من انقلاب البعث إلى انقلاب حافظ الأسد: حكم "البوط - قراطية" الساحق

من انقلاب البعث إلى انقلاب حافظ الأسد: حكم "البوط - قراطية" الساحق
الانقلاب العسكري هو قيام مجموعة من ضباط الجيش بالاستيلاء على السلطة بالقوة، وفرض حكم سريع لا يقبل الشراكة حتى يتم حسم كل الأمور المتعلقة بتسلم السلطة من قبل الانقلابيين. هو حكم عسكري يطيح بأي جهة سيادية في الدولة كي تصير السيادة ملكهم وحدهم. حيث يضع رأس الانقلاب العسكري كل السلطات العسكرية والمدنية بين يديه ويدي أتباعه من الضباط أو المدنيين.

 ليس موضوعنا الانقلابات التي أتى بعدها حالة ديمقراطية. أو نظام ديمقراطي. بل موضوعنا هو ما أسميته في مقال سابق بعنوان" البوطقراطية البوطقراطية الجيش والسياسة في سوريا." نشر عام 2014 يمكن للقارئ الكريم العودة إليه. أي الانتقال من نجاح الانقلاب العسكري إلى "البوطقراطية"* حيث حاولت اشتقاق هذا المصطلح سوريا. الذي هو تعبير عن "البريتوريانية" Praetoriani" التي يعرفها دانيال هيدريك، أستاذ التاريخ والعلوم الاجتماعية في جامعة روزفلت: باعتبارها سياسة عسكرية داخلية، نموذجية في الدول الضعيفة، والتي لا تطمح أو تستطيع نخبتها العسكرية خوض معارك وحروب، ولكنها تضغط من أجل الحفاظ على نفوذها في النظام السياسي، وتراقب القرارات التي تمس مصالحها أو تدعم فصيل سياسي معين. على عكس السياسة العسكرية الخارجية التي تتميز بنزعة توسعية خالصة للدفاع عن مصالحها خارج الحدود الوطنية، وهي سياسة تنتهج في الدول العظمى والتحالفات الكبيرة. 

هذه "البريتوريانية" هي تدخل نسبي للجيش في السياسة والحكم. لكن في سوريا وجدت من المناسب استخدام مفهوم البوطقراطية، وهي تعني ببساطة سورية: استيلاء الجيش على السياسة بالكامل. إضافة إلى أنه جيش أسدي- طائفي لايزال هو المستولي على المجال العام بفعل قوته القمعية والإبادية. 

 علينا رؤية ما تمخض عنه انقلاب 16 تشرين الثاني 1970. ديكتاتور يحكم بالجيش والمخابرات، وهو القائد الأعلى لهذا الجيش وكل القوات المسلحة... وللجيش الكلمة العليا في بسط الديكتاتورية. باختصار إنه " حكم البوط" أو البسطار العسكري. 

السوريون عموما يستخدمون مفردة" البوط". حكم البوط هذا كان قطعيا على كافة المستويات كأي انقلاب عسكري في العالم. حيث يحتاج إلى شرعية خارجية أولا، هذا إجراء يقوم به أي انقلاب وهو الاتصال بالدول الفاعلة كي تبارك له أو تباركه كانقلاب! كما فعل السيسي في مصر مثلا. كمثال حي. يصير البوط هو سقف الحكم والحاكم. لا ثقافة ولا سياسة ولا اقتصاد ولا اجتماع خارج سقف هذا البوط. فما بالنا إذا كان بوطا أقلويا وطائفيا؟! حيث يغدو الحديث أن الانقلاب أي انقلاب هو نتاج مجتمعه مجرد بروباغندا لتحميل المجتمع مسؤولية الدولة الفاشلة التي تنتج عن أي انقلاب عسكري. 

عندما قام انقلاب البعث في آذار 1963 مثلا لم يكن هناك أكثر من 120 منتسبا لدى فرع البعث في دمشق، وأغلبهم من أبناء الأرياف. من هنا لابد لنا من رؤية مفصلية الشرعية الخارجية لأي انقلاب عسكري في الزمن الحديث والمعاصر. 

الجيش في سوريا منذ الاستقلال لا علاقة له بثقافة المجتمع، ولا يدرّس في كلياته ثقافة المجتمع السوري. بل يدرّس ثقافة هجينة ذات حضور سياسي كثيف. حضور سياسي يتبع لأيديولوجيات غربية. حتى علومه العسكرية يستقيها من الشرق والغرب. لا يوجد علوم عسكرية في ثقافة المجتمع السوري.

البوطقراطية أنتجت ديكتاتورا و ديكتاتور إعادة إنتاج ويصح العكس. ماذا كانت النتيجة على سوريا؟ كانت ما تعيشه سوريا من كارثة منذ أكثر من خمسين عاما. البوطقراطية قطيعة عنيفة مع ما سبقها. فرضت٠ ما أتى لاحقا بقوة عسكرها. 

من جهة أخرى لا بد من رؤية أن سوريا تأسيسا واستقلالا هي دولة مدولنة، خاضعة للتدويل من قبل القوى المسيطرة في العالم. لهذا جيشها نشأ مدولنا وبقي على هذه الحال. 

من الطرافة أن بعض السوريين يتهجمون على الناصرية بوصفها نظاما انقلابيا عمم على سوريا، علما أن العكس هو الصحيح، عبد الناصر تعلم من الجيش السوري الذي أسست فرنسا دروسه في الانقلاب. حيث حدث في سوريا عام 1949 لوحدها ثلاثة انقلابات. قبل أن يأتي انقلاب الضباط الأحرار ومن بينهم عبد الناصر 1952 الذي أطاح بالملكية.

