من جديد.. جنوب سوريا يربّي عزلته!

من جديد.. جنوب سوريا يربّي عزلته!
ليلة العاشر من تموز/ يوليو 2020، استقبل الشيخ يحيى الحجار، قائد حركة رجال الكرامة شبابَ الحراك السلمي الذين أطلق سراحهم النظام السوري إثر اعتقالهم، ومن ثم اقتيادهم إلى دمشق، بعد عدّة تحركات احتجاجية شهدتها السويداء في حزيران/ يونيو من الصيف الماضي، وبذاك الاستقبال انزوت المحافظة المحايدة سياسياً منذ العام 2011 إلى مزيد من احتراف العزلة والصمت، وكأن إطلاق سراح المعتقلين الثمانية في حينها كان بوجهه الآخر اعتقالاً مدبّراً لأي صوت احتجاجي يزيل شبهة الموت عن طائفة من السوريين آثرت بعقلها الجمعي المكان الوسطيّ على خارطة السياسة السورية، وكأن النظام الذي منَّ على الشيخ الحجار بإعادة معتقلي الحراك إلى مضافته في قرية "شنّيرة" القريبة من الحدود الأردنيّة كلّفه ضمنياً بكمّ أفواه من يحنُّ إلى الغناء بغير معزوفات النظام المفضلة والأثيرة على قلبه.

كأن إطلاق سراح المعتقلين الثمانية في حينها كان بوجهه الآخر اعتقالاً مدبّراً لأي صوت احتجاجي يزيل شبهة الموت عن طائفة من السوريين آثرت بعقلها الجمعي المكان الوسطيّ على خارطة السياسة السورية

سلطةٌ تتفرج على عريّها

الآن تطفو القصة مجدداً، يستنطقها نزفُ مكونات الظرف السياسي الاقتصادي القائم، وتبخل الذاكرة الجمعيّة في استرجاعها كاملة، باعتبارها وجهاً مغايراً للركود المجتمعي المستدام، والنظام يكيل فشله إلى الباقين على قيد الحياة في الداخل، عبر سلسلة إجراءات اقتصادية غلافُها الخارجي تخفيفُ الإنفاق العام من خلال التمادي في رفع الدعم عن السلع والخدمات الأساسية، وعمقُها يقع في بؤرة مكابدة السلطة السورية لسنوات الحصار والعقوبات الاقتصادية والقطيعة العربية والدولية لها، إذ يتوهم النظام أن علاج عزلته السياسية والاقتصادية، وشفاؤه منها يقتضي مزيداً من التشبّع بآليات اقتصاد السوق الحر، ويتناسى أن هذا مرتبطٌ بمستوى دخول مناسب، وقوّة شرائية حقيقية لعملته المحليّة. لكن، وعلى الأرض هناك نقيض هذه الصورة، فالدخول بعد زيادتها الأخيرة بنسبة 50 في المئة للعاملين والموظفين في الدولة السورية تُبقي أصحابها تحت خط الفقر الأدنى، المحدد بدولار واحد في اليوم أي ما يعادل 96 ألف ليرة شهرياً. والقوة الشرائيّة لليرة السورية صارت في الحضيض منذ أواخر العام المنصرم..

كما وجد النظام في تصنيعه لنتائج الانتخابات الرئاسية نهاية الشهر الماضي فرصةً للتباهي بجديّة الرعاية الروسية والإيرانية لما هو قائمٌ على الأرض، بعد تخلّي السلطة عن امتيازات استثمارية حيوية كثيرة، أولمتها بالمجان للحليفين الأقوى لها، وها هي السلطة عينها تلقي بأزمتها السياسية الاقتصادية المتفصّدة على وجوه الناس، كأنما تصفعهم بلا حساب، جاعلةً من المناطق التي تسيطر عليها، وحلفاءها حقل تجريبٍ ممتع لوصفات شتى من الإذلال والإلغاء الإنساني، لم تسبقها سلطةٌ على تجريبها من قبل.      

