إسقاط اللامركزية: المعركة الأخيرة للنظام السوري

إسقاط اللامركزية: المعركة الأخيرة للنظام السوري
بعد سبع سنوات من اندلاع الصراع في سوريا، تشكلت ثلاث مناطق حكم مستقلة عن بعضها البعض. تتمتع تلك المناطق بقدر من الاستقرار وتعتمد جميعها على حماية راع إقليمي أو دولي، مع وجود درجات مختلفة من الاستقلالية عن ذلك الراعي. هكذا يمكن تصنيفها بناء على الداعمين الإقليميين والدوليين: منطقة شمال مدينة حلب المرتبطة بالراعي التركي، منطقة شمال شرق سوريا المرتبطة بالراعي الأميركي، والمنطقة الأكبر المرتبطة بالراعي الروسي.

لم يكن هذا التقسيم ممكنا قبل عامين، حيث كانت المعارك المحتدمة والمتداخلة في كل مكان تمنع إمكانية تشكل خطوط واضحة لمناطق نفوذ، لكن العامل الأهم الذي منع تشكل تلك المناطق يرتبط بسياسة محددة اتبعها النظام السوري للتعامل مع التطورات العسكرية المتسارعة منذ بداية الثورة السورية في العام 2011 وخصوصا مع ظاهرة ما يسمى بـ”المناطق المحررة”.

بمجرد أن أدرك النظام استحالة استرجاع المناطق الخارجة عن سيطرته، قرر حرمانها من أدني درجات الاستقرار. رفضت دمشق التسليم بوجود مستقل لتلك المناطق مهما كانت العواقب. تطلب ذلك استخدام مستويات مرعبة وغير مسبوقة من العنف، كاستخدام الطائرات الحربية ضد مناطق سكنية منذ منتصف العام 2012، واستخدام البراميل المتفجرة في وقت لاحق من ذلك العام، وهي سلاح بدائي محشو بكميات هائلة من المتفجرات والشظايا. يعتبر هذا السلاح عديم الفعالية على مستوى العمليات القتالية بسبب غياب نظام التوجيه الدقيق، ولكنه شديد الفعالية على مستوى التدمير العشوائي وترهيب السكان في المناطق التي كانت قد خرجت عن سيطرة النظام. تسببت البراميل التي تستهدف الأسواق الشعبية والمناطق السكنية بصورة يومية بدمار واسع وبموجات النزوح وبانتهاء فرص تشكل مناطق حكم محلية مستقرة خارج سيطرة النظام.

كانت تلك مقامرة خطرة للغاية من قبل النظام السوري إذ تسببت بارتفاع شديد في أعداد القتلى واللاجئين، وهو ما كان يمكن أن يتسبب برد فعل دولي يؤدي للإطاحة به. مع ذلك، كان على النظام أن يختار بين أقل الشرين: القبول بوجود مناطق حكم مستقرة خارج سيطرته، أو رفع مستوى التدمير والقتل وتحمل خطر التدخل الخارجي. نجحت سياسة النظام إذ تفادى كابوس المناطق المحررة من دون أن يحدث تدخل دولي بسبب التحولات الكبيرة التي كان يمر بها النظام العالمي، وأهمها تراجع دور الولايات المتحدة وصعود الدور الروسي. كما أن بروز تنظيم داعش في العراق وسوريا، في وقت لاحق، أنهى أي إمكانية بتدخل عسكري دولي لحماية المدنيين في سوريا.

ولكن، على الرغم من كل جهود النظام السوري والظروف الدولية الملائمة، لم يكن ممكنا التحكم بمجريات صراع على هذا القدر من التوسع والتعقيد، إذ نشأت في نهاية المطاف ثلاث مناطق مستقلة عن النظام وتتمتع بقدر من الاستقرار. وسع التدخل الأميركي لصالح الأكراد من مساحة الأراضي التي يسيطرون عليها ومن قوتهم، حيث نشأ نظام حكم مستقل تماما عن النظام السوري. ورغم استياء سكان تلك المناطق من نوعية الخدمات المقدمة، هنالك وعود بتمويل مشاريع جديدة عن طريق الولايات المتحدة ودول عربية كالمملكة العربية السعودية التي أعلنت قبل نحو شهرين عن تقديم مبلغ 100 مليون دولار لإعادة الإعمار والاستقرار في تلك المناطق.

في شمال مدينة حلب، نشأت مناطق تحت الرعاية التركية وذلك بعد طرد تنظيم داعش ضمن عمليات عسكرية انطلقت في العام 2016 وتواصلت حتى نهاية العام الماضي. ومنذ انتهاء المعارك تحول التواجد التركي من عسكري إلى سياسي. توسع النفوذ التركي بمرور الأيام عبر دعم مشاريع متعددة المستويات بدأت بإنشاء مجالس حكم محلية مدعومة وممولة من عدد من البلديات التركية، وتدير تلك المجالس شبكة واسعة من الخدمات الصحية والتعليمية والأمنية والاقتصادية والقضائية. ورغم وجود حكومة سورية مؤقتة خاضعة للمعارضة السورية ومتواجدة في تركيا، إلا أن دورها بما يخص إدارة المناطق الخاضعة للنفوذ التركي أصبح هامشيا للغاية.

سارت الأمور إذن في النهاية بعكس رغبة النظام السوري. فرغم تبدل الظروف لصالح الأخير خلال الأعوام الماضية، وانتهاء خطر سقوطه وتقلص مناطق سيطرة المعارضة بصورة كبيرة حتى اقتصرت على شمال مدينة حلب، يبدو النظام خاسرا وفق حساباته الخاصة. ذلك أن هدفه لا يتعلق بتجنب السقوط والبقاء في الحكم بأي صورة، بل البقاء بصورة محددة تماما وهي السيطرة المركزية وفرض سلطة الدولة وأجهزتها الأمنية على كل بقعة من أقصى البلاد إلى أقصاها.

بهذا المعنى تتركز المعركة اليوم على تكريس أو عكس هذا الواقع الذي يمثل تهديدا شديدا للنظام السوري. تحاول الولايات المتحدة وتركيا تحويل مناطق النفوذ الثلاث إلى اتفاق سياسي، بل وأن يكون الدستور الجديد للبلاد ضامنا ومشرعا لوجودها، وربما لوجود غيرها، من خلال التأكيد على مبدأ اللامركزية. كما تبدي روسيا مرونة نسبية تجاه قبول لامركزية النظام السوري، مقابل خروج الولايات المتحدة بصورة كاملة ونهائية من سوريا.

لكن للنظام السوري حسابات أخرى إذ أنه وبقدر اهتمامه بخروج الولايات المتحدة لن يقبل بأن يكون ذلك على حساب تراجع سلطته وتكريس ذلك التراجع في الدستور الجديد للبلاد. يفسر ذلك تأكيد وزير الخارجية السوري وليد المعلم، قبل يومين خلال لقائه مبعوث الأمم المتحدة ستيفان دي ميستورا على أن مسألة الدستور هي “مسألة سيادية”، ورفض التدخل الخارجي بهذا الشأن. انطلاقا من تلك الحسابات المختلفة، ربما يكثف النظام السوري خلال الفترة القادمة من محاولات إنهاء اتفاقيات خفض التصعيد التي تشكل الضمانة الوحيدة لاستقرار مناطق شمال حلب، وذلك من خلال شن عمليات عسكرية محدودة بذريعة مواجهة التنظيمات الجهادية.

التعليقات (0)

    0

    الأكثر قراءة

    💡 أهم المواضيع

    ✨ أهم التصنيفات