمساواة والكرامة كقيمٍ عُليا، أو كقيم إجماع وطني.

التعليقات (1)

    هاني السوري

    ·منذ سنتين 6 أشهر
    بعض ماورد صحيح لكن لا بعتي غياب دور فاعل للخارج في إهمال الجيش الحر وتشجيع حاضنة النظام على الانشقاق لل تلاعبو بكل الأطراف من منع سقوط دمشق المحاضرة من منع مضادات الطيران... الحديث يطول????????
1

الأكثر قراءة

💡 أهم المواضيع

✨ أهم التصنيفات