تلقي السلطة بأزمتها السياسية الاقتصادية المتفصّدة على وجوه الناس، كأنما تصفعهم بلا حساب، جاعلةً من المناطق التي تسيطر عليها وحلفاءها، حقل تجريبٍ ممتع لوصفات شتى من الإذلال والإلغاء الإنساني!

لا أصواتَ عالية

 خلال الأسبوعين الماضيين تسابقت السلطة مع نفسها في سرعة تطويق حياة الناس بالعجز والخيبة، بادئةً برفع الدعم عن أسعار الأسمدة، ثم ألحقته برفع أسعار الدواء بنسب وصلت في بعض الأصناف إلى 50 في المئة، ثم رفع سعر البنزين بنسبة 50 في المئة أيضاً، والمازوت بنسبة 170 في المئة، والخبز بنسبة 100 في المئة، ومثله رفعت سعر الرز والسكر المدعومين إلى 100 في المئة، غير آبهة بأنها تستعرض في الوقت نفسه انهيارها الذي لا فكاك منه. 

وإزاء كل ذلك، لا يزال الناس منهمكين في صمتهم، يسوسهم انعدام وزنهم المعياري في حسابات السلطة، التي اعتقلت، وقتلت، ودمرت، وشرّدت السوريين لتظل في مكانها الذي تهيّأ لها بمجهودات القبضة الأمنية طيلة نصف قرن، أو أكثر.

في الجنوب، (حيث يقطن القسم الأكبر من دروز سوريا) كما في دمشق، والساحل. بدا الناس واجمين، عاجزين سوى عن الانتقاد، والتداوي به في أحاديثهم الممجوجة عن جور السلطة، والغلاء، والقهر، والجوع المتربص بمصائرهم المعلومة.

 وفي السويداء تطلُّ صورة كالحة، لا قوى سياسية حيّة قادرةٌ على صياغة رؤية لتحرك شعبي واسع تحت مسمّى "الجوع" أو سواه من مسميات انعدام سبل الحياة الآدمية بشروطها البسيطة والفطريّة، ولا مجتمع قادر على الانعتاق من لامبالاته المعهودة، فالمؤسسة الدينية الدرزية متمثلةً بـ"مشيخة العقل" لا تزال مواليةً للسلطة القائمة، وهي التي قد يُعوّل عليها في صياغة أي حراك شعبي، أكثر من الرهان على القوى السياسية القائمة - وهي متهالكة أصلاً - في العبور إلى الناس، وإعادة تأهيل وعيهم السياسي.

المؤسسة الدينية الدرزية متمثلةً بـ"مشيخة العقل" لا تزال مواليةً للسلطة القائمة، وهي التي قد يُعوّل عليها في صياغة أي حراك شعبي، أكثر من الرهان على القوى السياسية القائمة - وهي متهالكة أصلاً - في العبور إلى الناس، وإعادة تأهيل وعيهم السياسي.

عام باردٌ سياسياً مرَّ على السويداء، والنظام كلَّ يوم يدعّم أسباب خروج الناس عليه،  لكن انطفاء آخر تجليات الحراك السياسي قبل عام من الآن يبدو مدعاةً لجلب الخيبة إلى تفاصيل الحياة اليومية. فالقاطنون في مناطق السلطة ـ بمن فيهم الدروز – اعتادوا على  دحرجة مصيرهم أمامهم إلى الوجهة ذاتها، وزجّ غدهم بعلوم الغيب، فهم بذلك يعلنون إفلاسهم السياسي ويعنونه تماماً.