 كثرة الانقلابات في سوريا تعني أن لا علاقة لهذا الجيش بثقافة المجتمع السوري، ولا علاقة له بالاجتماع السوري. ما أنتجه هذا الانقلاب الأسدي هو إلغاء السياسة في المجتمع السوري. دمر الأحزاب والحياة الحزبية عن طريق جبهة وطنية كانت نصيحة سوفييتية!! حيث لا حول لها ولا قوة، ضمت إليها أحزاباً وهمية بعضها من صنع الأجهزة الأمنية. ومن لم تعجبه هذه الطريقة لتعطيل الحياة الحزبية والسياسية مُورس ضده القمع، فكان نصيبه الاعتقال والسجن والتجويع... والأكثر خطورة من ذلك أن هذه البوطقراطية اختزلت الوطن كله في شخص واحد، فصّلت دستوراً على مقاسه، فهو لا يخطئ ولا يستطيع أحد أن يحاسبه، يفكر عن الجميع ويتحكم بالجميع، يرسم السياسة الداخلية والخارجية. فهو القائد الملهم والحكيم المهندس الأول والمحامي الأول والطبيب الاول..الخ.

 البوطقراطية نظام اعتمد فقط على أجهزة القمع الأمنية والعسكرية وعلى الرشوة والفساد، في كل شيء. اعتمد التمييز الطائفي والإثني. وعلى سياسة الفساد في كل مناحي الحياة وفي جميع مفاصل الدولة. "سأل أحدهم محللاً سياسياً عن عوامل وأسباب استمرار سالازار في حكم البرتغال أكثر من أربعين عاماً فكان جوابه أن السبب هو وجود أكثر من مئة ألف مخبر وعنصر أمن في البرتغال، حيث كان عدد سكانها حوالي أربعة ملايين ونصف المليون نسمة في حينها فكم عنصر في سوريا وكم عدد سكانها". هذه البوطقراطية هي السبب الرئيسي والأساسي مضافا إليه الشرعية الخارجية للهولوكست الأسدي في سوريا.

من يتابع ويعرف الجيش في سوريا، يعرف أن لكل قائد لواء أو فرع أمن او فرقة عسكرية، مقرا يشبه القصور. حيث تحول كل تشكيل عسكري إلى مزرعة لقائده كما تحولت سوريا لمزرعة لقائد البوطقراطية. فعن أي ثقافة وعن أي مجتمع تتحدثون؟!

منذ عام 1967 لم يستطع صحفي سوري أن يأتي على ذكر الجيش والفساد داخله. بقي هذا الجيش هو الخط الأحمر الملاصق للأسد الأب والابن لاحقا. تستطيع في سوريا أن تتحدث عن فساد في وزارة، لكن لا تستطيع أن تتحدث عن قائد البوطقراطية وجيشه. إضفاء القداسة على الجيش ليست وليدة ثقافة المجتمع السوري بل فرضت عليه فرضا. علما أنه قبل الأسدية والبعث كانت الصحافة السورية تتحدث عن الجيش وضباطه، وخاصة في المجال السياسي أو حتى فساد بعضهم. 

في البوطقراطية يتحدثون عن أن متطوعي الجيش هم من فقراء العلويين، هذا صحيح قطعا. لكن الجيش المحترف في كل دول العالم هو مؤسسة ومن ينتمي إليها ينتمي إليها بوصفها فرصة عمل في النهاية بعيدا عن أية عقائدية كاذبة أو صادقة. فهل فرصة العمل هذه كانت متوفرة لكل أبناء سوريا في عهد الأسد البوطقراطي؟ 

قبل الأسدية وقبل عسكر البعث، كان الجيش مفتوحا لكل أبناء الشعب السوري، حيث كانت مؤسسة الجيش مفتوحة لكل السوريين. الانقلاب البوطقراطي الأسدي جعله نسبيا حكرا على طائفة محددة. ما علاقة هذا الأمر بثقافة المجتمع السوري؟ أو ما علاقة هذا بما قبل الأسدية؟ البوطقراطية الأسدية أنتجت ما يشبه القطيعة مع النسيج الاجتماعي السوري الذي انقلبت عليه بقوة القمع. حيث أسست لتهتك هذا النسيج، الذي كان لا يميز في مؤسسات الدولة. حيث تحولت القطيعة التي أسس لها الانقلاب البعثي 1963 إلى تصنيف الشعب السوري بعثي أو لا بعثي، إلى تصنيف أسدي أو لا أسدي، علوي أو لاعلوي. وتراكبت هذه التصنيفات الإقصائية مع تصنيف البعث، ومعه الناصريين، عربي أو لا عربي.

هذه لمحة سريعة عن البوطقراطية في سوريا التي أسسها وبلور شكلها الأكمل حافظ الأسد...

التعليقات (1)

    بشير الابراهيم

    ·منذ 3 سنوات 3 أشهر
    مقال رائع وصف النظام الأسدي المستبد البوطقراطي منذ انقلاب الهالك حافظ الأسد على السلطة عام 1970 بصورة صحيحة منصفة واستغلال الجيش والأمن لصالح شخص مقدس معصوم أكثر من الأنبياء وقام بجعل الجيش طائفي يقوم على فئة همها الأول حماية كرسي الرئيس.
1

الأكثر قراءة

💡 أهم المواضيع

✨ أهم التصنيفات