الغوطة الشرقية.. فن في زمن الحرب والحصار

الغوطة الشرقية.. فن في زمن الحرب والحصار
على طاولة خشبية تطفو على سطحها مخلفات الحرب، وسط غرفة معتمة لا يشق ظلمتها سوى ضوء خافت، يعين عيني (أبو علي) المجهدتين في التركيز لإتقان لعبة، يسعى الرجل الأربعيني من خلالها أن يرسم ابتسامة على وجه طفل حطمت فؤاده الحرب.

"أمنيتي أن يرسم ما أصنعه الابتسامة على وجه كل من يرى عملي، خصوصاً من كان محطماً نفسياً من آثار الدمار والحصار" يقول (أبو علي البيطار) أحد أبناء الغوطة الشرقية المحاصرة في ريف دمشق، وقد امتهن دون دراسة أكاديمية تحويل أدوات الموت والقصف التي تستخدمها قوات نظام الأسد في قتل أبناء منطقته إلى أشكال فنية تعبيرية تعبر عن الأمل والفرح.

صواريخ طائرات وفوارغ طلقات نارية مختلفة الأحجام تتحول لأراجيح وألعاب أطفال وشجر نخيل وتحف فنية، فكل شيء في المنطقة هنا يذكر بمآسي الحرب ولا مهرب منها، جراء الحصار، يقول أبو علي ويزيد، أجمع ما يقتلنا لأبعث بعض الأمل في نفوس الضحايا. هنا تعايشنا مع الحرب ومخلفاتها، وهنا نقاوم بصنع مزيد من الأمل.

وبينما يرتبط ازدهار الفنون بمختلف أشكالها بالحضارة والسلام والهدوء وأحياناً بالرخاء الاجتماعي، فالإبداع والمواهب الفنية الراقية تحتاج لحس ٍ مرهف يفجر المواهب الإنسانية، يعبر عن مجتمعه وبيئته بالفنون المتنوعة كالرسم والمسرح والعزف أو الإنشاد، كلُ بحسب ما أوتي من موهبة تميزه عن غيره؛ لكن في الحروب قد يختلف الأمر لاسيما مع توجه الفنون نحو التعبير عما تفرزه الحروب من مآسي وويلات أو حتى أحياناً تنبع الفنون من أشياء إبداعية تعبر عن تحدي الواقع بتفاصيله الصعبة، ففي الغوطة الشرقية مثلاً ظهر فنانون محليون لم يمارسوا العمل الفني من قبل؛ بل في معظم الأحيان كانت أعمالهم الفنية محض صدفة ثم تطور الأمر لتقديم أعمالٍ فنية مميزة.

(حسن 39 عاماً) يقيم في مدينة دوما، ولم يكن يفكر في يوم من الأيام بالعمل الفني، إلا أنه بدأ مؤخراً بصناعة لوحات فنية تعبيرية بواسطة ألواح العزل أو ما يعرف محلياً بمادة (الفلين) بطريقة إبداعية مميزة، خصوصاً بعد إضفاء بعض اللمسات التي تشد الناظر لها.

يقول حسن لأورينت نت: "من الصعب جداً أن يجتمع الحرب والفن، أردت أن أجسد واقع الثورة وما يرتكبه النظام من انتهاكات بحق الأهالي من مجازر، فضلاً عن واقع الحصار الذي تعيشه بلدتي بواسطة مادة الفلين" مضيفاً "لم تكن هذه المهنة مهنتي الأصلية، بل امتهنتها مصادفة، فقمت بجمع هذه الألواح وصنعت جهاز حراري خاص لقصها، وذلك بإمكاناتي البسيطة لسهولة التعامل مع الالواح، ثم قمت بصناعة لوحات فنية تعبيرية بأحرف نافرة. أضيف إليها بعض الألوان لتتحول إلى أشياء جميلة، وشيئاً فشيئاً طورت العمل وأصبحت أعد لوحات منوعة تحاكي الواقع، أردت أن أرسل رسالة من خلالها لما نعانيه".

مواهب أخرى كثيرة ظهرت مؤخراً في الغوطة الشرقية المحاصرة منذ خمس سنوات والتي تتعرض لقصف شبه يومي، بعض أفكار تلك المواهب كانت نابعة من الظروف المحيطة للتعبير عن تحدي القصف والحصار والتي هي أمور تفضي للبؤس والشقاء أو حتى الموت. 

ولم تكن الفئة المثقفة في مناطق الحصار في الغوطة غائبة عن الساحة الفنية التعبيرية؛ بل ظهرت عدة مواهب لاسيما على صعيد الرسم للتعبير عن مأسي الحصار والقصف، سواء بطريقة الرسومات الكاريكاتورية أو اللوحات الفنية البسيطة، ولعل الأمر لم يقتصر على دور الرجال فقط؛ بل كان للسيدات أيضاً دورهن البارز في الأعمال الفنية، فالسيدة (ماجدة 53 عاماً) والمقيمة في مدينة دوما، اتخذت من الرسم أداة لتوثيق جرائم النظام بحق الأهالي وسبيلاً لنقل معاناتهم داخل الحصار الذي يشتد تدريجياً على المنطقة.

توضح (ماجدة) في لقائها مع أورينت نت، أن هدفها من الرسم يتمثل بتوثيق أحداث الثورة والمعاناة بلوحات فنية، لتصبح كل لوحة تحكي قصة من قصص الثورة ومعاناة أناس لم يجدوا من يقف إلى جانبهم أو ينتشلهم من جحيمهم.

تمتلئ جدران منزل السيدة (ماجدة) باللوحات التي رسمتها على مدى الأعوام الماضية، فكل لوحة شاهدة على مجزرة أو تمثيل لأرواح ملونة أصحابها رحلوا. 

وقد يكون للمجتمع المحلي المحافظ هنا دوره في عدم ظهور كثيرٍ من السيدات في أعمال فنية ينشطن بها؛ إلا أن بعضهن الآخر أظهر إبداع في نشاطات أخرى كالسيدة (سهام) والتي تعمل معلمة في إحدى بلدات المنطقة المحاصرة، وقد كانت مدربة ومخرجة لعمل مسرحي باللغة الإنكليزية، لعب أدوارها مجموعة من الأطفال في أكثر المناطق قصفاً في الغوطة، حيث استطاعت تدريبهم ليقدموا مسرحية "سنو وايت" أو بياض الثلج أمام جمهور حاشد من الأهالي.

(أبو علي) يطمح لإقامة معرض فني يعرض ما صنعه، إلا أن التكاليف المادية التي يعجز عنها تعترض طريقه الفني، كذلك سهام وماجدة السيدة المسنة، كلهم محاصرون بإطار ينظرون من بين ثناياه إلى عالم لم يبد حتى اللحظة اهتماماً بلوحة من دم!

التعليقات (0)

    0

    الأكثر قراءة

    💡 أهم المواضيع

    ✨ أهم التصنيفات