 ولعل الدروز أكثر من غيرهم استفادوا من متناقضات السنوات الماضية، فالقبضة الأمنية المتراخية في مناطق سكناهم، جعلتهم يتّكلون أكثر على تأمين مصادر دخل بصور غير شرعية كالخطف مقابل فدية، والسرقة، والتجارة بالمخدرات وصنوف السجائر المهرّبة، والدعارة بأشكالها المتنوعة، وبيع المسروقات بأسعار مهاودة، والانتماء إلى فصائل محلية مسلحة ذات صبغة دينية، أو أخرى ذات صبغة روسية أو إيرانية، وتحت مسميات مختلفة، ومن لم يهتدِ إلى ارتكاب أيّ من تلك الأعمال كان يتكل على حوالات خارجية تأتيه ليستر بها عورته قبل انكشافها، إذ يندر أن تجد بيتاً في السويداء إلا وقد خرج منه مغتربٌ أو مسافر أو لاجئ إلى أوروبا، وهؤلاء يمدّون ذويهم بمبالغَ شهرية مقبولة تعينهم على مواصلة مشوار "الصمود والتصدي" لجحافل "المؤامرة الكونية" التي فعلت ما فعلت، كما تخيّلها عقل النظام الدراميّ، وصدّقها مناصروه.

لعل الدروز أكثر من غيرهم استفادوا من متناقضات السنوات الماضية، فالقبضة الأمنية المتراخية في مناطق سكناهم، جعلتهم يتّكلون أكثر على تأمين مصادر دخل بصور غير شرعية كالخطف مقابل فدية، والسرقة، والتجارة بالمخدرات وصنوف السجائر المهرّبة، والدعارة بأشكالها المتنوعة، وبيع المسروقات بأسعار مهاودة، والانتماء إلى فصائل محلية مسلحة ذات صبغة دينية، أو أخرى ذات صبغة روسية أو إيرانية

العيد، مناسبةٌ مؤجلة

تتزاحم صنوف الحلويات، والألعاب النارية على الأرصفة الضيقة، وفي قلب السوق المركزي للمدينة. حركةٌ لا تهدأ من الصباح وحتى المساء، تعاين جيوب العابرين ونواياهم في ركوب موجة العيد، أم لا، وهو المناسبة الدينية الأكثر قداسة لدى الدروز. لكنهم يتجاهلون هذا العام اقترابه قدر الإمكان، وينتظرون وصول ما هو أدهى منه، أي موسمي المدارس، والمُؤن، فالأسعار الجديدة للسلع التي هطلت فوق رؤوسهم، جعلتهم يعتدلون في ترتيب أولويات إنفاقهم، وجعلت عيدهم يأتي خاليَ البهجة كما لم ينتظروه، فنظامهم عايدهم، كما عايد سواهم من السوريين في مناطق سيطرته بجرعة مركّزة من تبعات انهياره الاقتصادي المتوقع، فمن الذي يلقي لهم بطوق نجاة قبل غرقهم المحتوم؟! ربما لا أحد، فالكثيرُ من العاملين في الدولة السورية الذين يقطنون في قرًى بعيدة عن مركز المدينة باتوا يفكرون جدياً بالاستقالة من وظائفهم، وفي حال عدم قبول استقالة الفئة الأولى منهم، فإنهم سيتجهون إلى التغيّب أسبوعين متواصلين، فيصيرون بحكم المستقيلين، لأن تكلفة المواصلات الجديدة صارت تفوق ثلثي رواتبهم الجديدة أيضاً.

التعليقات (1)

    HOPE

    ·منذ سنتين 9 أشهر
    ليس فقط في السويداء. في كل الاراضي السوريه منطق تخوين من لا يوافق خطط السفاح واستبعاد كل مخالف له ان كان بالقتل او الاعتقال القسري او تهجيره خارج سوريا اصاب البلاد بحالة تصحر سياسي فلم يبق قيادات سياسيه او واجهات اجتماعيه قادره ان تجعل السوريين يلتفون حولها.فكل من بسوريا يجب ان يمجد السفاح والا.. الا ان سوريا ولاده بتشديد اللام وان غدا لناظره قريب.
1

الأكثر قراءة

💡 أهم المواضيع

✨ أهم التصنيفات